مخلب النسر!
وفي الحال ألقى الشياطين بأنفسهم من باب الطوارئ واحدًا وراء الآخر، بعيدًا عن الطائرة المحترقة … وسرعان ما كان قائد الطائرة المشتعلة يُغادرها أيضًا قافزًا بمظلته قبل أن تنفجر الطائرة المحترقة … وتتحوَّل إلى شظايا متناثرة من اللهب في الفضاء!
وانفتحَت مظلات الشياطين وبدءوا يهبطون إلى البحر عندما استدارَت الطائرة المهاجمة نحوهم مرة أخرى. كان واضحًا أن الطائرة سوف تُكمل مهمتَها باستخدام المدافع الرشاشة ضد الشياطين وهم يتأرجحون في الهواء ولا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. وصاح «رشيد» بغضب هائل: هؤلاء المجرمون سيضربوننا بالرصاص ونحن عُزَّل من السلاح! وفتحَت الطائرةُ المهاجِمة نيران رشاشاتها وهي تدور بسرعة حول الشياطين …
كان الموقف يائسًا حتى إن «إلهام» أغمضَت عينَيها وقد تخيَّلَت النهاية … وفجأة … جاءَت النجدة من حيث لا يتوقع أحد … فمن وراء الأفق ظهرَت طائرتان من نفس طراز الطائرة المهاجمة «إف ١٥»، وراحتَا تصبَّان نيرانَها حول الطائرة المهاجِمة التي تركَت الشياطين وحاولَت أن تفرَّ، ولكنَّ الطائرتَين حاصرتاها، وبتصويبةٍ دقيقة من إحداها انطلق صاروخ من أسفل جناحها الأيمن لينفجر في الطائرة المهاجِمة فيُحولها إلى كتلة من النار واللهب.
وهلَّل الشياطين بسرور! وحلَّقَت الطائرتان حول الشياطين مرتين ولوَّح لهما الطيَّاران بأيديهما علامةَ النصر ثم اختفيَا في الأفق …
وتهادَت مظلَّات النجاة حتى سُلَّم البحر، وسرعان ما كانوا يستقرون فوق قواربهم المطاطية التي امتلأَت بالهواء حال نزع سدادتها.
وهتفَت «إلهام» بسعادة غامرة: لقد جاءت الطائرتان في اللحظة المناسبة!
ابتسم «أحمد» قائلًا: أظن أن رقم «صفر» تدخَّل أيضًا في اللحظة المناسبة وإلا ما جاءَت هذه النجدة العاجلة.
ومن بعيد ظهَر زورقٌ بخاريٌّ كبير سريع راح يشقُّ الماء بسرعة كبيرة مقتربًا من الشياطين، وهدَّأ من سرعته حتى توقَّف بجوارهم. وكان الزورق يحمل عَلَمًا للبحرية الأردنية، وألقى إليهم ركَّابه بالسلالم المصنوعة من الحبال فصَعِد الشياطين ووجدوا في انتظارهم ملابسَ جافة، فأبدلوا ملابسَهم، وسرعان ما كانت حجرة اللاسلكي تنتظرهم حيث أخبرهم قائد القارب بأن هناك اتصالًا هامًّا في انتظارهم … وعلى الفور أدرك الشياطين أنها لا بد وأن تكون من رقم «صفر» ليوضح لهم شيئًا من غموض الأحداث السريعة المتلاحقة التي مرَّت بهم.
دقَّ جهازُ الإرسال فأسرع «أحمد» يرفعه ويتلقَّى الرسالة. وجاء صوت رقم «صفر» يقول: حمدًا لله على سلامتكم! أظن أن طائرتَي الإنقاذ جاءتَا في الوقت المناسب وكذلك زورق الإنقاذ …
تساءل «أحمد»: ما هي هوية الطائرة التي هاجمَتنا؟! ولماذا؟!
ردَّ رقم «صفر»: إنها بلا شك تابعةٌ لعصابة «قبضة الموت»، وأظن أنه يكمن خلفها جهازُ مخابرات لدولة معادية؛ فالعصابة لا تملك هذا النوع من الطائرات …
قال «أحمد»: هل لهذا الهجوم الذي حدث ضدنا … علاقةٌ بمهمتنا التي استدعينا من أجلها؟
رقم «صفر»: بالتأكيد … وسأشرح لكم كلَّ شيء من البداية.
وصمت رقم «صفر» لحظة ثم قال: أنتم تعلمون أننا نعتمد في الوطن العربي في تسليحنا على العديد من الدول والشركات العالمية التي تمدُّنا بالأسلحة … وهو موقفٌ خطير بلا شك؛ لأنه يجعلنا في قبضة هذه الدول والشركات الأجنبية وسياستها العالمية؛ فهي تستطيع أن تُمليَ علينا شروطًا قاسية أو أثمانًا عالية، بل وربما تمنع توريد الأسلحة إلينا كنوع من الضغط لتغيير مواقفنا السياسية وهو ما حدث من قبل … وفي أحيان أخرى فإن هذه الدول أو الشركات الأجنبية قد تلجأ إلى إيقاف توريد قِطَع الغيار لطائراتها ودباباتها أو غيرها من الأسلحة كنوع من الضغط أو المساومة … وهو ما يضع حكومتَنا العربية في مواقف دقيقة!
وصمت رقم «صفر» لحظة أخرى، كان يراجع تقريرًا أمامه ثم قال: ومن أجل تقليل اعتمادنا على الخارج في التسليح؛ فقد فكرَت بعضُ الحكومات العربية في تطوير ما لديها من أسلحة؛ خاصةً والدول الكبرى ترفض تزويدنا بالأسلحة المتطورة في حين يملكها أعداؤنا، ولهذا قررنا أن نطوِّر ما لدينا من أسلحة، وبدأ مشروع ضخم في غاية السرية في إحدى القواعد الحربية منذ سنوات … وكان هدف هذا المشروع تطوير طائرة «الميج ٢١» القديمة الطراز لتنافس إحدى الطائرات العالمية المقاتلة، وأطلق على ذلك المشروع السري «مخلب النسر» …
وهكذا استمرَّت تلك التجارب في سرية تامة حتى لا نتعرضَ خلالها لضغوط ما تُوقف المشروع، وكان المشروع يهدف إلى تطور «الميج ٢١» لتزيد حمولتُها إلى الضعف، وكذلك سرعتها وأقصى مدى لها، بحيث لا تقلُّ مثلًا عن الطائرة الأمريكية الحديثة «إف ١٦». هذا بالإضافة إلى زيادة سعة خزاناتها وإمكانية ملئها بالوقود وهي في الجو، وخلال الأسابيع القليلة الماضية انتهَت عملية التطوير للطائرة الميج، وتقرَّر البدء في تجربتها كمرحلة أخيرة في المشروع.
تبادل الشياطين النظراتِ في صمتٍ ترقُّبًا لما سيسمعونه، وأكمل رقم «صفر»: لقد تمَّت التجربة على الطائرة المعدلة، وكان ذلك منذ أسبوعين، فأقلعَت بنجاح تام من قاعدتها، ولكنها لم تَعُد حتى الآن!
تبادل الشياطين نظراتِ الدهشة! وتساءل «عثمان»: هل اختطُفَت؟! … هل تحطَّمَت؟!
رقم «صفر»: إننا لا ندري مصيرَها حتى هذه اللحظة … ففي أولى التجارب العملية على الطائرة اتجهَت نحو الصحراء لتُجريَ بعضَ المناورات، وكانت الطائرة مرصودة بالرادار وعلى اتصال مستمر بقاعدتها، وكان آخر مكان تمَّ رصدُ الطائرة بالرادار فوقه بالقرب من خط العرض «٣٠» شمالًا وخطَّي الطول «٤٤» و«٤٦» فوق الصحراء، وكان آخر ما أرسله مهندس الاتصال بالطائرة شكوى من عدم وضوح الإرسال والاستقبال مع القاعدة الجوية … ثم انقطع الإرسال تمامًا!
رشيد: وهل تم مسح تلك المنطقة بحثًا عن «مخلب النسر»؟!
رقم «صفر»: هذا هو ما حدث بالفعل خلال الأسبوعين الماضيَّين؛ فقد انطلقَت بعثات البحث والإنقاذ تحسُّبًا لاحتمال تحطم الطائرة لسبب ما وارتطامها بالأرض، ولكننا لم نعثر على أيِّ أثر لها!
أحمد: لعلها اتجهت بعيدًا عن تلك المنطقة التي قمتم بالبحث فيها …
ردَّ رقم «صفر» بصوت عميق: ولو كانت قد اتجهَت للخليج وسقطَت في مياهه لرصدَتها عشرات السفن والطائرات التي تجوب مياه الخليج، ولَعَلمْنا بذلك على الفور.
قطَّب «أحمد» جبينَه وقال بعد لحظة: لعلها اتجهَت إلى دولة معادية!
ردَّ رقم «صفر» بنفس الصوت العميق: لقد بحثنا هذا الاحتمال أيضًا وثبَت عدمُ صحته لعدة أسباب، كما أن هذه الطائرة لا يمكنها الطيران على ارتفاعات منخفضة وهي الخاصية التي تمكِّن أية طائرة تطير على ارتفاع منخفض من الهروب من رَصْدها بالرادار، فهي لا تستطيع الطيران إلا على مسافات عالية … وبذلك فإن أية محاولة لخروجها من المجال الجوي العربي كان سيتمُّ رَصْدُها حتمًا، هذا بالإضافة إلى أن طياري الطائرات الثلاث من أشهر وأكفأ طياري سلاح الطيران، وسجلُّهن الوطني نظيف … ورائع ولا تشوبه أيةُ شائبة، فلا يمكننا أن نتهمهم باختطافها إلى مكان ما …
تساءلَت «إلهام» بدهشة: إذن أين اختفَت الطائرة؟!
ردَّ رقم «صفر»: هذا هو السؤال الذي ستُجيبون عليه، وهناك شيءٌ هامٌّ لا بد وأن تُدركوه وهو أن شركات الأسلحة العالمية هي التي تقف خلف هذه العملية؛ فقد توصَّلَت بطريقة ما إلى معلومات عن ذلك المشروع، فساءَها ذلك؛ لأنه سيقطع عنها موردًا ماليًّا ضخمًا؛ فبنجاح التجارب على «مخلب النسر» لا شك أن الحكوماتِ العربيةَ سوف تفعل نفسَ الشيء بالعديد من أنواع الأسلحة فيقلُّ الاعتماد على شرائها من الخارج، وهو ما يقلِّل من أرباح شركات الأسلحة وبعض الحكومات الأجنبية التي تُورِّد السلاح إلينا؛ ولذلك فقد عَهِدت هذه الشركات إلى عصابة قوية تُدعَى «قبضة الموت» بإفساد مشروع «مخلب النسر». ولما كان من المستحيل على تلك العصابة أو أجهزة المخابرات التي تقف خلفها أن تتسلَّل إلى القاعدة التي تُجري عليها التجارب؛ لذلك انتظروا انتهاءَ التجارب على الطائرة، ثم استطاعوا الحصولَ عليها بطريقة ما.
وسكَت رقم «صفر» وساد صمتٌ ثقيل …
وتساءل «أحمد» بعد لحظة: و«مخلب النسر» … لا تزال موجودة في منطقة ما من الصحراء؟!
ردَّ رقم «صفر»: هذا مما لا شك فيه، بل تحديدًا إنها لا تزال في صحراء الحجارة ووادي الباطن … وإن مهاجمة الطائرة «إف ١٥» لطائرتكم يؤكِّد ذلك؛ فهم يحاولون منعَكم من مواصلة البحث عن الطائرة المفقودة، ولا بد أنهم علموا بأمر مهمتكم القادمة من قبل أن تعلموا أنتم بها!
هتف «عثمان»: حسنًا … إن لهم دَينًا في رقبتنا، ونتمنَّى أن نقابلَهم لنردَّه إليهم.
رقم «صفر»: لا شك في ذلك … ستبدءون مهمتَكم من مدينة «السلمان» العراقية على حدود صحراء «الحجارة» باعتباركم طلبةً عربًا تدرسون الجيولوجيا في جامعة «بغداد»، وفي مهمة علمية لدراسة طبقات الصحراء العراقية، وستجدون هناك كلَّ التسهيلات التي تحتاجونها، وسوف يقدِّمها لكم أحدُ عملائنا هناك؛ فهو على علمٍ تامٍّ بمهمتكم، كما أنه أحدُ الذين شاركوا في البحث عن «مخلب النسر»، وستكون معلوماتُه مفيدة لكم بالقطع في هذا الشأن … هل هناك أية استفسارات؟ لم يسأل أيٌّ من الشياطين … وقال رقم «صفر» أخيرًا: حسنًا … سوف تحلِّق طائرة هليكوبتر بعد دقائق فوق الزورق فاستقلُّوها، فسوف تنقلكم إلى المكان المحدد لبدء المهمة … مع تمنياتي بالتوفيق. وانقطع الاتصال وتبادَل الشياطين النظراتِ في صمت، لقد كانت مهمة في غاية الخطورة … وقد جاءَت على غير انتظار!
وصَعِدوا لسطح الزورق الكبير … وبعد دقائق أقبلَت هليكوبتر حربية حامَت فوق الزورق ثم تدلَّى منها سُلَّم من الحبال صَعِده الشياطين إلى قلب الطائرة … وسرعان ما كانت تحتويهم في جوفها وتُقِلُّهم إلى مدينة «السلمان».
هبطَت بهم الطائرة في منطقة صحراوية، وهناك كانت سيارة أتوبيس صغيرة بانتظارهم حملَتهم باتجاه مدينة «السلمان» حتى لا يُثيروا ريبةَ أحدٍ بوصولهم بالهليكوبتر … على حين حلَّقَت الهليكوبتر عائدةً من حيث أتَت …