مواطن الضعف في الحزب القومي
أتمهل هنيهة طويلة قبل أن أسطر هذا المقال.
ما الضعف؟ ما القوة؟
هل هناك جوهر مجرد اسمه ضعف — أو كله ضعف — أو قوة؟
أم تحمل القوة في نفسها عناصر الضعف، والعكس بالعكس؟
الحزب، مرهق فقير، ودعاوته تتحدى ما يبدو مستحيلًا، وتعابيره الحزبية للوهلة الأولى غريبة، وفي أكثر الأحيان مزعجة صافعة.
أفي ذلك ضعف أم قوة، أم كلاهما مجتمعان؟
لك أن تجيب على هذه الأسئلة على لسان بشار بن برد: «خرجت بالصمت عن لا ونعم.»
أتستطيع هذه الحركة أن تنجح، وليس في صندوقها قرش؟
وهذا البراز المستمر إذ تقول لمن نشأ وانتشى على أنه درزي، أو ماروني، أو شيعي، أو سني: «أنت سوري»، وإذ تقول لهذا الجيل الطالع في لبنان: «أنت سوري من لبنان»، ولابن العراق الذي ما عرف إلا أنه عراقي أو عربي، كيف لهذه الحركة أن تقنعه أنه سوري، هذا مستحيل، ولماذا كل هذه الكركبة؟ هنالك أساليب سهلة فلماذا لم يتبعها سعادة؟ وهذه اﻟ «تحيا سورية» لماذا؟ مرحبًا، وبونجور، صباح الخير، ونهارك سعيد، كلها أخف على السمع وأقرب إلى القلب.
أما المال فليس أكثر تقديرًا له من الذي هو في حاجة إليه.
وفي حياتي الحزبية لم تمر بي أيام، شعرت فيها بحاجة الحزب للمال، وبسهولة تناوله من فترة انتخابات المتن الأخيرة، التي عقبت وفاة الأستاذ أميل لحود. كان المرشحون ثلاثة: سليم لحود، خليل أبو جودة، شاهين شاهين، والثلاثة أغراب عن الحزب، ولا أعتقد أن انتخاب أي واحد منهم يغير في مجرى تاريخ بلادنا، وكلهم أنفق على الانتخابات، وكلهم كان في شوق حارٍ لتأييدنا له، وبدلًا من أن نؤيد أحدهم هرعنا إلى حبيب عقل — بعد أن تخلى عنه حزبه — وحملناه أن يرشح نفسه، ولحد ما تكبدنا بعض مصاريف، لماذا؟
ما السبب الذي قرر هذه الخطوة؟ هذا هو السؤال.
ما الذي يجعل القومي الاجتماعي وليًّا لحزبه مقاتلًا من أجله؟
أمليون ليرا مخبأة في مصرف، أم تحرق لتحقيق غاية يناضل فيما هو يناضل، من أجلها، العوز وصعوبة أسباب العيش؟
في تاريخ الأحزماب حركات نجحت حين وجدت من يمولها، وحركات نجحت وهي ضامرة الخصر؛ المال يختصر الطريق، والمال إذ يشيع الرخاوة يقعد بالسائر عن السير في الطريق. الثورة السورية ١٩٢٥–١٩٢٧ تلاشت حين تدفقت عليها أموال المغتربين، ودولة «إسرائيل» ما كانت لتنشأ، لو أن أحد المسئولين في دولة عربية وَقَّعَ شيكًا بمئة ألف جنيه ثمن مخيم عتاد حربية، جاء ثلاثة ضباط بريطانيون إلى «سان جورج» ليبيعوه، هو نفس المخيم الذي مشى إليه المقدم غسان جديد على رأس قوة من مائة وعشرين مقاتل، عبر المستعمرات اليهودية، ونال بسبب هذه البطولة أرفع وسام يمنحه الجيش السوري، ولا يتزين بهذا الوسام إلا اثنان أحدهما غسان جديد.
المال يقوي والمال يضعف. «خرجت بالصمت عن لا ونعم».
عقيدة سعادة تؤمن بالمادة وبالروح، كلاهما واحد، هذه هي على ما أفهم، المدرحية.
والمال — عدم وجوده — هو الذي هدم بالحزب منذ نشأته. سعادة كان يركب الترامواي بصحبة من كان يدفع عنه. من الأرجنتين كان يكتب لتلميذ في الولايات المتحدة اسمه غسان تويني، يستعجل تبرع الرفقاء بخمسمائة دولار، وبعد ثلاث وعشرين سنة وتلامذة سعادة، وفيهم اليوم الثري والموسر، لا يزال المال — عدم وجوده — يؤخر في سير الحركة، أو يدفع بها إلى الأمام.
ولكن الاشتراكات والتبرعات — خصوصًا في الأزمات — تستمر سيلًا شحيحًا أو متدفقًا، والخدمات المجانية التي يتطوع لها الرفقاء خلال السنة لا تشتريها الملايين، كثيرًا ما تفاخر أن الحزب فقير. بعضنا لا يجد في الفقر مدعاة المفاخرة.
أما الدعاوة فالضعف فيها — أو القوة — مردها إلى أمرين: هذه الحدة والقساوة، وكدت أقول: الشراسة في كلام بعضنا أو كتاباتهم كثيرًا ما أبعدت عنا الناس. أذكر في سنة ١٩٥٠ كنت في جريدة «النهار» إذ وثب إليَّ — خلت أنه واثب إلى عنقي — فتى من خلف جهاز الراديو، وراح يقصفني بكلمات «الزعيم … الزعيم … سوريا … أمة تامة … الخصوصيات المرتكزات … المعطيات … أن فيكم قوة …» واستمر هذا القصف أكثر من ساعة، لا أذكر من تلك المباحثة إلا أن نظارتين كانتا ترتجفان أمام عيني، وساعدين يدوران في الجو كدولاب الناعورة، وأخيرًا سألت الفتى اسم حضرتك؟ أجاب: «أنا القومي الاجتماعي جبران حايك»، من المؤكد أن لهجة جبران العدوانية أبعدتني عن الحزب.
ما سبب هذا؟ وهل هو ضعف أم قوة؟
السبب هو أن الواحد متى تجند في الحزب أصبح يحس حدة مشكلات بلاده؛ فالحدة في نفسه، فهو ناقم على كل مواطن يحسب نفسه سائحًا في بلاده، متفرجًا على ما يجري، وهو كذلك يوقن أن أمر إنقاذ بلاده هين إن تحسس مشاكلها كل مواطن، فهو عنيف ينحو باللائمة على المتفرجين، ثم إن النظام الحزبي وما توقظ بالرفيق «روح الجماعة» يجعله مقاتلًا، هذا العنف في الحديث وفي الكتابة أضعف الحزب بأن أبعد عنه الكثيرين، ولكن ما حيلتك وأكثر رأسمال الحزب — كأكثر رأسمال أي جيش — أن أفراده، يجب أن يكونوا ملتهبين حماسة بالإيمان مستعدين للصراع.
وما دمنا قد جئنا على ذكر جبران حايك، فما قولك أنني اليوم أخاطبه، ويخاطبني، ﺑ «حضرة الرفيق»، ولماذا كل هذه «العجقة» في الاصطلاحات، وفي السلام، وفي الجلوس، وفي افتتاح الجلسات واختتامها؟
الجواب بسيط؛ كل شيء مدروس وله أسباب سيكولوجية، وأكثر ما نمارسه تمارسه سوانا من المؤسسات الراقية. إن مخاطبة سواك ﺑ «يا حضرة الرفيق» يغمركما بلياقة وكياسة تمنع الاصطدام؛ فكم من مرة كاد يتضارب أحدنا مع الآخر لولا حضرة الرفيق، يستحيل أن تقول لأحد مثلًا: «حضرة الرفيق يلعن أبوك»؛ فهذه الكياسة المفروضة، وهي تمارس في كل الجيوش — تصون التعامل، فيما تصون وتستبقيه في دائرة الكياسة.
وبعد، فهذه حركة هي إنقاذ، كذا قالت للناس، كذا قالت لنفسها، كذا وعدت وكذا تنفذ.
من يقدر أن يخطط لعظائم الأمور، جالسًا إلى كأس عرق أو في جو من الدعاب. في الكنيسة، وفي المسجد، وفي مكاتب العمل طقوس عبادة، وسلوكية عمل، وهذه الحركة تتبع مناقبية سلوك وشكليات تزعج المتفرجين على بلادهم؛ فهي ضعف بأنها لا تستهويهم إلى صفوفها، ولكن هذه النهضة لا تتودد إلى السواح بل إلى المناضلين.
يا حضرة القارئ — حضرة الرفيق — كل تغير، كل تمرد، كل تحول، كل ثورة فيها الغريب، وكل جديد غريب، وحركتنا فيها الغرابة، فيها غير المألوف؛ لأنها في جوهرها تريد أن تغترب عن المألوف الذي حجَّرنا.