لو أني صاحب الجلالة!
هذه الرسالة كانت موجهة إلى الرئيس السابق الأستاذ بشارة الخوري بعد أن هوى فاروق، وقبل أن يعتزل الخوري. «أنا إنسان» كلمتان افتتح بهما الرئيس بشارة الخوري مؤتمر الأونسكو حين عُقِدَ في بيروت.
***
كل عاقل ليس به مسٌّ من الجنون، فهو بليد الذهن.
وأنت يا قارئي مثلي تَدَّعِي الذكاء؛ إذن فيجب أن تعترف بأن فينا شيئًا من الجنون، تراك مثلي مصاب بجنون الأحلام؟ يا طالما حدثت نفسي بأني ملك في «غمدان» وأن من زملائي فاروق، واستفقت من حلمي مذعورًا أتطلع إلى حرس الفاروق، يصوبون أسلحتهم إلى القصر المحروس، ثم يسيرون به فيُركِبونه «المحروسة». رجوتك يا قارئي أن لا تُسمعني بعد اليوم الدعاء المألوف «الله يحرسك»؛ فإن هذا يذكرني بالحرس والمحروس و«المحروسة».
وتفجرت الأفراح مظاهرات، وأغاني، وشتائم، وحقولًا في الصحف سوداء ضخمة العناوين. إن نفْسي لتتقزز من هذا الجذل الحيواني؛ فالشماتة إحدى مظاهر البهيمية. أنا إنسان؛ إذن فأنا أتعظ وأعتبر. ليشتم الناس فاروقًا ما أرادوا، أنا أشكره، إنه أحسن إليَّ، إنه أعطاني درسًا. أنا إنسان، إذن فأنا في كل يوم أتفهم رسالة جديدة.
لقد نصحني فيما مضى صديق لي، على مسمع من الناس، أن أخلو إلى نفسي فأعرِّفها. أخال أن ما يجب أن أفعل اليوم هو أن أبتعد عن نفسي حتى أراها، بل سأبتعد عن نفسي، وأكون وحيدًا وحيدًا، ولن أسمح حتى للخوف أن يرافقني. أنا إنسان؛ إذن فأنا مفكر. الخوف يشل التفكير فيجب أن أطرده عني.
ها أنا مبتعد أنظر إلى مملكتي، فأراها فوضى وغوغاء من نقمة وظلم وفقر وشعوذة وثروات واستغلال. أنا إنسان؛ إذن فالخطأ من معائبي. أنا إنسان؛ إذن فالجرأة يجب أن تكون من فضائلي. هو ذا أول قول جريء أتفوه به، لقد أخطأت.
القول، ما فائدة القول إذا لم يترجم عملًا؟ الجائع لا يشبعه القول، ولا البائع ولا المحروم ولا المضطهد. إن مملكتي صغيرة جميلة، وشعبها طيع نبيل، لقد كنت معبوده فيما مضى، لقد أسمعني الهتاف الذي لا يزال يسكر مسمعي، ولكنه كان هتافًا غير مأجور. لماذا يرسل اللعنات نحوي اليوم، لعنات لو أنها تشعل النار لأمسى قصر «غمدان» رمادًا؟
لقد أخطأت، لقد حقَّرت شعبي فحقرني. لن أكون ساذجًا. إني أعلم أن أكثر الثائرين علي هم من محترفي المشاغبة، يبغضونني مخطئًا، ويبغضونني مصلحًا، ويبغضونني ملاكًا أو إلهًا. إن صاحب الجلالة له أبدًا أعداء؛ لأنه صاحب الجلالة. أنا إنسان وغيري كذلك إنسان، والإنسان يحسد الإنسان.
غير أني لن أُقنع نفسي أن هذه النقمة الحادة الجارفة هي ليست من صنيعي.
هؤلاء المتزعمون المستثمرون ما شأنهم في هذه الدولة؟ إنهم لا شيء، الشعب يمقتهم، قوتهم تهويل مستمد من القوة التي سلمتها إياهم الدولة.
أنا إنسان، إذن فأنا تلميذ التجربة. شريت الولاء فانكشف بضاعة مزيفة. جربت البطش ودفنت الحراب؛ فنبت في طريقي ألوف من حراب جديدة. رقعت هذا الثوب فبدا خِرَقًا مضحكة، لا تُزيِّن ولا تُدفئ.
إن القوى المسلحة هي رهن أمري، ولكنها كانت كذلك رهن أمر القوتلي وفاروق. البوليس إنسان، الدركي إنسان، الجندي إنسان؛ إذن فهو كذلك قد ينقم ويرتد ويثور.
أنا إنسان، ماذا ينقصني في هذه الدنيا؟ أنا صاحب الجلالة في ذروة هذا البلد، المال موفور لي ولمن أحب، ولمن أتوهم أني أحب، كل ما أحتاجه هو الإرادة للإصلاح والعزم على الإصلاح. الإرادة تخلق الكلمة، والكلمة تطاع؛ لأن وسائل التنفيذ لا تزال في يدي، عليَّ أن أُنفذ.
فإن عجزت عن التنفيذ؛ فأول واجب نحو نفسي هو أن لا أخدع نفسي؛ فأفسح لها مجال التقوى، إذ ذاك قد أعتزل الدنيا فأترهب. أنا إنسان فلماذا لا أكون واقعيًّا؛ فأبدأ بحزم حقائبي، وأودِّع غير مطرود، فأكون الرابع في لعبة بردج مع فاروق والقوتلي وزميلي الإيطالي الملك «أومبرتو». أنا إنسان، قد يشلني «الروتين»، قد لا أفعل شيئًا، إن لم أبتعد عن نفسي.
لو أني صاحب الجلالة، لابتعدت عن نفسي فهززت الصولجان أو رميته.