اليد التي توقع الصلح مع إسرائيل … تقطع من العنق
… وحين شاع أمر دخولي الحزب سرت إشاعة أنني أصبحت زعيمه «خليفة سعادة»؛ ذلك لأن الأكثرين يجهلون أن ما يضبط الحزب هو دستور، والذي يُسَيِّرُهُ هو شيء فوق الدستور، شيء غير مكتوب — إرادة القوميين الاجتماعيين — وهي لا تُفرض عليهم، بل هي شيء يُكْتَسَبُ بالولاء والإنتاج الحزبي.
ذكرت أمر «زعامتي» للحزب بعد شهور من انضمامي للحركة، إذ كنت أقرأ في النظام الجديد، منتظرًا إذنًا بالدخول على أحد المسئولين، أذكر أنني قرأت نحوًا من ٨٢ صفحة، فيما كان المسئول منشغلًا عني وأنا خارج الباب، والناس إذ ذاك يتحدثون بأنني «زعيم» الحزب … وبقيت من غير مسئولية «وظيفة» حتى في الانتخابات النيابية عام ١٩٥٣، إذ كان بعضهم يفاوضني بتأييد الحزب له — لم يعرف الأكثرون أن كل شأني حينذاك كان تدبير سيارات للدكتور عبد الله سعادة مرشحنا في الكورة، هنا يثور سؤال: لمن الرأي في الحزب؟
فالناس يتوهمون أن أمرًا يصدره شخص فيطاع، هذا صحيح وغير صحيح؛ فالأمر يصدره شخص، وفي أكثر الأحيان تصدره هيئة مسئولة، ولكنني لا أعرف خلال ما يقرب من سنوات خمس أن أمرًا صدر إلا بعد دراسة وتشاور وتقارير، كان أكثر ما يوحي هذه الأوامر الرأي العام بين القوميين الاجتماعيين؛ لذلك كثيرًا ما أضحك حين أسمع، وبالأخص في أيام الانتخابات، أن المرشح الفلاني صرح بأنه صديق لفلان من «أركان» الحزب، وأنه يستطيع أن يستصدر أمرًا برفة عين وينتهي الأمر.
لمن الرأي في الحزب؟ لمن الشأن؟
الدستور حدد الصلاحيات والمسئوليات، ولكن الرأي هو للرأي. إن هنالك قرارات هامة أوحى بها اقتراح من عضو في مديرية «القلمون» مثلًا قرب طرابلس، والشأن في الحزب — بقطع النظر عن المسئولية — هو للذي يكسب بالقدوة وبالعمل وبالولاء احترام الأعضاء، وهذا الاحترام لا يقترع عليه، بل هو شيء تلمسه وتحس به، لا أعلم أناسًا أشد قساوة من القوميين الاجتماعيين على رفقائهم، إنهم يحاسبون بعضهم على كل كلمة يقرءونها أو يسمعونها، وعلى كل عمل؛ وفي المدى البعيد هذا وحده ما يقرر شأن القومي الاجتماعي في حزبه.
وأخيرًا تسلمت مسئولية منفذية بيروت، ومَوَّلَ هذه المنفذية، فور نشوئها، من باع حاجيات في بيته ضرورية حتى ركز أمورها المالية. وبعد شهرين تولد موقف في أحد الليالي أوجب ما يسمى «حالة تنبه»، وجلست لأكتب الأمر الأول الذي أخطه، فبدأت الرسالة: «حضرة الرفيق فلان … أرجو أن تأتوا إلى بيروت»، وكان إلى جانبي مرشد من القدامى في الحزب، فتناول الورقة مني، وكتب سواها هكذا: «حضرة الرفيق فلان … تبلغوا وبلغوا أن عليكم …»
وبعد أربعين دقيقة أقبل الرفيق ليلقي التحية ويتلقى التعليمات، طفنا في تلك الليلة على المديريات مرتين: الأولى لنتفقد القوى، والثانية لنذيع انتهاء حالة التنبه.
«تبلغوا وبلغوا …»
كلمتان حفرتا في عقلي وقلبي شيئًا لا يمحى. هذا الحزب الذي لا يعد أعضاء إلا بالتضحية والحرمان، أي شيء فيه يوحي الطاعة.
«تبلغوا وبلغوا …»
وفي اجتماع إحدى المديريات انتصب أمامي أحد مشهوري الرياضيين في هذه البلدة، ورحت أعنفه بقساوة عن تقصير، وهو — كما يجب أن يكون — ساكت، وفي ذروة فصاحتي لمع في ذهني هذا التساؤل: أي سلطة لي على هذا الرجل؟ من الواضح أن في عضلاته قوة لو شاءت لرمتني من النافذة، وفجأة أخرستني دمعة؛ في هذا الحزب شيء كبير ضخم لا تقرأه في منشوراته، يجب أن تحياه حتى تفهمه.
غير أن حياة المسئول في الحزب ما هي كلها أوامر يصدرها، جاءني يومًا أحد الأعضاء برسالة في مغلف مقفل موجهة إلى عميد الحزب، سألته ما في الرسالة حتى أقفلها عني، أجاب العضو «هذا سؤال ليس من حقك أن تسأله؛ فالدستور كفل لي حق الاتصال بمن هو فوقك بالمسئولية، أما وقد طرحت هذا السؤال، فخذ علمًا أن في هذا المغلف شكوى عليك.»
وبالطبع فقد وصلت الرسالة إلى المرجع المختص، وكانت من رفيق مهنته الحلاقة.
ومرة ثانية جاءني غيره برسالة مقفلة إلى الرئيس، وغلب عليَّ الفضول؛ فطرحت السؤال، فأجابني العضو «هذه أمور هامة أجد أنها أكبر من أن يعالجها منفذ في الحزب، فوجهت الأمر إلى حضرة الرئيس.»
دستور الحزب كفل حق العضو فيما هو حتم عليه، ممارسة الواجب.
بين الأوراق التي صادرها الجيش السوري في دمشق شكاوى ودعاوي حزبية لا عد لها، أذكر أن الحزب طرد أحد أعضائه فور خروجه من السجن، حين ثبت سلوكه الشائن بين جدران السجن، أذكر أن أحد القوميين تقدم بدعوى ضدي؛ لأنني سمحت لألبر رزق — «عدو الحزب» بتعهد «نادي المتخرجين»، بدلًا من أن ألزم النادي لأحد القوميين.
وبعد أن أصبحت «منفذ بيروت» اتصل بي أحد الأجانب يريد بحث أمر سياسي، فاستمهلته وتلفنت المسئول؛ فجاء الجواب «باحثه علنًا في ساحة البرج، أو سرًّا في قاع البحر»، وتعددت بعد ذلك خلال ما يقرب من سنتين اجتماعاتنا بأجانب سياسيين وثقافيين وتجار: بعضهم يتستر بمهن، ولكنهم في حقيقة الأمر رجال استخبارات، وهم ينتمون إلى دول مختلفة؛ وكانت كل اجتماعاتنا تنتهي بعراك فتنقطع ثم تتجدد.
ماذا كانت هذه الأبحاث تتناول؟
كانوا يعظون بأن الشيوعية تهدد العالم — وبالتالي بلادنا — بالإفناء، وكان الجواب أن الحزب أدرك هذا الخطر منذ نشأته، وحارب الشيوعية حربًا غير متقطعة، وكافحها في فترات كان الغربيون خلالها يتساقون كئوس الشمبانيا مع سادة الكرملين، كانوا يطلبون معلومات عن الشيوعية، وكنا نجيبهم نحن سادة البلاد وأنتم الأغراب، فإن شئتم مكافحة الشيوعية، فزودونا أنتم بما عندكم من معلومات عالمية؛ فاستخباراتنا هي لمعلوماتنا نحن، والشيوعيون هم مواطنون لنا وإن كانوا مواطنين مرضى، ولا نسمح لغريب أن يتجسس عليهم، وكانوا يسألون ماذا تريدون؟ وكان الجواب أن ينقطعوا عن التدخل في شئون بلادنا، وأن يمحقوا هذا الحلف الشرير القائم بينهم وبين الضعفاء والفاسدين من حكامنا ومتنفذينا، وكانوا — أكثر ما كانوا يبحثون — بصلح مع «إسرائيل»، وبتعايش سلمي معها؛ وأنهم إذ ذاك يغرقون بلادنا بالإعانات والأموال، وكان الجواب «أن اليد التي توقع الصلح مع إسرائيل نقطعها من العنق».