طريق ضهر البيدر وطريق مرجعيون
من عادة أهل الكتابة أن يظفروا بالأكل مجانًا، حين يحسب المضيف أن في كرمه حافزًا للإعلان عن متجره، وقد يكون من نتائج هذا المقال أن ينقطع أصحاب المطاعم والفنادق عن هذه الحاتمية، أو الرشوة؛ فهذه الأسطر لا تروج للإقامة، في فندق «المسابكي» شتورة، حيث أكلت وشربت مرارًا عدة، وكل مرة كنت أدفع بكلمة شكر أوجهها إلى الخواجة، صاحب الفندق بواسطة الجرسون، الذي ينقل إليَّ الرسالة السخية.
ووصلنا «شتورة» في عاصفة من الثلج، راجعين إلى بيروت، فاستقبلتنا على الطريق بارودة الدركي، وقهقهته وأوامره معلنة أن الطريق مقفلة، وأنه من «الحكمة» أن نبقى في شتورة.
لا أدري لماذا قهقه الدركي، قد يكون ذلك من قبيل فرحه بمصيبتنا، لعل أول تسجيل في نفس الإنسان حين يسمع بموت صديق له هو فرحه، بأن الموت نزل بصديقه لا به، ترى ألهذا السبب ضحك الدركي؟
ودخلنا الفندق، يعني اللوكندة؛ فإذا هو حافل بالضيوف، وحافل باللاجئين، لو سُئلت تسمية هذا العصر، لقلت: إنه عصر التندر والطرائف؛ فكل من تلقاه، يمد يده إلى جعبته، فيتناول منها قصصًا يرويك بها، وكان من الطبيعي، والدنيا ثلوج وأرياح وأمطار، أن تنحرف الذكريات إلى منحى الطبيعة، وكانت القصة طبعًا تنتهي ببطولة راويها. أذكر أن أحد اللاجئين إلى الفندق قصَّ علينا كيف كان يقطع الثلوج في ضهر البيدر ذات شتاء، فهاجمه قطيعان من الذئاب: واحد من اليمين وآخر من اليسار، فراح محدثنا البطل يقبض على ذنب الذئب المهاجم من اليمين، فيرمي به الذئب المهاجم من اليسار فيصرع الاثنين معًا.
وقبعنا في الفندق والثلوج والأقاصيص تتراكم، والأرياح تهب، وكذلك دخان الأراكيل، وكان الثلج يتعالى في ضهر البيدر عند دخول كل «لاجئ» جديد، والنكبات تزداد كلما جاء من يطلب الدفء والأمن في قاعات اللوكندة؛ حتى حسبنا أن في الخروج خطوة من الفندق مقامرة وغمارًا.
وجاءت «ساعة الوحشة» في المساء الباكر، ونحن في النشوة التي تملك من هو في المكان الأمين، وسط العاصفة المخيفة، وإذا بمسافر تملأ قامته الباب، وتملأ ابتسامته الفندق يدخل، فيطلب قطعة من اللحم كبرى ابتلعها، ثم راح يغسلها في جوفه بكأس من الوسكي.
ورفع المسافر صوته متغنيًا بالطبيعة وبجمال الليل، معلنًا أنه سيواصل طريقه إلى بيروت عن طريق مرجعيون، طريق خطرة وطويلة، ولكنها الطريق السالكة غير المسدودة، وأن القمر سيطلع بعد قليل، وأن السير في ذلك المساء سيكون بهيًّا، وأنه سيبلغ بيروت.
وكانت نبرات صوته، ولهجته الواثقة المتفائلة، وإصراره على الوصول إلى حيث هو قاصد، نفحة من النسيم المنعش النقي، في جو الخوف والدخان، والنوادر التي ملأت غرف اللوكندة.
ووثبت مع المسافر الجريء إلى سيارته؛ فإذا القمر في السماء، وإذا بنا نبلغ بيروت عن طريق مرجعيون، وكان في ذلك شيء من المغامرة خصوصًا حين لففنا بعض الأكواع، ولكننا بلغنا بيروت، فيما بقي حتى هذه الساعة — بعد أيام أربعة — رفقاؤنا في «شتورة».
في بلادنا اليوم ذهنية طاغية، تأوي، وحولها العاصفة، إلى «فندق» فيه السلامة والدفء، والأحاديث عن بطولات وهمية وحقيقية سلفت، أناس يحدثون عن استحالة العبور عن طريق ضهر البيدر، حيث تسد الثلوج الطريق، وحيث تتدهور السيارات، وقليلون — مثل ذلك المسافر الجريء — عزموا على الوصول إلى الهدف — بيروت — واثقين أن طريق «مرجعيون» سالكة، ولكنها طويلة وخطرة.
ولكنك لن تصل إلى بيروت إلا حين تعزم وتسير نحو بيروت، ولن تزيل ثلوج ضهر البيدر أحاديث القابعين في فندق «شتورة»، الذين أقنعوا أنفسهم، ويحاولون أن يقنعوك أن الوصول إلى بيروت مستحيل، وحين تعزم على الوصول إلى بيروت في العاصفة، فلا يفاجئنَّك ظهور دركي يلوح ببارودته، ويأمر، ويقهقه!