حين استجبت النفير
ما أنا بالمتمرد على القوانين، ولا بالذي يعصاها.
ما دامت السلطات لا تعترف بالحزب السوري القومي الاجتماعي؛ فما أنا من أعضائه.
غير أن الحكومة أصدرت مرسومًا يحل الحزب، ولا يحل العقيدة — وهذا هو الإيمان الذي لا يُسجن ولا يُسحق.
لقد أنفقت، بعد عودتي من المهجر، ما يقرب من سنوات أربع أدرس الناس — أعمالهم لا أقوالهم. وظفرت بصداقات حميمة مع قادة أحزاب وجماعات، ورجال عاديين وغير عاديين، ورسميين وغير رسميين، من مختلف الثقافات، والغباوات، والادعاءات، والطبقات والطوائف.
وحدقت بهذه المواكب السائرة على الدروب ببصر جهدت أن يكون متجردًا.
فرأيت المواطنين وقد صاروا يُكالون أحمال بوسطات، ويستعملون كطوائف النورَ — للرقص، للحدا، للقواص، للفرجة.
وأصغيت إلى المصلحين يحركون ألسنة تنطلق بالحلاوة، فيما تبطنها السموم.
ولمست الرجعية في معسكرين تعاهدا في ميثاق، هو في جوهره خيانة في التفكير؛ إذ إنه اعتراف بأننا أمتان لا أمة واحدة.
وتطلعت إلى هذا الكرنفال يمثِّل فيه الحواة والمشعوذون والمهرجون، وتحلق في هوته الخفافيش، وتروج فيه البضائع المغشوشة من مخلفات الاستعمار، ومن مصانع الزيف التي شُيدت أخيرًا.
واعتبرت كيف نعمت الحياة وترهلت العقائد! وكيف صبغ الجهل — الطائفية من عناصره — والجشع (الترف من أسبابه) كل عمل وكل تفكير!
واستعرضت المنظمات والأحزاب:
فإذا هنالك عروبة هي، حين تنقى، طقطقة مسبحة، وفناجين قهوة، وتندر بطرائف بالية، ونكات هرمة، ومحاولة لعصر قنينة فارغة، وشيزوفرنيا، ذلك النوع من الجنون الهادئ اللذيذ، إذ ينطوي المصاب على شخصيته، ويبايع نفسه ملكًا في مملكة الأحلام والأوهام.
وهي، أي العروبة، في فريق ثان، كبريت من التعصب الأكال.
وإذا هنالك لبنانية، حين تصفو، تتلاشى أغنية في موال عتابًا، وتذوب نشوة في كأس عرق، وقد تتصلب بطولة معكوسة في ضربة عصا، أو تتجسد خنوعًا في وفد ينحدر لتهنئة وزير، وتشرئب ثورة كاسحة في تلغراف احتجاج على شاويش المخفر. هؤلاء هم قرويو ضيعة يدعون أنهم مواطنو أمة.
وهي هذه اللبنانية، إذ تعكر وتموج، تمسي بطولة في معارك ما حدثت، وكركرة الماء في أركيلة ليس فيها تنباك، وشوكة تصوب إلى عين الجار، فيما يقال: إنها سيف في وجه الغريب.
ثم هنالك عقائد أجنبية، إحداها الشيوعية، وهي الظل الأسود للغيمة الحمراء العالقة في سمائنا، مترقبة اللحظة الحاسمة كي تنفجر وتنهمر نارًا ودمارًا وكفرًا وجرائم. يمرح في عتمة هذا الظل الأسود جماعة من المهووسين، والمأجورين، والناقمين، وفئة مخلصة جربت ما توهمته مليحًا فوجدته قبيحًا، فجاءت تجرب هذا القبيح أملًا بأن تجده مليحًا، فتعلقت بهذا القطار المسرع نحو الهاوية.
وفي الزمن الأخير، قيل لفتى: إنه نبي، فراح يفتش عن رسالة، ويلملم بخرقة مرقعة من مختلف الأنسجة والأمزجة، تمتص ما تسرب من براميل العقائد، ما تفسخ منها وما تكسر، سائلًا عديم اللون والطعم والفعالية، ولكان عديم الرائحة لولا أن رُشت عليه حفنة من بهارات الهند وفلافلها؛ هذا الخليط من السوائل صبه فتانا في قالب إقطاعية وبلبلة تفكير، ونادى به على الناس أنه اشتراكية تقدمية، تكفل الشفاء من الأمراض جميعها، وقد يكون أقرب الأشياء التي تشابها كيس الخيش الذي نستورده من الهند، والذي لا يقف إلا حين يمتلئ بمحصول غريب عن وعائه، على أن في أعلاه من الشيوعية زيحًا أحمر.
وفي هذا البلد منظمات كصواني المعابد يُطاف بها لاستجداء المال، وغيرها لاستجداء النفوذ، وتشكيلات رجعية جديدة، كلها ثقوب مستحدثة في غربال متهرئ عتيق.
هذا والشعب في نقمته، متفرق في ركدته وجهوده؛ فمنهم من يرفه عن نفسه إذ يتثاءب في مقالة واعظة، أو مَنْ يفرِّج عن كربته بشتيمة، ومنهم من يبرئ ذمته بالدعوة إلى مساعدة الفقراء والمظلومين، فيما هو ينتعش من تخمة لينغمس في تخمة، ويفرغ من عد أرباح صفقة، ليرتب أرباح صفقة.
ومنهم من يهمهمون ويهمون، ولا يعزمون ولا يفعلون.
ومنهم المسرف في العويل والصهيل، يحسبهما للجهاد نفيرًا.
ومنهم من تطلع إلى ما تحت سريره، فلما أمن أن ليس هنالك ما يخيفه؛ أوصد الباب ونام قريرًا.
ومنهم جماعات لم تتحرر بعد من غريزة البهائم؛ فهي تسير خلف كل من ارتفعت أذناه عن القطيع وعوى أمامه.
ورُبة باخرة دوى صوت ربانها، وازدهى ملاحوها، وشعَّت نوافذها، وضخمت مداخنها، وغاصت في وحول المفوضيات والجاسوسية مراسيها.
غير أن جمهور هذه الأمة نبيل، يتوق إلى الكبر، والنظام، والحرية، والحق، والقوة، والعدالة الاجتماعية.
ولقد استجاب الله لصلوات هذه الأمة؛ فظهرت في الشرق — وقد اقتصرت رسائل الشرق حتى اليوم على الروحانيات — لأول مرة عقيدة مادية روحية، قومية اجتماعية، واضحة الهدف، والموحيات، والوسائل، ساذجة ككل شيء عظيم نبيل، تقول بفصل الدين عن الدولة، وبهدم الحيطان التي سورت الطوائف، وبتنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج، وبإنصاف العامل والفلاح؛ فاعتنق هذا الإيمان فتيان وفتيات، كبروا في عيون أنفسهم حين تحققوا أنه يجب أن تكون لهم كرامة المواطنين، وفولذت العقيدة أرواحهم، فلم يعودوا رمالًا تذريها الرياح، ولا حصى تتطاير تحت الأقدام، بل قطعة من باطون تحطِّم ولا تحطمها الرءوس.
تدافعوا على طريق الحياة نحو المصلحة العامة؛ إذ إنهم لا يعرفون أن هم مصلحة خاصة.
ما تبجحوا بالأرواح على ما وقفوها، ولكنهم وهبوها.
ما تغنوا باللاطائفية؛ لأنهم يحيون الإخاء الصحيح، هدفهم وجغرافيتهم وشخصيتهم واضحة بينة الخطوط، لا بالمعقدة ولا بالمزدوجة.
أحيا الفرد منهم نفسه على أتمها وأجملها وأقواها، حين أفنى نفسه في مجتمعه.
في صلب دستورهم وتعاليمهم أن المرأة والرجل متساويان في الحقوق، ومن عناصر إيمانهم أن ليس في الأمة طبقات.
وهذه الحركة رُمِيَتْ بالتهم، ورُشقت بالوحول، وفي كل مرة ارتدت التهم والوحول خزيًا في وجوه الرامين والراشقين.
هذه الموجة يجب أن تنطلق لتغسل أدران هذا المجتمع، ولتشد قوتها إلى عجلة حيويتنا؛ فنصبح الأمة التي نستحق أن نكونها، إن مئات الألوف من المواطنين يتلمسون في نفوسهم الشوق إلى الإصلاح، والتقدم، والمساهمة القومية، ويجدون في هذه العقيدة مدرسة تربية عالية للرجولة الحقة.
إن التجدد والإصلاح والنهضة، تُخْتَصَرُ بعمل واحد، وهو أن تفسح السلطات المجال لهذه العقيدة؛ فتحتكم إلى الشعب، وتضع بين يديه سِفرها، وللشعب أن يتقبلها أو يرفضها.
لا أدري من يبسم لي في غد ومن يعبس، فللباسم أقول: «أعود إلى تفكيري وكتابتي، فأجدك يا أخي رفيقًا لي منذ عهد الصبا والتلمذة، ولكننا اليوم تعارفنا.» وللعابس، من قريب أو غريب، أصيح: «لقد بلغت أنا في حياتي وتسياري نقطة اللارجوع، فإن كان هذا يغيظك يا أخي، فهنا نفترق.»
كنت أحسب أن الكبر، كل الكبر، في الخلق والسيادة، ولأول مرة في حياتي أشعر أن في الخضوع كبرًا إذ انحنيت واعتنقت عقيدةَ من خلقَ وسادَ، ثم اختصر البطولة إذ ركع، وقال لجلاديه: «شكرًا.»