الفصل السابع

وفي الحُجرة التقى ك بالمعلم. وكانت فريدا قد نشطت في إعداد الحُجرة حتى كاد ألا يعود من الممكن التعرُّف عليها. فأحسنت تهويتها، ونظَّمت السرير، وأبعدت حاجيات الخادمتين — تلك الكراكيب المقيتة، بما فيها من صور — وفرشت على المنضدة مفرشًا أبيض اللون مشغولًا، وكانت تلك المنضدة، بقرصها الذي كوَّنت القذارة عليه طبقة صُلبة، تحملق في الإنسان أينما ذهب. أما الآن فقد أصبح من الممكن استقبال الضيوف. إلا أن ملابس ك الداخلية القليلة، التي يبدو أن فريدا قد غسلتها، ونشرتها إلى المدفأة لتجفَّ، كانت تسيء إلى رونق الحجرة قليلًا. كان المعلم وفريدا يجلسان إلى المنضدة، ونهضا واقفَين عندما دخل ك. وحيَّتْ فريدا ك بقُبلةٍ، أما المعلم فقد انحنى قليلًا. واعتذر ك، وكان تائه الفكر مُضطرب النفس بعد الحديث مع صاحبة الحان؛ لأنه لم يستطع أن يزور المعلم حتى الآن، وكأنه افترض أن المعلم قد فرغ صبره لعدم زيارة ك له، فأتى يزوره بنفسه. أما المعلم فيبدو أنه تذكَّر شيئًا فشيئًا، بطريقته الكريمة، أن شيئًا يشبه الزيارة قد جرى الاتفاق بينهما عليه ذات مرة. فقال ببطء: إنك أنت، يا حضرة موظف المساحة، الغريب الذي تكلمت معه قبل بضعة أيام في ميدان الكنيسة!

فقال ك باختصار: نعم.

لقد أصبح عليه أن يرضى هنا في حجرته بما كان قد سكت عنه قديمًا في عزلته. وتحوَّل إلى فريدا وتشاور معها في أمر الزيارة الهامة التي كان يريد أن يقوم بها من فوره والتي كان يريد أن يذهب إليها وهو يلبس أحسن ما يُمكن أن يلبسه. ونادت فريدا في الحال، ودون أن تسأل ك المزيد، على المُساعدَين، وكانا مشغولَين بتفحُّص المفرش المشغول، وأمرتهما بأن ينظفا ثياب ك وحذائه الطويل تنظيفًا مُتقنًا في الفناء السفلي، وكان ك قد بدأ يخلعها. أما هي فقد أخذت قميصًا من الغسيل المنشور على الحبل وأسرعت إلى المطبخ لتكويه.

وأصبح ك الآن وحدَه مع المعلِّم الذي كان يجلس هادئًا إلى المنضدة وتركه ينتظر قليلًا، وخلع القميص، وبدأ يغتسل عند الحوض. وبدأ، وهو يُوليه ظهره، يسأله عن سبب قدومه.

وقال المعلم: لقد أتيت بتكليفٍ من رئيس مجلس القرية.

وكان ك مستعدًّا للاستماع إلى التكليف الذي أتى به المعلم. ولما كانت كلمات ك لا تصل إلى المعلم واضحةً نتيجة لانهمار الماء، حتى صعب عليه فهمُها، فقد اضطرَّ المعلم إلى الاقتراب والارتكان إلى حائط قرب ك. واعتذر عن اغتساله، وعن اضطرابه، مُبررًا ذلك بأن الزيارة التي ينوي القيام بها مُلحَّة. وعبر المُعلم على هذا الكلام تعبيرًا وقال: لقد كنتَ قليل الأدب حيال السيد رئيس مجلس القرية، وهو الرجل المسن الجليل صاحب الأفضال كثيرة الخبرة.

فقال ك وهو يجفف نفسه: لا أعرف أنني كنتُ قليل الأدب حياله. أما أنَّني كنتُ مُضطرًّا للتفكير في أشياء أخرى غير السلوك المهذب، فهذا صحيح؛ لأن الموضوع كان يدور حول وجودي الذي تُهدِّده تدبيرات دنيئة تسترسل فيها الدواوين، ولا حاجة بي إلى ذِكر تفصيلاتها أمامك، فأنت عضو عامل في هذه الدواوين! هل شكا رئيس القرية من مسلكي؟

فقال المعلم: ولمَن يشكو؟ وحتى لو كان هناك مَن يشكو له، فهل يُمكن أن يشكو رئيس القرية؟ كل ما في الأمر أنني كتبتُ محضرًا صغيرًا عن مُحادثتك — اعتمادًا على ما أملاني من بيانات — ومنه علمت غير قليل عن طيبة السيد الرئيس وعن نوع إجاباتك.

وقال ك، وهو يبحث عن المشط الذي لا بدَّ أن فريدا وضعته وهي تُرتب الحجرة في مكانٍ ما غير الذي كان به: كيف هذا؟ ما هذا المحضر؟ أهكذا يقوم شخص لم يكن موجودًا أثناء المحادثة بكتابة محضر في غيابي ويَجري ذلك بعد انتهاء المحادثة؟ هذا شيء جميل. ولماذا المحضر؟ هل كان هذا إجراءً رسميًّا؟

فقال المعلم: لا، إنه إجراء نصف رسمي، إنه أيضًا نصف رسمي. ولقد كتبناه لأنَّ كل شيء لدينا يسير في نظام دقيق. والمهم أن المحضر موجود، وإنه لا يشرفك.

وقال ك على نحو أكثر هدوءًا، وكان قد انزلق إلى السرير، ووجد المشط الذي طال بحثه عنه: ليكن المحضر موجودًا. فهل أتيت لتُخبرني بذلك؟

فقال المعلم: لا، ولكني لستُ آلة أوتوماتيكية، ولهذا أتيت لأقول لك رأيي. أما التكليف الذي أتيت به، فهو دليل آخر على طيبة السيد الرئيس. وأنا أؤكِّد أن هذه الطيبة من الأمور التي لا أستطيع فهمها، وإنني لا أنفذ التكليف إلا تحت ضغط مركزي وإجلالي للسيد الرئيس.

وكان ك قد فرغ من الاغتسال وتمشيط شَعره، وجلس إلى المنضدة ينتظر قميصه وثيابه، ولم يكن مُشتاقًا لمعرفة ما أتى المعلم به إليه، وكان مُتأثرًا برأي التحقير الذي عبَّرت عنه صاحبة الحان حيال الرئيس. وقال ك وهو يُفكر في المشوار الذي اعتزم عليه: يبدو أن الوقت تجاوز الظهر؟

ثم أصلح التعبير وقال: لقد كنت تُريد أن تبلغني شيئًا من الرئيس.

فقال المعلم وهو يهزُّ كتفَيه وكأنه ينفض عن كاهله كل مسئولية ذاتية: نعم. إنَّ السيد الرئيس يخشى، إذا تأخر حسم مسألتك، أن تقوم بنفسك بعملٍ متهور. وأنا، عن نفسي، لا أفهم لماذا يخشى هذا. والرأي عندي أن الأفضل أن تفعل ما تُريد. فنحن لسنا حُفَّاظًا عليك، وليس علينا واجب الجري وراءك ووراء مساعيك. النهاية. السيد الرئيس يرى رأيًا آخر. إن القرار الحاسم لمسألتك، قرار من شأن الدواوين الأميرية، وهو بطبيعة الحال لا يستطيع استعجاله. ولكنه يُريد أن يتَّخذ، في إطار صلاحياته، قرارًا مُؤقتًا، كريمًا بحق، ولك أنت وحدك أن تقبله. إنه يعرض عليك مُؤقتًا وظيفة خادم مدرسة.

ولم يَكَد ك يهتمُّ في أول الأمر بما عُرض عليه، ولكنه رأى أن مجرد عرض شيء عليه شيء لا يتجرَّد من الأهمية. إن ذلك يدل على أنه، حسب رأي الرئيس، يستطيع في سبيل الدفاع عن نفسه أن يفعل أشياء ينبغي على مجلس القرية أن يبذل جهودًا معينة حيالها ليقيَ نفسه. وإنه ليدلُّ على الاهتمام بالموضوع. ولا بد أن المُعلم، الذي انتظر هنا طويلًا، والذي كتب قبل ذلك المحضر، قد أتى إلى هنا يدفعه الرئيس إلى ذلك دفعًا. وما إن رأى المعلِّم أنه قد حمل ك على التفكير حتى استمر في حديثه قائلًا: ولقد اعترضت أنا على ذلك. فأشرت إلى أنه لم تكن هناك حتى الآن حاجة إلى خادم للمدرسة؛ فالسيدة زوجة خادم الكنيسة تُنظم المدرسة من حينٍ لآخر تحت إشراف الآنسة جيزا المعلمة. وأنا ألقى العذاب مع الأولاد، ولا أريد أن يتسبَّب لي تعيين خادم للمدرسة في مزيد من الغيظ. وأجاب السيد الرئيس بأن المدرسة قذرة جدًّا. فرددتُ عليه قائلًا إن الحقيقة توجب علينا أن نُقرِّر أن القذارة ليست شديدة. وأضفت: وهل سيتحسَّن الحال عندما نُعيِّن رجلًا خادمًا للمدرسة؟ لا، بكل تأكيد. فبغض النظر عن أنه لا يفهم في هذه الأعمال، تتكوَّن المدرسة من فصلين اثنين كبيرين، بلا حجرات إضافية، ومعنى هذا أن خادم المدرسة سيقيم بالضرورة مع عائلته في أحد الفصلَين فيكون فيه النوم وربما الطبخ، ولا يُمكن بطبيعة الحال أن يُؤدي هذا إلى مزيد من النظافة. ولكن السيد الرئيس أشار إلى أن هذه الوظيفة نجدة لك في المِحنة، وأنك ستبذل كل جهد لتحسن القيام بها. وأشار الرئيس كذلك إلى أننا سنَكسِب معك كذلك جهود زوجتك ومساعدَيك مما سيُؤدِّي إلى أن المدرسة بل وحديقة المدرسة كذلك ستكونان في نظام مثالي. ولكني نقضَت هذا الرأي بسهولة. وأخيرًا لم يستطع السيد الرئيس أن يذكر شيئًا آخر في صالحك، وضحك وقال إنك موظَّف مساحة وإنك ستتمكَّن لذلك من تخطيط الأحواض في الحديقة تخطيطًا مستقيمًا جميلًا. وليست هناك بطبيعة الحال وسيلة للاعتراض على النكت، ولهذا خرجتُ محمَّلًا بالتكليف إليك.

فقال ك: إنك يا حضرة المعلم تُسبِّب لنفسك همًّا لا داعيَ له، فلا يمكن أن يخطر ببالي أن أقبل هذه الوظيفة.

فقال المعلم: عظيم! عظيم! إنك ترفض بلا تحفظٍ.

وتناول المعلِّم القبَّعة وانحنى وانصرف.

وأتت فريدا بعد قليل ترتسم الحيرة على وجهها، وأعادت القميص دون كي، ولم تجب على أسئلة ك. وأراد ك أن يسرِّي عنها فحكى لها عن المعلم والعرض الذي أتى به. وما كادت تسمع ذلك حتى ألقت القميص على السرير وانصرَفت مرةً أخرى. ثم عادت، عادت بصحبة المعلم الذي كان يبدو غاضبًا ولم يُسلم. ورجته فريدا أن يأخذ نفسه بشيء من الصبر — ويبدو أنها كانت قد توجَّهت إليه بالرجاء نفسه عدة مرات وهما في الطريق إلى هنا — ثم جرَّت ك من خلال باب جانبي لم يكن ك يعرف عنه شيئًا إلى سطحٍ مُجاور وحكت له، وقد انتهى أمرها إلى الانفعال وضيق التنفس، عما حدث لها. فقد غضبت صاحبة الحان لأنها أذلَّت نفسها باعترافاتها ﻟ ك، وأكثر من ذلك باستسلامها له في موضوع تدبير مقابلة مع كلم. ثم لم تصل بذلك كما قالت، إلى شيء، وتعرضت فوق ذلك لصدود فاتر ولئيم، وقررت ألا تستمر في قبول وجود ك في دارها. وقالت له إذا كانت له صلات بالقصر فليُفِد منها اليوم بسرعة؛ لأنَّ عليه أن يترك الدار اليوم، بل الآن، ولن تعود صاحبة الحان إلى قبوله للسُّكنى لديها إلا بأمرٍ رسمي وإكراه مباشر. وقالت إنها تأمُل ألا يصل الأمر إلى هذا الحد؛ لأنها هي أيضًا لها صلاتها بالقصر وستعرف كيف تجعلها تتصرَّف. وأضافت أنه إنما نزل في الحان نتيجةً لإهمال صاحب الحان، ثم إنه تشدَّق صباح اليوم أمامها بأن هناك مكانًا للنوم جاهزًا تحت تصرُّفه. أما فريدا فلها أن تبقى بطبيعة الحال، وإنها — أي صاحبة الحان — ستكون تعيسة تعاسة عميقة إذا خرجت فريدا مع ك، وستظلُّ هي الآن المرأة المسكينة التي تعاني من مرض القلب، في المطبخ تُفكر وتبكي خائرة بجانب الفرن. ولكن كيف يمكنها أن تتصرَّف على نحوٍ آخر والأمر، على الأقل في تصوُّرها، يمسُّ كرامة ذِكرى كلم مباشرة؟ هذا هو موقف صاحبة الحان. أما هي، فريدا، فستتبع ك حيثما ذهب في الثلوج الهاطلة والجليد المُتراكم، وما يحتاج هذا بطبيعة الحال إلى تأكيده بكلام، ولكن وضعها على أية حال وضع سيئ جدًّا، لهذا فقد استحسنَت عرْض المعلم ورحَّبت به بفرح كبير، وإذا كانت الوظيفة غير مناسبة ﻟ ك، فقد جاء في العرض بوضوح أنها وظيفة مؤقَّتة، ما عليهما إلا أن يكسبا الوقت، وسيجدان بسهولة إمكانية أخرى حتى إذا جاء القرار النهائي الحاسم في غير صالح ك. وأخيرًا صاحت فريدا وقد تعلقت برقبة ك: وإذا اضطُررنا فلنهاجر، فماذا يستبقينا في القرية؟ وعلينا يا حبيبي أن نَقبل العرض مؤقَّتًا. ولقد أوعدت المعلم فقل له «موافق» لا أكثر، ولننتقِل إلى المدرسة.

وقال ك: هذا شيء قبيح!

ولم يقصد ما قاله بجدٍّ تامٍّ لأن موضوع السكن لم يكن يهمه إلا قليلًا، وكان إلى جانب هذا يَرتعد من شدة البرد وهو في ملابسه الداخلية فقط على هذا السطح الذي كان يتعرَّض دون ما ساتر من حائط أو شباك إلى ريح باردة قارسة. ثم أكمل: لقد أحسنتِ ترتيب الحجرة الآن، ثم نُضطرُّ الآن إلى تركها! إنَّني لا أستطيع أن أقبل هذه الوظيفة إلا كارهًا، كارهًا، وإن ضعتنا الحالية أمام هذا المعلم الصغير لتحزُّ في نفسي، ولسوف يصبح هذا رئيسي. ليتنا نستطيع أن نبقى هنا هنيهة، فلعل وضعي يتغيَّر عصر اليوم. وإذا كان من المُمكن أن تبقى أنت على الأقل هنا، فيُمكننا الانتظار ويمكننا أن نعطي المعلم إجابة غير محدَّدة. أما أنا فسأجد مكانًا أنام فيه، وإن احتاج الأمر، عند برنا.

وهنا سدَّت فريدا فمه بيدها وقالت خائفةً: إلا هذا! لا تقلْ هذا مرةً أخرى! إنني أتبعك في كل شيء إلا هذا! سأبقى، إذا أردت، هنا وحدي، وإن كان هذا يحزنني أشد الحزن. وإذا أردت فلنرفض الطلب وإن كنا بذلك نتصرَّف، في رأيي، تصرفًا شديد الخطأ؛ ذلك أنك إذا وجدت إمكانية أخرى، وليكن ظهر اليوم، فلنا بطبيعة الحال أن نترك المدرسة، ولن يمنعنا أحد. أما فيما يختص بضعتنا أمام المعلم، فدعني أتصرف حتى لا تكون كذلك، وسأتكلَّم أنا معه، وقف أنت صامتًا بجانبنا، ولن يكون عليك في المستقبل أن تتصرف حياله على نحو آخر، لن يكون عليك، إن لم تشأ، أن تتكلَّم معه، وسأكون أنا في الحقيقة العاملة تحت إمرته، بل لن أكون حتى أنا؛ لأنَّني أعرف نواحي الضعف فيه، وهكذا فإننا لا نخسر شيئًا إن قبلنا الوظيفة، بل إننا لنخسر الكثير إذا رفضناها، فإنك لن تجد، ولا حتى لك وحدك، مكانًا للنوم في القرية، مكانًا للنوم لا أخجل منه باعتباري زوجتك في المستقبل. وإذا أنت لم تجد مكانًا تنام فيه، فهل يُمكن أن تطلب مني أن أنام هنا في الحجرة الدافئة، بينما أنا أعلم أنك تهيم على وجهك في الليل والبرد؟

وقال ك الذي كان يضع ذراعيه متقاطعتين على صدره ويضغط بكفَّيه على ظهره التماسًا لقليل من الدفء: إذن فليس أمامنا إلا أن نُوافق. تعالَي.

فلمَّا دخلا الحجرة أسرع إلى المدفأة، ولم يهتمَّ بالمعلِّم الذي كان يجلس إلى المنضدة ثم أخرج ساعته وقال: لقد تأخَّر الوقت.

فقالت فريدا: ولكننا اتَّفقنا تمامًا الآن يا حضرة المعلم. إننا نقبل الوظيفة.

فقال المعلم: حسنٌ. ولكن الوظيفة معروضة على السيد موظَّف المساحة. وينبغي عليه هو أن يتكلم.

وساعدت فريدا ك قائلةً: طبعًا. إنه يقبل الوظيفة. إنك تقبلها يا ك؟

وهكذا استطاع ك أن يحصر تعبيره عن رأيه في مجرَّد كلمة «نعم» التي لم يوجهها إلى المعلم بل إلى فريدا. وقال المعلم: بقي هناك شيء، وهو أن أوضِّح لك واجباتك في الوظيفة حتى ينتهي اتفاقنا مرةً واحدة. عليك، يا حضرة موظَّف المساحة، يوميًّا أن تنظِّف فصلَي المدرسة، وأن تدفئهما، وأن تقوم بالإصلاحات الصغيرة في المبنى وفي معدَّات التعليم والرياضة بنفسك، وأن تخلي الطريق خلال الحديقة من الجليد، وأن تقوم بالمشاوير التي أكلفك بها أو تكلفك بها الآنسة المدرِّسة وأن تتولى في وقت الدفء أعمال الحديقة كلها، ولك نظير ذلك، الحق في أن تسكن في أحد الفصلَين حسب اختيارك، ولكن ينبغي عليك، إذا لم يكن الفصلان مشغولين، وكان الفصل الذي تسكن فيه هو بالذات المطلوب للتدريس، أن تُغادره وتقيم في الفصل الآخر. وليس مسموحًا لك بالطبخ في المدرسة، وسيتكفل مجلس القرية بطعامك وطعام أسرتك في الحان. أما أنه عليك أن تسلك سلوكًا يتناسَب مع كرامة المدرسة، وإنه لا يصح أن يشاهد التلاميذ من حياتك المنزلية مناظر نابية فشيء لا أذكره إلا بصفة ثانوية، فأنت رجل متعلِّم ولا بد أن تعرف هذا من تلقاء ذاتك. وأحب أن أشير في هذا المقام إلى أنه ينبغي عليك أن تجعل علاقتك بالآنسة فريدا في أقرب وقتٍ مُمكن علاقة شرعية. وسوف يُحرَّر عقد يشمل هذه الأمور كلها وبعض الأمور الصغيرة الأخرى، وسيكون عليك أن توقِّعه عندما تنتقل إلى المدرسة مباشرة.

ولاح هذا كلُّه في نظر ك غير ذي أهميةٍ. وكأنما لم يكن فيه ما يعنيه أو على أية حالٍ ما يربطه. وكانت عجرفة المعلم هي الشيء الذي أثاره … وقال ك بغير اكتراثٍ: نعم، هذه هي الواجبات العادية.

وأرادت فريدا أن تمحو شيئًا من أثر هذه الملاحظة فسألَت عن المرتَّب. فقال المعلم: أما مسألة دفع مرتَّب فلن يبدأ التفكير فيها إلا بعد انقضاء فترة اختبار مدتها شهر.

وقالت فريدا: سيكون هذا صعبًا علينا. أنَتزوَّج بغير مال تقريبًا؟ أَنخلُق من العدم ما نحتاج إليه في حياتنا؟ ألا يمكننا، يا حضرة المعلم، أن نتقدَّم بمذكرة إلى مجلس القرية نرجو فيها صرف مرتب صغير عاجل؟ أتنصحنا بذلك؟

فقال المعلم وكان يوجه كلامه دائمًا إلى ك: لا، إن مثل هذه المذكرة لا يُمكن أن تؤدي إلى نتيجة إلا إذا أوصيت أنا بذلك، وأنا لن أوصي. وما تقديم الوظيفة إليك إلا جميل، وما ينبغي أن يبالغ الإنسان في صُنع الجميل إذا أراد أن يظل واعيًا بالمسئولية العامة.

وهنا تدخَّل ك قائلًا: أما فيما يختصُّ بصنع الجميل، يا حضرة المعلم، فأنا أعتقد أنك تخطئ، فصانع الجميل هو أنا.

فقال المعلم مُبتسمًا لأنه اضطر ك إلى الكلام: لا. وأنا أعرف الأمر أدقَّ المعرفة. إن حاجتنا إلى خادم المدرسة مثل حاجتنا إلى موظَّف المساحة. إن خادم المدرسة وموظف المساحة كلاهما ثقل معلَّق في عنقنا. ولسوف أجهد فكري إجهادًا كبيرًا لأتوصل إلى أسبابٍ أبرِّر بها هذه المصروفات أمام مجلس القرية. والأفضل والأقرب إلى الحقيقة أن أُلقي بالطلب على المنضدة أمام المجلس وألَّا أبرِّر شيئًا.

وقال ك: وهذا هو الرأي الذي أراه أنا أيضًا. ينبغي عليك أن تقبَلني ضد إرادتك. ينبغي عليك أن تقبَلَني على الرغم من أن ذلك يتسبَّب لك في كثير من التفكير العسير. وإذا كان هناك إنسان يُضطرُّ إلى قبول آخر، وإذا كان هذا الآخر يسمح بأن يقبل، فإنه هو الذي يصنع الجميل.

فقال المعلم: شيءٌ غريب. وما هذا الذي يمكن أن يضطرَّنا إلى قبولك؟ إنَّ قلب الرئيس الطيب، المفرط في الطيبة هو الذي يضطرُّنا. وإنني لا أرى يا حضرة موظَّف المساحة، أنه ينبغي عليك أن تَنصرِف عن بعض الخيالات قبل أن تُصبح خادمًا نافعًا للمدرسة. ومثل هذه الملاحظات التي تتقدَّم بها لا يُمكن أن تؤدي بطبيعة الحال فيما يتعلَّق بمنحك مرتب إلى خلْق الجو المناسِب إلا قليلًا. هذا إلى أنني أتبيَّن للأسف أن سلوكك سيتسبَّب لي في المتاعب. فأنت تتباحَث معي طوال الوقت وأنت لا تلبس سوى الملابس الداخلية، وإنني لأنظر إليك هكذا المرة تلو المرة ولا أكاد أصدِّق.

فقال ضاحكًا وهو يصفق: نعم. ما أبشعَ المساعدَين! أين هما؟

– وأسرعت فريدا إلى الباب. وتبيَّن المعلم أنه لم يَعُد من الممكن الحديث إلى ك، فسأل فريدا متى ستَنتقِل للسُّكنى في المدرسة. فقالت: اليوم.

فقال المعلم: إذن فسأحضر صباح الغد مبكرًا للتفتيش.

ولوَّح بيده للتحية، وأراد أن يخرج من الباب الذي فتحَتْه فريدا لتخرج هي منه، فاصطدم بالخادمتَين اللتين أتيتا بحاجياتهما للإقامة من جديد في الحجرة. واضطرَّ المعلم إلى أن ينفذ من بينهما، فما كانتا لترتدَّا مهما كان مَن يواجههما، وتبعته فريدا. وقال لهما ك، وكان في هذه المرة راضيًا عنهما كل الرضاء: إنكما على عجلٍ. إننا لا نزال هنا، ومع ذلك فأنتما تأتيان بحاجياتكما لتُقيما في الحُجرة؟ فلم يجيبا وحرَّكتا صرتي الحاجيات مضطربتَين ورأى ك الأسمال القَذِرة المعروفة تتدلَّى منهما. وقال: إنَّكما على ما يبدو لم تغسلا ملابسكما من قبلُ قط.

ولم يَقُل ك هذا الكلام غاضبًا، بل قاله على نحوٍ فيه شيء من العاطفة ولاحظت الخادمتان منه ذلك وفتَحَتا في وقتٍ واحد فمهما القاسي وأبرزتا أسنانهما الجميلة القوية الحيوانية وضحكتا بلا صوتٍ. وقال ك: ادخلا، ورتِّبا أشياءكما في الحجرة، فهي حجرتكما.

ولكنهما كانتا مترددتَين — ولعل الحجرة بدَت لهما مُتغيرة تغيرًا شديدًا — فأمسك ك إحداهما بذراعها ليقتادها. ولكنه تركها من فوره. لشدة الدهشة التي ارتسمَت على نظرتهما التي ركَّزتاها — بعد تفاهُم سريع بينهما — على ك ولم تُحوِّلاها عنه. وقال ك وهو يحاول أن يرد عنه إحساسًا كريهًا: لقد نظرتما إليَّ بما فيه الكفاية.

ثم تناول الثياب والأحذية الطويلة التي أحضرتها فريدا، ومن ورائها المساعدان يتبعانها في خجلٍ. وكان ك لا يفهم ولم يفهم في هذه المرة أيضًا، لماذا تعامل فريدا المساعدين بهذه الأناة. وكانت فريدا قد وجدت المساعدَين بعد طُول بحثٍ، يجلسان هادئَين ويتناولان طعام الغداء، وكان المفروض أن يُنظِّفا الثياب، ولكنهما كوراها على حجرَيهما، وأصبح عليها أن تُنظِّف هي كل شيء بنفسها، وعلى الرغم من ذلك فلم تتشاجَر فهي التي تعرف كيف تتحكَّم في نفسها مع الرعاع، وأخذت تحكي، في وجودهما، عن إهمالهما، وكأنها تحكي عن نكتة، بل إنها ربَّتت على خدِّ أحدهما ربتًا رقيقًا وكأنها تُداعبه. وقرر ك أن يُوبِّخها على ذلك في أول فرصة، أما الآن فكان وقت الانصراف قد أزف. وقال ك: على المساعدَينِ أن يبقيا هنا ليساعداك على الانتقال.

ولم يكن المساعدان موافقَين على ذلك، لقد كانا بعد الشبع والبهجة يرجوان القيام بشيء من الحركة، وقالت فريدا: ستبقيان هنا بكل تأكيدٍ.

فانصاعا لها، وسأل ك: أتعرفين إلى أين أنا ذاهبٌ؟

فقالت فريدا: نعم.

فقال ك: ومع ذلك فأنت لا تمنعينني.

فقالت: ستلقى الكثير من العقبات. وهل تفيد كلماتي؟

وقبَّلت ك مودعةً، وأعطته ربطة فيها خبز وسجق كانت قد أحضرتهما معها من أسفل لأنه لم يكن قد تناول طعام الغداء، وذكرته بأنه ينبغي عليه أن يعود إلى المدرسة مباشرةً، ورافقته واضعة يدها على كتفِه حتى خرج من الباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤