هذا مذهبي
هل لي مذهب؟ ما هو المذهب؟ أمن الضرورة أن يكون للرجل مذهب؟ وأهم من كل هذا أصادق أنا بالجواب؟ أهي الحقيقة عارية أظهرها للناس، أم أنا أصيح بها: هيا البسي ثوبك أنيقًا، وتبرجي واخرجي؛ ففي الصالون زائرون يبغون التعرف إليكِ؟
إن أهل القلم أكبر مزوري الدنيا، وإني ما دونت سطرًا، وما حاضرت في جمع، وما خطبت في حفلة إلا واشرأبت في نفسي موجة عارمة حارقة، يطلقها الضمير؛ فأحاسب نفسي أصادق أنا فيما أقول وفيما أكتب؟
فالقانون يعاقب الطبيب، والصيدلي، وسائق السيارة، إن أخطأ أو تعمد الجريمة، أما مطلق الآراء — كتابة أو خطابة — فله أن يكذب ويضلل، وليس من يحاسبه، بل إن جمهور الناس قد نسجوا حول الأديب هالة تروعهم؛ فهم يقبلون على القراءة مأخوذين بسحر الكلمة المطبوعة، ويصغون بخشوع لأي متكلم ترسخت شهرته.
إذن فكان الأصح أن يُحَوَّرَ هذا السؤال؛ فيمسي: «ما يجب أن يكون مذهبك؟» فقليلون يحيون مذهبًا. إنه ثوب نتزين به في الأعياد والحفلات وأيام العطلة، وإن اتفق أن لقيت من يؤمن أن أجمل ما في الفن هو الصدق، وأرخم ما في الحياة هي الحقيقة؛ فقلما يكون هذا الذي تلتقيه من الفنانين، أو من القادرين على الإفصاح عن الحقيقة كتابة أو خطابة.
أما أنا فقد اعتنقت في حياتي مذاهب ثلاثة: فلقد كنت حتى السادسة عشرة أدين بقرويتي الضيقة، فأنا ابن الضيعة في لبنان، أؤمن بعائلتي، بتفوقها، بأحقادها وصراعها مع جيراننا من أجل سؤددها، وهذه العائلية القروية ارتدت الطائفية، وامتشقت سيفًا، واعتمرت خوذة؛ فأنا درزي، والدروز أشجع أهل الأرض، وأنبلهم، وكل من عداهم لا بأس أن يعيش على وجه الأرض، ولكنه يجب أن يكون خانعًا ذليلًا مطيعًا للدروز، بل لعاصمة الدروز، بلدة اسمها «بعقلين»، هناك حيث تتبوأ عرش الآلهة — عائلة تقي الدين — يزبطر بينهم ذلك الجبار العبقري سعيد، مصوبًا إلى الدنيا طربوشه الأحمر فوق حاجب، قوسه أفق العالم.
وراحت الحياة تفكك عقدًا في النفس وتصوغ سواها، فأنا متحرر من قرويتي، وعنصريتي، كافر بهما، ولكني بدأت أعبد — صدقت فمن سواه أعبد ذلك الجبار العبقري سعيد؟ صليت له، ومجدته طوال ثلاثين سنة، كانت لتعظيمه مؤلفاتي، وفي سبيل عزه الأموال التي جنيت، ولإذاعة صيته الإحسان الذي بذلت، ولتخليد اسمه النادي الفخم — نادي متخرجي الجامعة الأمريكية — الذي بنيت، كان مغرمًا بنفسه حين عشق الفتاة التي تزوج، وبعد أن صارت ابنتهما صبية، كانت الجماهير تصفق لظفره، حين تصفق لموسيقى تعزفها ابنته على «البيانو».
واستفقت، لا، إن الإفاقة لا تكون عفوية ولا فجائية، تبدأ أولًا بشعور وعي يرافقه خدر، يتلاشى ببطء مؤلم لذيذ. كنت في بلادي حين انفتحت عيناي، في مغتربي، في الشرق الأقصى، «الفلبين»، كنت أصيح بالناس أخبرهم من أنا، ومن هي أمتي. حين استفقت في بلادي لم أسأل نفسي من أنا؟ وكدت أسمرهما هناك بين قدمي، ولكن يدًا امتدت إلى ذراعي وشدت عليها، وإذا هنالك كتاب ضخم كبير بعضه كلمات مطبوعة، وبعضه دماء، وبعضه صفحات لا يحل رموزها إلا ذلك الذي يستثيره الإيمان، وبين وريقات ذلك السفر صفحات بيضاء تدعوك أن تملأها أنت؛ لأن هذا لكتاب الكبير الضخم — سفر مذهبي — يبشر أن فينا قوة لو فعلت؛ لغيرت وجه التاريخ، فافعل واملأ ما تريد من الصفحات على قدر عزمك ومواهبك.
كاذب مَنْ يقول لك: إنه اعتنق مذهبًا، لسبب واحد من الأسباب، أكثرنا يرث المذهب الذي يعتنق، مذهبي ما جاءني وراثة، وكاذب أنا إن قلت: إنه يمثل، مائة بالمائة، كل ما أصبو إليه، ولكنه — هذا المذهب — يجيب السؤال الكبير، الذي تمتمته حين استيقظ وعيي «من نحن؟» لا «من أنا؟» وما يجب أن نكون؟ ويخط الطريق إلى الوصول إلى ما يبتعد عنا كلما سرنا إليه؛ لأننا كلما علونا امتد أفقنا وابتعد، ذلك القوس تحت الطربوش الأحمر، هو أبدًا في اتساع وابتعاد.
وهذا المخطط لا يرسم لك الطريق فحسب، إنه لا يعطيك الخارطة، بل هو يقول لك: إن الخارطة والطريق وعزمك على السير والسير عليها، هي كلها عملية موحدة لا تتجزأ، فما أنت بصاحب مذهب إن لم تسر، وتختط، وتحمل خارطة وتسير على الدرب، الدرب الوعرة التي لا يقصرها إلا سرعة سيرك.
مذهبي هو إذن قوميتي أعمل لها في جهاز اسمه حزب.
لِمَ الحزب؟ الحزب هو الإيمان؛ فليكن إيمانك في نفسك، واعمل له منفردًا مستقلًّا، لِمَ الحزب؟ لِمَ النظام يقولبك ويشل نشاطك، ويفرض عليك قيودًا ليست من صنعك؟
لِمَ الحزب؟
لِمَ الجيش للدولة؟ لِمَ الملاحون للمركب والطائرة؟ كل مذهب ليس له جهاز تنفيذ ما هو بمذهب؛ إنه رأي لا قيمة له، قد يتبادر إلى الذهن أن الفرد يصح أن يكون جهاز المذهب، قد يصح هذا على بعض المذاهب: الوجودية تقدر أن تمارسها وحدك، الرمزية في الشعر يكتبها قلم واحد تحركه يد واحدة، أما القومية، وهي تهدف إلى تقوية مجتمع؛ فلن يكون الفرد فيها فعالًا كل الفاعلية إلا إذا انصهر في جهاز يفولذه، النظام يُبْقِيْ القوة — بعض هذه القوة هي الحرية — بتنفيذ الواجب.
ولفظة «انصهر» هنا ما هي بخمسة أحرف: إنها التخلي عن الكثير، واحتمال الكثير، والتعود على أشياء غير مألوفة قد تكرهها، والتسلط على الكثير، ومحق الكثير، مصاعب فكرية، وجسدية، ومناقبية، تقحمها، وكلما غلبت واحدة منها استشعرت بالقوة؛ فلا تتحقق أن هذا المذهب قد فعل في نفسك إلا بقدر ما هو يعبأ فيها من قوى، فتأتيك — أو تترسخ فيك — الشجاعة الجسدية والأدبية، وتستقيم مقاييسك حتى لتمشي حافيًا، وتحس أنك منتعل جزمة عسكرية؛ وينتهي بك الأمر إلى الاكتشاف أن هذا المذهب الذي صهرك فردًا في فريق مقاتل، وسحق أنانيتك من أجل خير مجتمع وأمة وشعب ووطن، قد عززك فردًا؛ فتشع تلك النون القابعة بين سروتي الألف؛ فإذا أنت حين تسمع سؤال «من نحن؟» لا تغض الطرف؛ لأن «أنا» هي جزء من «نحن»، وإذن أنت إنسان أقرب إلى الله، وأحب إلى الجيران والمواطنين، وإذا أنت إنسان أرفع؛ لأنك مواطن أفضل.
يقول علماء الذرة: إن ذرات جسد الإنسان تتغير، أو يتغير منها ٩٨ بالمائة كل سنة، فهل يتغير الإنسان مرة كل سنة؟
مذهبي فتى يبقى دائمًا في ريعان الشباب، إنه ربيع الحياة الدائم؛ لأنه حركة حياة، إنها حركة توحي بأكثر مما هي تنص، إن ذراتها تستبدل ليتجدد جسدها، ويفعل عقلها.
مذهبي هو الحركة السورية القومية الاجتماعية، التي تُعلي شأن الفرد حين تجنده نفرًا في جيش، وتسير بنا نحو الحلم الكبير لتحقيق الإنسانية الشاملة، حين تُعد إحدى وحدات هذه الإنسانية — أمتنا — فتجعل منها مجتمع حرية وقوة وواجب ونظام.