في أول مارس وُلِد الذي بعث الأمة
في سنة ١٩٤٦ وجَّه سعيد تقي الدين — وكان عامئذ في الفلبين — رسالة إلى صديقه محيي الدين النصولي، قال فيها: «سينقذ الأمة من أسمِّيه «رجل رأس بيروت»، ولقد أطلقت عليه هذا الاسم؛ لأن كتفيه ستكونان أعرض من صخور الروشة، ورأسه أرفع من المنارة.» ومن الغريب أن الكاتب سنة ١٩٤٦ لم يكن قد سمع بعدُ بمن هو اليوم موضوع مقاله هذا.
***
لم أعش بعد أن انجلى عني ظل أبويَّ إلا مرات ثلاثًا في ظل إنسان، استمرت أولاها شهورًا ستة حين لجأت — هكذا تبدو الحقيقة اليوم — إلى مكتب كامل حمادة في «مانيلا»، فعقدت معه شراكة أقاسمه فيها أرباحًا مرجوة، وبينما نحن ننتظر الأرباح، كثيرًا ما فصلت بيني وبين الجوع إشارة بقلم رصاص يدونها كامل حمادة أمرًا لأمين صندوقه بدفع ريالات خمسة، وفيما كان الامتنان يغمر قلبي، ولا أفوه به إذ ذاك، وأنتشي بإذاعته اليوم، كنت كثيرًا ما يتأكلني البغض — بغض كامل حمادة — وأسائل نفسي: أي حظ، أي نظام، أي قدر حكم ظلمًا؛ فجعل من هذا الرجل مُحْسِنًا، وجعل مني مُحْسَنًا إليه؟
وفي حزيران الماضي عشت ساعات أربعًا في ظل رجل آخر هو شارل مالك، حين خلوت به في «النادي الدولي» أتحدث إليه لأحدث الناس عنه، وإني على شغفي به لم أملك نفسي خلال تلك الساعات من كبح موجات من النار، تثور في نفسي وأنا أسائلها: لِمَ أُحَدِّثُ الناس عن هذا الرجل بدلًا من أن يتولى هو التحدث إلى الناس عني؟ إن كان في الدنيا مَنْ لا ينقم على نفسه؛ لأنها ليست في الذروة فهو إله يُعبد أو صعلوك لا شأن له.
وأن مقياس كبر النفس ليس في انعدام هذا الشعور بالنقمة، وهي من حوافز الطموح، بل في أن تتهرأ هذه النقمة على نفسك؛ فتصبح حسدًا لسواك، أو في أن تتصلب وتخشن؛ فتنطلق عدوانًا لئيمًا يتنقص من قيمة من يتفوق عليك.
واليوم — وهذه هي المرة الثالثة التي أحيا خلالها في ظل إنسان — إذ أصبحت القومية الاجتماعية دفة حياتي — أسائل نفسي: هل انعدم في نفسي شعور النقمة على خالق هذه العقيدة بسبب أن جسده دفين؟ أتراني كنت انضممت إلى صفوف القوميين الاجتماعيين لو أن مبدعها لم يضم رفاته التراب؟ أكانت أنانيتي وكان اعتدادي يردعانني عن الاعتراف بتفوق مخلوق؟ وقد يكون من السهل الكذب والجواب «نعم»، أو من مجاورة الحقيقة أن أقول: «لا أدري»، ولكن الذي يعنيك من هذا الأمر ويعنيني هو أني اليوم أشد احترامًا لنفسي؛ إذ أقررت بفضل كامل حمادة وأحببته، وحين وجدت لذة بأن أتحدث عن شارل مالك.
وهذه النون المتقعرة بين ألفين، صميم اﻟ «أنا» هذه الذات التي عبدتها وطالما ازدهيت بها، والتي من صلب العقيدة القومية الاجتماعية، وأول شروطها أن تذوب وأن تفنى، أحقًّا أنها امحت؟ أليس من العبث أن يقوى الإنسان على أن يفني نفسه وأن يذوب؟
الجواب بسيط ليس فيه اضطراب ولا تناقض، بل إن فيه حقيقة وعمقًا؛ إن الواحد منا يحيي نفسه ويذكيها إذ ينكرها. إن أشهى لقمة تأكلها هي لقمة تطعمها لسواك، إن الأمومة التي جوهرت نفس أمك وأمي ورفعتهما ووسمتهما بطابع الألوهية، إن هي إلا إنكار الذات وتذويبها وإفناؤها، وبالتالي إحياؤها.
يسألونني: هل عرفت ذاك الذي نفذ عقيدته فناء بخلود؟ أقول: لقد اجتمعت إليه مرتين خلتُ ثانيتهما طويلة؛ واليوم أرى أنهما جاءتا تمهيدًا لاجتماعات مقبلة، وها أنا أجتمع إليه كل يوم من جديد وأتعرف إليه كل ساعة.
لعل أرخص أنواع البوح عن النفس هو الكلام، قد يكون المهندس أشد إفصاحًا عن عبقريته حين يصمت، مشيرًا إلى الطريق التي اشتقها، والجسر الذي بناه، والقصور التي شادها. هذه الطريق التي أسير ويسير عليها الألوف من الرفقاء اشتقتها يداه، وهذا الجسر الذي وصل ماضيًا بعيدًا مجيدًا بمستقبل قريب مجيد هو الذي بناه، وهذه القصور التي شادها صاحب العرزال في نفوس المواطنين، كلها تحدث بالتصاميم والخرائط والبناء التي صنعتها يدا رجل الجيل الجديد.
في تاريخنا الحديث ظهر في بلادنا مَنْ أوحى البطولات نقمة على شيء، واستثار الناس إلى هدمه. لأول مرة في تاريخنا الحديث ظهر من استثار البطولات استنفارًا لصنع شيء، وكانت النقمة في هذه البطولات عنصرًا جزئيًّا لا الحافز الطاغي.
إن البطولة تُمجد كيفما ظهرت، ولكن البطولة التي تحدوها بهيمية البغضاء فحسب، لا تبني ولا تحيا، بل هي تنتحر حين تفترس، هو ذا تاريخنا في كلمتين بعد عهد الاستعمار: افتراس فانتحار، أما القومية الاجتماعية فهي أبعد ما تكون عن الحقد والعداء والبغضاء، فهي تسمو كلما انتصرت؛ لأن الافتراس والتهديم ليسا من حوافزها، وهذه العقيدة ليس لها حد تقف عنده؛ إذ إن الانتصار المتجسد بتحقيق هدف جغرافي، حدده العلم والتاريخ والمنطق والمصلحة — هذا الانتصار ما هو بالغاية النهائية الكبرى التي نهدف إليها، بل إن هذا الانتصار هو نتيجة جزئية محتمة لانتفاض النفس القومية الاجتماعية، التي لا حدود لإمكانياتها. إذن فحركتنا هي بطبيعتها أبدًا متجددة منطلقة تأبى الوقوف عند حد أو الجمود أو الركود؛ فنحن لن نصل إلى يوم نهلل فيه: قد وصلنا.
ولقد سبق أن قام في هذه الأرض من جمهر الناس إغراء أو تخويفًا أو تملقًا ووعودًا، ولكن من معجزات رجل الجيل الجديد — وأعماله لا توصف بأقل من أنها معجزات — بل إن من معجزات رجل الجيل الجديد أنه استهوى بالحقيقة وبالعلم المجرد، فجاء الإيمان بعقيدته أقوى الإيمان؛ لأنه استهوى من النفس البشرية اسمى عواطفها، وأعمق مداركها، لا بهيميتها ولا أثرتها؛ ولأنه دلها على الاقتدار الكامن فيها — في الروح التي يحيا بها جسدها، وفي الجسد الذي هو جهاز روحها؛ ولأنه عرف أرضها جبهة يقاتل من أجلها مواطنون وفيها ينتجون.
إن الذي وُلِدَ في أول مارس، وارتفع رأسه إلى أعلى من منارة رأس بيروت، وعرضت كتفاه؛ فهما أقوى من الروشة وأضخم، هذا الرجل يمد فيئه في هذه البلاد يومًا بعد يوم، وأن الألوف من الرجال والنساء هم أشد احترامًا لأنفسهم وثقة بها وبمستقبل الأمة؛ لأنهم يعيشون في ظل عقيدته.