اكتشاف …!
من الناس من لا يتذوق الطعام إلا وهو لابس الردنكوت، جالس إلى مأدبة، تبدأ بتقديم الشوربا، وتنتهي بجبن الركفورت، هؤلاء لا يفهمون الحروف الأبجدية إلا إذا عرضتها عليهم بالترتيب من الهمزة إلى الياء، غير فاطنين إلى أن ليس للحروف من أهمية إلا متى تنسقت كلمات لها معنى.
لم يكن الغرض من هذه السلسلة معالجة العقيدة القومية الاجتماعية بالأساليب المألوفة؛ فنردد ما قيل فيها، ونعيد نشر تعاليمها، ففي المقال الأول ذكرنا أن ما يعنينا من المجتمع هو كيف يجب أن نحيا فيه؟ وفي ما تلاه أثبتنا كيف نفذت العقيدة الإيمان لشعب؛ فأيقظت فيه الكرامة الإنسانية، وجعلته يستشعر القوة لنفسه وأمته وثقته بهما.
وفي المقال السابق شرحنا كيف نشأ النظام، وهو من مقومات الحياة وعناصر الاقتدار، واليوم نجيء على ذكر «الولاء»، وحين نفرغ من ذكر هذه الفضائل التي نمارسها — وأهمية الفضيلة ممارستها — عدنا إلى الحذر، وقلنا: كيف جاءت الأثمار. عدنا إلى النصوص؛ ففهمنا مبعث القوة.
نحن شعب عاطفي؛ لذلك جاءت فضائلنا ونقائصنا حادة، نسرف في الود كما نسرف في العداء؛ إذن فليس بمستغرب أن يأتي ولاؤنا عنيفًا صارخًا وهاجًا، هي فضيلة كبرى لو ضبطناها، ولو أنها توجهت إلى الغاية المشروعة النافعة لكنا دولة عظمى، الولاء للطائفة هو بطبيعته عداء لطائفة أو طوائف، والطائفة وليدة الدين؛ ففي قصر الجهود على خير أي طائفة كفر بالدين، وتهديم للمجتمع الذي نسميه أمة. الولاء لدولة أجنبية هو الخيانة، الولاء للمير والبيك والشيخ هو من أنواع العبودية التي تتنافى مع الكرامة الإنسانية، الولاء لكل من ولي الحكم هو خنوع وسخ تعطر بالكولونيا، وتجارة من نوع حديد بقضامي.
لأول مرة في تاريخنا الحديث ينطلق الولاء مهدمًا الحيطان التي سوَّرت جهودنا؛ فيعلن جهاده في سبيل فكرة وأمة. ولقد أثبت هذا الولاء أنه جوهر صافٍ وأنه معدن، لا مصنوع سنتاتيكي بدليل أنه لم يُفْنَ حين تبعثر، ولم ينعدم حين سُحِقَ، وأنه ينظم نفسه ويتألف أبدًا في سبيل عمل إيجابي. لقد سما أبناء العقيدة إلى ذروة الوعي القومي، حين استشعروا الولاء المطلق لأمتهم. الولاء الصافي الصلب للفكرة وللأمة لم يستشعره وينقذه إلا أبناء هذا الإيمان.
إن أولى واجباتك يا مواطني، إن كنت في حقيقة الأمر متوثبًا إلى المساهمة بحركة الإنقاذ، أن تعتنق هذه العقيدة، وستجد أنك قد أحسنت إلى نفسك كثيرًا حين تخطو؛ فمن قصد إلى النور اكتشف، لأول مرة، من مباهج الحياة أن عينيه تبصران.