الفصل التاسع
وانتزع نفسه وعاد إلى المبنى، ولم يسرِ في هذه المرة بحذاء الجدار بل اجتاز الجليد، وقابل في المدخل صاحب الحان الذي حيَّاه صامتًا وأشار له إلى باب قاعة الخمَّارة، فاتَّبع ك إشارته لأنه كان يرتعد من شدة البرد، ولأنه كان يريد أن يرى أناسًا، ولكنه أصيب بخيبة شديدة لأنه لم يرَ هناك سوى السيد الشاب يَجلس إلى منضدة صغيرة يبدو أنها وُضعت خصوصًا له؛ لأنهم كانوا يكتفُون في الحان عادةً بالبراميل، وكانت صاحبة حان الجسر تقف أمامه. وكانت بيبي مُعتزةً بنفسها، تميل برأسها إلى الخلف، وتبتسم ابتسامتها المعهودة تعي كرامتها وعيًا لا نقضَ له، وتهزُّ ضفيرتها في كل حركة تأتي بها، وكانت تسرع وتسرع، لتأتي بالبيرة ثم بالحبر والريشة؛ لأنَّ السيد كان قد بسط أمامه أوراقًا وأخذ يقارن البيانات التي كان يجدُها تارةً في هذه الورقة وتارةً في تلك الورقة عند نهاية المنضدة، وكان في هذه اللحظة يريد أن يكتب شيئًا. أما صاحبة الحان فكانت تنظر من عليائها هادئة، تمطُّ شفتَيها قليلًا كأنها تلتمس الراحة، فتشمل ببصرها السيد والأوراق جميعًا، وكأنها قد قالت كل ما كان ينبغي أن تقوله وكأنه لقي الترحيب. فلمَّا دخل ك قال السيد رافعًا بصره قليلًا إليه ثم خافضه بعد ذلك ليغرق في الأوراق: ها هو ذا السيد موظَّف المساحة أخيرًا.
وكذلك عبرت صاحبة الحان على ك بنظرة غير عابئة لا يظهر فيها شيء من الاندهاش. أما بيبي فيبدو أنها لم تلحَظ ك إلا عندما ذهب إلى منضدة المشروبات وطلب شيئًا من الكونياك.
واستند إلى المنضدة ووضع يده على عينَيه ولم يهتمَّ بأي شيء. ثم ارتشف رشفة من الكونياك، وأعاده لأنه لم يستسغْه. وقالت بيبي باختصار: السادة كلهم يشربونه.
وسكت البقية، وغسلت الكأس ووضعَتها على الرف. فقال ك: السادة لديهم أفضل منه.
فقالت بيبي: ربما. أما أنا فليس لديَّ غيره.
وبهذا فرغت من خدمة ك، وعادت إلى خدمة السيد الذي لم يكن يحتاج إلى شيء، فأخذت تسير خلفه جيئةً وذهابًا على هيئة قوس، وتُحاول على نحو مقبول أن تُلقي نظرة من فوق كتفَيه إلى الأوراق. ولكن فضولها وتصنُّعها كانا بلا معنًى، واستنكرتهما حتى صاحبة الحان التي قطَّبت حاجبيها.
وفجأة أرهفت صاحبة الحان السمع، وحملقت في الفراغ وهي مندمجة في الإصغاء كل الاندماج. والتفت ك حوالَيه، فلم يسمع شيئًا غريبًا، ولم يبدُ على الآخرين أنهم يسمعون شيئًا، ولكن صاحبة الحان جرَت على أطراف أصابعها بخطوات كبيرة إلى الباب في المؤخرة — ذلك الباب الذي يُؤدي إلى الفناء — وأطلَّت من خلال ثقب المفتاح، ثم اتجهت إلى الآخرين بعينين فاغرتَين، ووجه محتقن، وأشارت إليهم بإصبعها أن يُقبلوا، وأخذوا يتناوبون النظر من خلال الثقب، واختصَّت صاحبة الحان بطبيعة الحال بأكبر نصيب، وكذلك بيبي نالت نصيبًا كبيرًا، أما السيد فكان يبدو بالنسبة إليهم أكثر فتورًا. وعادت بيبي وعاد السيد بعد قليلٍ، إلَّا صاحبة الحان فقد ظلَّت تنظر من الثُّقب وتبذل الجهد الكثير، منحنية انحناءة شديدة وتوشك أن تركع على الأرض، وكان الناظر إليها يظنُّ أنها تتوسَّل إلى ثقب المفتاح أن يتيح لها أن تنفذ من خلاله؛ إذ ليس من شك في أنه لم يَعُد هناك شيء يُرى. فلما نهضَت أخيرًا ومسحت على عينَيها بيدَيها، وسوَّت شَعرها، وتنفَّست نفَسًا عميقًا، واضطرَّت عينَيها على ما يبدو إلى الاعتياد من جديد على القاعة والناس، وما فعلت ذلك إلا كارهةً، قال ك: هل رحل كلم إذن؟
ولم يَقُل هذا ليتأكد من شيء يعرفه، بل قاله ليسبق هجومًا كان يتوقَّع حدوثه، فما أشد ما أصبح الآن عرضة للإصابة. ومرت عليه صاحبة الحان صامتة، ولكن السيد قال وهو يجلس إلى منضدته: نعم، بكل تأكيد. لقد تخلَّيتَ عن موقع المراقبة، فأصبح في مقدور كلم أن يرحل. إن السيد حسَّاس بدرجة تثير الدهشة. لقد لاحظت، يا سيدتي صاحبة الحان كيف كان كلم ينظر حواليه في قلق؟
ويبدو أن صاحبة الحان لم تلحَظ هذا، واستمر السيد في كلامه: ومن حُسن الحظ أنه لم يَعُد هناك شيء تراه عينه، فقد مسح الحوذي كل شيء حتى آثار الأقدام في الجليد.
فقال ك: إن السيدة صاحبة الحان لم تلحظ شيئًا.
ولم يكن يعبر بهذا عن أملٍ ما، ولكنه كان قد ثار للادعاء الذي ادَّعاه السيد وأراد له أن يتخذ نبرة نهائية لا سبيل إلى وصفها. وقالت صاحبة الحان: لعلِّي لم أكن عند ثقب المفتاح آنذاك.
وكانت تقصد بذلك حماية السيد أولًا، وكانت تقصد ثانيًا إلى إعطاء كلم حقه، وأضافت: ولكني لا أعتقد أن حساسية كلم شديدة إلى هذا الحد. إنما نحن الذين نخشى عليه بطبيعة الحال، ونُحاول أن نحميه ونبدأ بافتراض أنه على حساسية مُفرطة. وفي هذا خير، ولا شك أن تلك هي إرادة كلم. أما حقيقة الأمر فلا علمَ لنا بها. ولا شك في أن كلم لن يتكلَّم أبدًا مع شخص لا يُريد أن يتكلَّم معه، مهما بذل هذا الشخص من الجهد ومهما ألحَّ وبلغ ما لا يُمكن احتماله من حدود، ولكن هذه الحقيقة — أعني أن كلم لن يُكلِّمه أبدًا ولن يدعه يظهر أمامه — تكفي، فلماذا نذهب إلى أنه لا يستطيع في الواقع احتمال منظر أي شخص؟! وهذا على الأقل شيء لا يقوم عليه برهان لأنه لم يتعرَّض لتجربة.
وهز السيد رأسه بحماس وقال: هذا الرأي في أساسه بطبيعة الحال رأيي أنا كذلك، وإذا كنت قد عبَّرت عنه بأسلوب آخر، فليس ذلك إلا لأنني أردت أن يكون مفهومًا للسيد موظَّف المساحة. والمؤكد على أية حال أن كلم عندما خرج إلى الخلاء كان يتلفَّت حواليه مرارًا في نصف دائرة.
فقال ك: ربما كان يبحث عني.
فقال السيد: ربما. وأنا لم أقع على هذا.
وضحك الجميع. كانت بيبي، التي لم تفهم من الأمر كله شيئًا، أكثرهم ضحكًا.
وهنا قال السيد: ما دمنا قد اجتمعنا الآن في هذا الجو المرح، فإنَّني أرجوك يا حضرة موظف المساحة أشد الرجاء أن تكمل ملفاتي ببعض البيانات.
فقال ك وهو ينظر من بُعدٍ إلى الملفات: إنكم تكتُبون هنا كثيرًا.
فقال السيد وهو يضحك مرةً أخرى: نعم. تلك عادة قبيحة. ولكن لعلك لا تعرف مَن أنا. أنا موموس سكرتير كلم في القرية.
وساد القاعة كلها بعد هذه الكلمات جو من الجد. وعلى الرغم من أن صاحبة الحان وبيبي تعرفان السيد بطبيعة الحال، فقد جمدتا عندما سمعتا الاسم والوظيفة. بل إنَّ السيد نفسه، وكأنما قال أكثر مما تَحتمِل قُدرته على الاستيعاب، أو كأنما أراد على الأقل أن يهرُب من كل رهبة قد تستتبع كلماته أو تكمُن فيها، اندمج في أوراق وبدأ يكتب، حتى لم يعد مَن بالحجرة يسمعون سوى ريشته. وسأل ك بعد هنيهة: ما معنى سكرتير القرية؟
فقالت صاحبة الحان، بدلًا من موموس الذي لم يَعُد يجد من الملائم أن يُقدم بنفسه إيضاحات بعد أن قدَّم نفسه: السيد موموس سكرتير لكلم مثل أي سكرتير آخر من سكرتيري كلم، ولكن مقر وظيفته وكذلك، إن لم أكن قد أخطأت الفهم، ومجال صلاحيته الوظيفية.
وهنا هز موموس أثناء الكتابة رأسه هزًّا شديدًا، فصحَّحت صاحبة الحان: ولكن مقر وظيفته فقط، وليس مجال صلاحيته الوظيفية، محصور في القرية. والسيد موموس يقوم لكلم بالأعمال الكتابية التي تدعو إليها الضرورة في القرية وهو أول مَن يتلقى الطلبات التي تصدُر من القرية موجهةً إلى كلم.
فلمَّا نظر ك إلى صاحبة الحان بعينَين فارغتَين، ولم يُبدِ أي تأثر بهذه الكلمات، أضافت في شيء من الاضطراب: هذا هو النظام، كل سادة القصر لهم في القرية سكرتيريون.
وقال موموس لصاحبة الحان، وكان يُنصِت إليها باهتمام أكثر مما فعل ك: وغالبية السكرتيريِّين في القرية يعملون في خدمة سيد واحد، أما أنا فأخدم سيدَينِ هما كلم وفالابينه.
فقالت صاحبة الحان وقد تذكَّرت الموضوع موجهة الكلام إلى ك: نعم. السيد موموس يخدم سيدَين، كلم وفالابينه، فهو إذن سكرتير قرية مضاعف.
فقال ك: سكرتير مضاعف.
وأومأ برأسه إلى موموس كما يُومئ الإنسان برأسه إلى طفل سمع البعض يمدحونه، وكان موموس قد وقع الآن بصره إليه كليةً وأوشك أن يميل ناحيته إلى الأمام. وإذا كان تعبير ك يَنطوي على نوع من التحقير، فلعل أحدًا لم يلحظه، ولعله كان مطلوبًا. إنهم يُعدِّدون أمام ك بالذات، وهو الذي لم يُصِب من الجدارة حتى القدر الذي يُتيح له أن يراه كلم مصادفةً، ميزات رجل من المحيطين بكلم، المُقرَّبين إليه، ويهدفون في غير مواربة إلى الحصول على مدحِه وتقديره. ولكن ك لم يكن يعي هذا الأمر الوعي الصحيح. فلم يكن، وهو الذي اجتهد بكل طاقته أن ينال نظرةً من كلم، يُقدِّر على سبيل المثال مركز موموس الذي كان له أن يعيش تحت بصر كلم تقديرًا عاليًا، وكان بعيدًا عن أن يحس حياله بالإعجاب أو الحسد؛ لأنه لم يكن يصبو إلى ما هو قريب من كلم، بل كان يصبو إلى الوصول برغباته هو، لا رغبات غيره، إلى كلم، ثم إلى تجاوُزه — لا البقاء لدَيه — والتقدم لبلوغ القصر.
ونظر ك إلى ساعته وقال: والآن ينبغي أن أذهب إلى البيت.
وهنا تغيَّر الموقف من فوره لصالح موموس الذي قال: نعم، بطبيعة الحال، إنَّ واجبات الوظيفة في المدرسة تدعوك. ولكن ينبغي عليك أن تمنحني لحظة أخرى. فلديَّ بضع أسئلة قصيرة.
فقال ك وهمَّ أن يذهب إلى الباب: لستُ ميالًا لذلك.
فضرب موموس بملفٍّ على المنضدة ونهض واقفًا وقال: إنني أطالبُك باسم كلم بأن تجيب على أسئلتي.
فأعاد ك الكلمات: باسم كلم؟
ثم قال: هل تُهمُّه شئوني؟
فقال موموس: هذا أمر لا أستطيع أنا القطع فيه، ولا أنت بطبيعة الحال، وعلينا أن نتركه له ونقَرَّ عينًا. ولكني أطالبك استنادًا إلى المركز الذي نصبني فيه كلم بأن تبقى وأن تجيب على أسئلتي.
وتدخَّلت صاحبة الحان: يا حضرة موظف المساحة، إنني أحترس من الاستمرار في تقديم المشورة إليك، فلقد لقيتُ منك، عندما تقدَّمت إليك بما تقدمت به إليك من نُصح حتى الآن، وهو أخلَص النصح نيةً، الصدودَ الذي لم يسبق له مثيل، ولقد أتيت إلى هنا إلى السيد السكرتير — وليس هنا ما أُخفيه — لأحيط الديوان علمًا بما ينبغي أن يعلمه من مسلكك ومقصدك، ولأمتنع في كل وقتٍ عن قبول إنزالك للإقامة في حاني مرةً أخرى. هذه هي العلاقة التي بينَنا، ولن يتغيَّر من أمرها شيء، وإذا كنت أنا أقول الآن رأيي فلا أريد بذلك أن أساعدك، وإنما لأسهِّل على السيد السكرتير المهمَّة الصعبة، مهمة التباحُث مع رجل مثلك، بعض التسهيل. ومع ذلك فيُمكنك — بفضل صراحتي الكاملة، وأنا لا أستطيع أن أتعامَل معك إلا بصراحة، وهذا شيء رغمًا عني — أن تستخرج من كلماتي نفعًا لك إن شئت. وفي هذه الحالة ألفت نظرك إلى أن الطريق الوحيد الذي يؤدي بك إلى كلم يمرُّ هنا بمَحاضر السيد السكرتير. ولكنني لا أريد المبالغة، فلعلَّ الطريق ينقطع قبل أن يصل إلى كلم بكثير، وهذا أمر يقطع فيه تقدير السيد السكرتير. وهذا الطريق هو على أية حال الطريق الوحيد أمامك في اتجاه كلم. فهل تريد أن تتخلَّى عن هذا الطريق الوحيد لا لسبب إلا العناد؟
فقال ك: آه، يا سيدتي صاحبة الحان، ليس هذا الطريق هو الطريق الوحيد إلى كلم، وما هو بأفضل من غيره قيمةً. وأنت، يا حضرة السكرتير، تقطَع فيما إذا كان ما أقوله هنا يصل إلى كلم أم لا؟
فقال موموس وهو ينظر بعينَين خفضهما في إعزاز إلى اليمين وإلى اليسار دون أن يكون هناك شيء ينظر إليه: طبعًا. وإلا فما فائدة عملي كسكرتير.
فقال ك: إنك ترين يا سيدتي صاحبة الحان أنَّني لا أحتاج إلى طريق إلى كلم بل إلى السيد السكرتير أولًا.
وقالت صاحبة الحان: ولقد أردت أن أفتح لك هذا الطريق. ألم أعرض عليك في الصباح أن أنقل رجاءك إلى كلم؟ وما سبيل ذلك إلا السيد السكرتير. أما أنت فقد رفضت، وليس هناك أمامك من طريقٍ سوى هذا. وإن كانت فرصة النجاح قد قلَّت الآن عن ذي قبل بطبيعة الحال بعد ما فعلته اليوم، أعني بعد مُحاولتك الهجوم على كلم. ولكن هذا الأمل الأخير الضئيل أشد الضآلة — أو غير القائم، إن أردنا الحقيقة — هو أملك الوحيد.
وقال ك: كيف تُعلِّلين، يا سيدتي صاحبة الحان، أنك حاولت في البداية أشد المحاولة أن تصرفيني عن التقدم إلى كلم، ثم إذا بك الآن تحملين رجائي محمل الجد الشديد، ويظهر عليك كأنك تَعتبرينني مفقودًا ضائعًا أو نحو ذلك إذا فشلت مخططاتي؟ إذا كنت قد نصحتِني بنية خالصة أن أنصرف عن السعي للوصول إلى كلم، فكيف يمكن أن تدفعيني الآن — بالإخلاص نفسه على ما يبدو — إلى سلوك الطريق إليه حتى وأنت تفترضين أنه لا يوصل إليه؟
فقالت صاحبة الحان: هل أدفعك؟ أهذا دفع لك إلى الأمام عندما أقول لك إن محاولاتك لن تجدي نفعًا؟ إن هذه لهي في الحقيقة غاية الجرأة أن تُحاول على هذا النحو أن تقلب عليَّ مسئولية عليك أن تحملها أنت نفسك. وربما كان وجود السيد السكرتير هو الذي يُغريك بذلك. هه؟ لا، يا حضرة موظَّف المساحة، إنني لا أدفعك إلى شيء. إلا أن هناك شيئًا واحدًا أعترف لك به؛ وهو أنني عندما رأيتك لأول مرة ربما رفعتُك فوق قدرك. فقد أفزعني انتصارك السريع على فريدا، ولم أكن أعرف ما يُمكنك أن تأتي به من أمور غير ذلك، فأردتُ أن أحول دون حدوث مصائب أخرى، واعتقدتُ أنني لا أستطيع أن أصل إلى تحقيق ذلك إلا بأن أحاول هزَّك بالرجاء والتهديد. ثم عرفت بعد ذلك كيف أُفكِّر في الأمر كله تفكيرًا أكثر هدوءًا. ولك أن تفعل ما يحلو لك. وقد تترك أفعالك في جليد الفناء آثار أقدام عميقة، ولكنَّها لن تزد عن ذلك.
فقال ك: لا أرى أن التناقُض قد اتَّضح تمامًا، ولكنَّني راضٍ بالتنبيه إليه. والآن أرجوك يا حضرة السكرتير أن تقول لي هل الرأي الذي رأته السيدة صاحبة الحان صحيح، وهو أن المحضر الذي تريد فتحه لي يُمكن أن يؤدي في نتائجه إلى السماح لي بالمثول أمام كلم. فإذا صحَّ هذا، فأنا مستعدٌّ حالًا للإجابة على أسئلتك كلِّها. بل إنني في هذه الحالة مستعدٌّ لكل شيء.
فقال موموس: لا، ليست هناك مثل هذه الارتباطات. كل ما أُريده بالمحضر هو أن أحتفظ لسجلات كلم في القرية بوصفٍ دقيق لعصر يومنا هذا. ولقد تمَّ الوصف، وهناك ثغرتان أو ثلاث ثغرات ينبغي عليك أن تُكملها، إحقاقًا للنظام. وليس هناك غرض آخر، ولا يُمكن الوصول إلى هدفٍ آخر.
ونظر ك إلى صاحبة الحان صامتًا. فسألته: لماذا تتطلع إليَّ؟ هل قلت غير ذلك؟ إنه دائمًا هكذا، يا حضرة السكرتير، إنه دائمًا هكذا. إنه يُزيِّف المعلومات التي يُقدمها الإنسان إليه، ثم يدعي أنه تلقَّى معلومات مزيَّفة. لقد قلت له دائمًا، اليوم وفي كل يوم، إنه ليس هناك أدنى أمل في أن يستقبله كلم. وإذا لم يكن لديه أمل، فلا يمكن أن يأتيه هذا المحضر بأمل. هل يُمكن أن تكون الأمور أوضح من ذلك؟ ثم إنني أقول علاوةً على ذلك، إن هذا المحضر هو الرابطة الرسمية الوحيدة الحقيقية التي يُمكن أن تربطه بكلم. وهذا كلام واضح أيضًا ولا يعلوه الشك. فإذا لم يكن يصدقني الآن — وأنا لا أعرف السبب ولا الهدف — وظلَّ يأمل في التقدُّم إلى كلم — فلا يُمكن اتباعًا لطريقته في التفكير — أن يُساعده شيء سوى الرابطة الرسمية الوحيدة التي تربطه بكلم؛ ألا وهي هذا المحضر. وأنا لم أقلْ سوى هذا، ومَن يدَّعي غير هذا فهو يحرِّف الكلمات عن سوء نيةٍ.
فقال ك: إذا كان الأمر كذلك، يا سيدتي صاحبة الحان، فأنا أعتذر لك، فقد أسأت فهمك. لقد اعتقدتُ، خطأً — كما اتضح الآن — أنَّ لي أن أستشفَّ من كلماتك السابقة أن هناك أملًا ضئيلًا جدًّا.
وقالت صاحبة الحان: بكل تأكيد. وهذا هو على أية حال رأيي. وها أنت ذا تُحرِّف كلماتي مرة أخرى، وتتَّجه الآن تلك الوجهة المضادة. هناك مثل هذا الأمل، في رأيي، وهو لا يقوم إلا على أساس هذا المحضر. ولكن الأمر لا يسير هكذا، بأن تتهجَّم على السيد السكرتير بسؤالك: هل يسمح لي بالمثول أمام كلم إذا أجبت على الأسئلة؟ ولو أن طفلًا سأل هذا السؤال لضحكنا منه، أما إذا سأله إنسان بالغ، فتلك إهانة للديوان، ولقد تستر السيد السكرتير برقة إجابته عليها كرمًا منه. أما الأمل الذي أعنيه فهو أنك تتخذ عن طريق المحضر نوعًا من الصلة ربما نوعًا من الصلة بكلم. أليس هذا أملًا كافيًا؟ فإذا سألك الإنسان عن أفضالك التي تجعلك جديرًا بمنَّة الأمل هذه، فهل يمكنك أن تذكر أي شيء؟ وليس من الممكن بطبيعة الحال ذِكر شيء أكثر دقة عن هذا الأمل، وبخاصة السيد السكرتير لن يستطيع أن يشير إليه أبدًا ولا بأبسط إشارة. إنما الأمر بالنسبة إليه، كما قال، أمر وُصف عصر اليوم تطبيقًا للنظام، ولن يقول أكثر من ذلك. حتى إذا سألته الآن أسئلة تتصل بكلماتي.
وسأل ك: وهل سيقرأ كلم، يا حضرة السكرتير، هذا المحضر؟
فقال موموس: لا. لماذا؟ إن كلم لا يستطيع أن يقرأ كل المحاضر، بل إنه لا يقرأ أي محضَر. إنه يقول لنا دائمًا «ابعدوا عنِّي بمحاضركم»!
وقالت صاحبة الحان شاكية: يا حضرة موظَّف المساحة، إنك تنتهك قواي بأسئلتك. هل من الضروري، أو من المرغوب فيه، أن يقرأ كلم هذا المحضر وأن يحاط علمًا بتفاهات حياتك كلمة كلمة. أليس الأفضل بك أن ترجو مُتواضعًا ومُتذللًا أشد التواضُع والتذلُّل أن يُخفوا المحضر عن كلم، وهو رجاء أحمق مثل الرجاء الآخر — فأين هذا الذي يستطيع أن يُخفي شيئًا عن كلم؟ — ولكنه سينمُّ عن خُلقٍ أكثر لطفًا. وهل هذا ضروري بالنسبة لذلك الذي تُسميه أمَلَك؟ ألم تعلن أنت بنفسك أنك ستكون راضيًا إذا نلت فرصة المثول أمام كلم حتى وإن لم ينظر، وإن لم يُنصت إليك؟ ألا تصل عن طريق هذا المحضر على الأقل إلى هذا وربما إلى أكثر من هذا؟
وسأل ك: أكثر من هذا؟ وكيف؟
فصاحت صاحبة الحان: بألا تلحَّ دائمًا كالطفل في أن يقدم إليك كل شيء على الفور في صورة مُستساغة. فمَن هذا الذي يستطيع أن يجيب على مثل هذه الأسئلة؟ إن المحضر سيذهب إلى سجلات كلم في القرية، كما سمعت، ولا يُمكن بكل تأكيد أن يقال لك أكثر من هذا. ولكن هل تعرف الأهمية الكاملة للمحضَر وللسيد السكرتير ولسجلات القرية؟ أتعرف معنى استجواب السيد السكرتير لك؟ لعلَّه — أو يبدو أنه — هو نفسه لا يعرف. إنه يجلس هنا هادئًا ويؤدي واجبه، كما يقضي النظام، على حد قوله. ولكن لا تنسَ أن كلم هو الذي عيَّنه، وأنه يعمل باسم كلم، وإن ما يفعله يحظى بمُوافقة كلم مبدئيًّا، وإن لم يصل قط إليه. وكيف يمكن أن يحظى شيء بموافقة كلم إن لم يكن يفيض بروح منه؟ وأنا لا أريد التملُّق للسيد السكرتير على نحو غليظ، وهو نفسه يرفض مثل هذا المسلك كل الرفض، ولكني لا أتكلم عن شخصيته الخاصة، بل أتكلم عنه إذ ينال موافقة كلم ورضاه، كما هي الحال الآن: إنه يكون إذا ذاك أداة عليها يد كلم والويل لمَن لا يطيع.
ولم يخشَ ك تهديدات صاحبة الحان، ولقد سئمَ الآمال التي حاوَلَت أن تُمسِكَه بها. لقد كان كلم بعيدًا. ولقد شبَّهته صاحبة الحان ذات مرة بالنسر، وبدا التشبيه ﻟ ك مضحكًا آنَ ذاك، أما الآن، فلم يَعُد يبدو له كذلك. وفكَّر ك في بُعده، وفي مقرِّه الذي لا سبيل إلى بلوغه، وفي صمته الذي قد لا تقطعه إلا صرخاتٍ لم يسمَعها ك، وفي نظرته النافذة المتَّجهة إلى أسفل والتي لا سبيل إلى إثباتها ولا إلى نقضها، وفي دوائره التي لا سبيل إلى تحطيمها انطلاقًا من العُمق الذي يَكمن فيه ك، والتي يرسمها هو في أعاليه حسب قوانين لا سبيل إلى فهمها والتي لا تبدو إلا في لحظات. كانت تلك أشياء مُشتركة بين كلم والنسر. ولا شكَّ في أن هذا المحضَر لم يكن له شأن بها، هذا المحضر الذي أخذ موموس يُفتِّت فوقه سميطة يأكُلُها مع البيرة، فتناثر الملح والكمون فوق الأوراق كلها.
وقال ك: طابت ليلتُكم، إنني أنفر من كل استجوابٍ.
وذهب بالفعل إلى الباب. فقال موموس لصاحبة الحان بلهجة تُوشِك أن تكون لهجة الخوف: إنه إذن يذهب.
فقالت صاحبة الحان: إنه لن يَجرُؤ على ذلك.
ولم يسمع ك أكثر من لك لأنه كان قد وصَل إلى المدخل. كان الجو باردًا وكانت الريح تهبُّ عاتية وتَنفذ إليه. وأتى صاحب الحان من باب مقابل، ويبدو أنه كان يُراقب المدخل من خلال ثقبٍ هناك. وكان عليه أن يلفَّ طرفَي سُترته حول جسمه حتى لا تعبث بهما الريح. وقال صاحب الحان: إنَّك إذن ذاهب يا حضرة موظف المساحة؟
فسأله ك: هل تدهش لذلك؟
فقال صاحب الحان: نعم. ألم يستجوبك؟
فقال ك: لا، لم أدعْه يستجوبني.
فسأل صاحب الحان: ولمَ لا؟
فقال ك: لا أعرف لماذا أدعه يستجوبني، لماذا أنصاع لنُكتة أو نزوة من جانب الدواوين. وربما أوافق في مرةٍ أخرى، موافقة من قبيل النكتة أو النزوة أيضًا، ولكن ليس اليوم.
فقال صاحب الحان: بكل تأكيد.
وكانت موافقته صادرة عن أدب لا عن اقتناع. ثم قال: لا بد أن أدع الخدم يذهبون إلى قاعة الشراب، فقد حل موعدهم منذ وقت طويل. ولكني لم أشأ أن أشوِّش على الاستجواب.
فسأل ك: أكنتَ ترى له هذه الأهمية؟
فقال صاحب الحان: نعم.
وقال ك: أما كان ينبغي أن أرفض؟
فقال صاحب الحان: لا.
ثم أضاف: ماذا كان يصحُّ أن ترفض.
فلمَّا سكت ك، عاد يقول، إما ليواسي ك أو ليَنصرف بسرعة: هه، ولكن لا ينبغي أن يعني هذا بالضرورة أن السماء ستُمطر كبريتًا.
فقال ك: لا، فإنَّ حالة الطقس لا تدلُّ على ذلك.
وتفرَّقا وهما يضحكان.