وثبة نحو الضياء
بعد أن ثارت عليَّ عاصفة صحفية كان أكثر الذين زوبعوها من أصفى أصدقائي وعشرائي.
***
أكثر الدروب في لبنان تؤدي إلى الهاوية.
وقبل أن تنزلق الأقلام التي تصدت للرد على بياني إلى صعيد من الجدل لا أريده، ولن أهوي إليه، أريد أن أعترف فورًا بكل نقيصة رُمِيْتُ بها؛ فأُقر أني رجل لا شأن له في الحياة، وأن حافزي إلى هذه الخطوة طموح جامح؛ لكي أظفر بعضوية في بلدية بعقلين، وإني مدفوع ومأجور، وأُعلنُ سلفًا أن كل ما ساُتَّهَم به صحيح؛ فأختصر الطريق على المهاجمين بالاعتراف عن جرائم سوداء في ماضيَّ وحاضري.
وأعتذر إلى بعض الصحافيين الأصدقاء الذين عتبوا عليَّ؛ لأن البيان لم يصلهم، بالقول إن جريدة «الأحد» هي التي تولت توزيعه، ويؤكد لي مديرها أنه أرسل البيان إلى الصحف جميعها في وقت واحد.
وفي هذا الإيضاح ما يجب أن يُقنع أصدقاء من الصحافيين آخرين ذكروا أنني توجت البيان بمديح عن نفسي؛ إذ إنه ليس من المعقول لو أني أنا الذي مهدت للبيان بمقدمة أن أقول عن نفسي «صاحب المؤلفات الشهيرة»، بل كنت قلت أكثر من هذا بكثير!
ولو أن ذلك الصديق الحبيب يحسن القراءة بقدر ما هو يبدع في الكتابة؛ لما اتخذ من أقوالي موضوعًا لافتتاحية، بل لكان هو أول المهتدين.
أما أصحاب «البيرق» فأهنئ فيهم التهذيب الرفيع، والأمانة لأخوة لنا شرف وراثتها أكثر مما لنا فضل خلقها، وأنهم وسواهم من أشراف الناس لو أعملوا البصيرة، وتحرروا، فحاولوا أن يحملوا الماضي الجميل إلى الحاضر، بدلًا من أن يشدوا هذا الحاضر إلى الماضي، لاكتشفوا أنهم في صفوفنا «صفوف النهضة»، وأن الأحباء من أحياء وغائبين، تروقهم هذه القفزة إلى الأمام.
غير أني أود أن أذكر هؤلاء الإخوان، وغير الإخوان، أنني لست أنا رهن المحاكمة.
إنني راضٍ بما يعرفه الناس عني، وبما يلهجون به وبما كان يجيء على ألسنة ناقدي اليوم، المغدقين المديح علي في أمسي.
ما أنا بالشخص الذي يعنيني هذا البحث، نحن أمام حاضر أمة ومستقبلها ووسائل النهوض بها.
يعيبون على عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي أنها تناهض العروبة، هذه مغالطة وتشويش، نحن نقول بالعالم العربي وبالجبهة العربية — جبهة تصطف فيها القوميات كما يقررها التاريخ، القديم والحديث والمعاصر، وكما تتطلبها مقتضيات اليوم. لا نريد عروبة يكون الدين من عناصرها؛ لأنها هكذا تحمل في نفسها أسباب هلاكها.
لا نريد عروبة البكاء على الأندلس، وحفظ أقوال الزمخشري، وما حدَّث به ابن المعتز عن ابن المهتز.
لغيرنا العزة القعساء، نريد عزة هي موديل ١٩٥١-١٩٥٢.
ويتهمون أصحاب عقيدتنا بالتنكير للبنان، أي منطق هذا! من يزعم أن من يريد خدمة أمته هو بحكم الطبيعة متنكر لأمه؟
نريد لبنان فكرًا شاملًا وقوة منطلقة ساحقة. لقد نشرت لي مجلة «الصياد» كلمة منذ سنوات خمس، قبل أن عدت من المهجر جاء فيها: «أريد الوحدة السورية بعد أن تقرع لها أجراس الكنائس في بشراي، وبكفيا، ودير القمر»، هذا ما تبشر به عقيدتنا اليوم، وما بشرت به أمس، وهذا ما تبتغيه الفئة الصافية الذهن المتطلعة إلى المستقبل.
لقد بشر «هربرت هوفر» ﺑ «عالم واحد»، فما سُمِّيَ خائنًا ولا نصبوا له مشنقة، نحن لا نؤمن بلبنانية تفجر الديناميت في المآتم وتقتصر على التسبيح للأرز، وتلهو بذكرى أمجاد غابرة، ووصف الحنين إلى المغتربين.
لقد قلت لهم في حفلة «الكتائب» في السنة الماضية: إن فخر الدين مات والمير بشير مات، وصلاح الدين الأيوبي مات؛ وأقول الآن للذين يتهمونني بأني غيرت عقيدتي: إن أكثر ما ناديت به قبل اليوم نُشر في الصحف، فهاتوا لي عبارة واحدة مجَّدت بها حزبًا، أو دعوت بها لعقيدة، ارجعوا إلى ما طبعتموه أنتم، وأروني كلمة واحدة قلتها تشرد عن موقفي اليوم.
ثم اتركوا النظريات التي تبدأ بجدل لا ينتهي، وقولوا لي أي داء كان أفتك بنا من الطائفية؟ وأي شخص محا عمليًّا الطائفية من نفوس المواطنين؟ وأي إيمان غير إيمان القوميين الاجتماعيين اجترح هذه المعجزة حتى أعتنقه؟
حين أعلنت الحرية في زمن السلاطين العثمانيين تعانق رجال الدين في بيروت، وفي سنوات فيصل هتف الشباب المحمدي للشباب المسيحي، ومنذ سنتين تجسد الوئام والود في وليمة تاريخية بين «الجناحين»، تمثلهما النجادة والكتائب. وبعد أن تجسد الوئام وزال التعصب تفجر الود في العيدين على ساحة البرج في العام الفائت، رصاصًا من رشاشات ومسدسات ودويًّا من قنابل.
صار لنا عشرات السنين والهلال يعانقه الصليب والجناحان يرفان، والقوافي تؤلف بين الأهلة والصلبان؛ والأمة سائرة القهقرى، حتى جاء إيمان الوطنية الحق الذي شفى الأمة من أفتك أوبئتها.
لا أحتاج إلى تسمية هذا الإيمان، بل أحور قولًا للرفيق أسد الأشقر: «كوم التبن لن تبدد الزوبعة.»