الموت … في مكان ما!
بعد منتصف الليل بنصف ساعة؛ كان الشياطين يغادرون الفندق الصغير وقد ارتدوا ملابس خاصة بمهمتهم، عبارة عن بِذْلات أشبه ببِذْلات رجال الصاعقة وأحذية خفيفة وكاب صغير لاتقاء حرارة الشمس، علاوة على أسلحتهم الصغيرة الخفيفة التي أخفَوها بأماكن متفرقة من أجسادهم. وبأسفل كانت هناك سيارتان جيب ذات عجلات عريضة خاصة بالسير في الرمال والطرق الصحراوية، وكانت مكدسة بالماء وزجاجات العصير والأطعمة المختلفة الخفيفة والنظَّارات المقرِّبة وبعض أدوات الحفر مما يستعملها طلبةُ كلية الجيولوجيا، وفي ركنٍ خفيٍّ بكل سيارة صندوق امتلأ بمختلف أنواع المسدسات والبنادق الآلية والقنابل اليدوية وغيرها مما يستعمله الشياطين في مهمَّاتهم …
وفي مقدمةِ كلِّ سيارة كان هناك جهازُ اتصال لاسلكي بعيد المدى وبوصلة صغيرة.
تأمَّل «أحمد» السيارتَين وقال بإعجاب ﻟ «عدنان»: أظن أننا نستطيع أن نشنَّ حربًا بهاتَين السيارتَين!
ردَّ «عدنان»: إنهما مجهَّزتان لتلبية كافة احتياجاتكم بالصحراء … إنَّ فقْدَ الطريق أو نقصَ الماء لا يعني إلا شيئًا واحدًا … الموت!
أشار «أحمد» إلى الجيب الأولى، وقال: سأستقلُّ هذه السيارة أنا و«عثمان» و«إلهام»، وسنأخذ الطريقَ الأول المتجه إلى مدينة «الزبير»، أما بقيَّتُنا، وهم «خالد» و«رشيد» و«ريما» فسوف يتجهون بالسيارة الثانية نحو الطريق الآخر إلى حدود المملكة العربية السعودية، وسوف نعود مساءً لنتقابل هنا لتُعِدَّ كلُّ مجموعة تقريرًا بما صادفَته، وبناءً عليه سيتقرر اختراقنا للصحراء … وسوف نكون على اتصال بأجهزة اللاسلكي لمتابعة بعضنا باستمرار … هل هناك أية أسئلة؟
لم يسأل أحدُ الشياطين وتساءَل «عدنان»: إذا لم تعودوا في المساء التالي، فهل أُرسل في طلب مساعدة لكم؟
رمق «أحمد» عميلَ رقم «صفر» بعينَين واثقتَين وقال: إذا لم يستطع الشياطين مساعدة أنفسهم، فلا أظن أن أحدًا يمكنه تقديم تلك المساعدة لهم … إننا نتصرف دائمًا على هذا الأساس!
ابتسم «عدنان» وقال: إنكم تستحقون حقًّا لقبَ الشياطين!
وربَّت على كتف «أحمد» قائلًا: حالفكم التوفيق!
وفي لحظات قليلة أدار الشياطين محرِّكَي السيارتَين، واستقل «أحمد» و«عثمان» و«إلهام» أولاهما، واستقل بقية الشياطين «خالد» و«رشيد» و«ريما» الجيب الأخرى، وأخذَت كلٌّ من السيارتَين طريقَها المحدَّد في قلب الظلام.
كانت قد مضَت أكثر من أربع ساعات … وبدأَت أولى خيوط الفجر تلمع في الأفق الحالك، فظهرَت على البعد كأنها خيوط نورانية رسمَتها يدُ فنان ماهر في لوحة شديدة السواد …
وهتف «أحمد»: يا لَلمشهد الرائع!
عثمان: سوف يطلع النهار بسرعة، دعونا نسترِحْ قليلًا من عناء ركوب الجيب كلَّ هذا الوقت …
أحمد: إذن دعونا نتَّجهْ إلى هناك.
وسرعان ما كانت الجيب تشقُّ طريقَها مرةً أخرى وقد انبلجَ النهار تمامًا … ومن بعيد ظهرَت عدة مبانٍ حجرية صغيرة إلى اليسار من الطريق كان واضحًا أنها تخصُّ المنجم المهجور، وانحرف «أحمد» بسيارته داخل الرمال حتى توقَّف أمام المباني الحجرية المهجورة، ومن بعيد بدَت فُوَّهةُ المنجم القديم الغائرة في الأرض … ومن الخلف ظهر ممرٌّ صغير يصلح لهبوط طائرة الإمدادات التي تأتي بالأطعمة والمياه لعمال المنجم وتقوم بنقلهم، وكان الممر مغطًّى بالرمال الكثيفة التي افترشَته بسبب الإهمال.
لم تكن هناك أية حياة بالمكان، وبعد أن تفحَّصَه الشياطين الثلاثة لم يجدوا ما يَريبُ به، فعادوا إلى الجيب التي قادها «أحمد» ليشقَّ الطريق باتجاه الشرق، وعلى مسافة ظهرَت مباني المنجم الثاني … وكان يسوده الهدوءُ والسكون، وأوقف «أحمد» الجيب على مبعدة وهبط ثلاثتُهم مقتربين من المباني الصغيرة المصنوعة من الخشب السابق التجهيز والألومنيوم أيضًا المستخدم للإدارة ولنوم العاملين ومعيشتهم. ومن الخلف وعلى مسافة حلَّقت طائرةٌ عتيقة من طائرات الحرب العالمية الثانية ثم هبطَت فوق ممرٍّ صغير خلف المساكن القليلة المتناثرة، وسرعان ما اندفع إليها بعضُ العمال ليقوموا بتفريغها من المواد التموينية والمياه والأغذية …
واقترب الشياطين الثلاثة من أحد العمال الذي أبدَى دهشتَه لوجودهم في ذلك المكان القاحل، إلا أنه أخفى دهشتَه ورحَّب بهم، وقالت «إلهام» بمودة: إننا بعض الطلبة ونقوم بدراسة هذه المنطقة وطبيعتها الجيولوجية، وقد نفدَ ماؤنا ونحتاج إلى بعض الماء.
وأكمل «أحمد»: سنكون شاكرين لو حصلنا على قليل من الطعام أيضًا.
ردَّ العامل: يمكنكم أن تُقابلوا مستر «جيمس»، فهو المسئول هنا ولا بد أنه سيُجيبكم إلى طلبكم برغم شراسته مع العمال المحليِّين … إنه المدير هنا منذ أُنشِئَ هذا المنجم بعد إغلاق المنجم القديم القريب منذ عام.
وقادهم العامل إلى مبنًى صغير معدني، وبالداخل استقبلهم مستر «جيمس» مندهشًا، وكان أجنبيًّا يتحدث العربية بشيء من التعثُّر، وعندما عَلِم بمهمَّتِهم التي شرحَها له «أحمد» أمر العمال بإحضار بعضِ الماء والطعام والفاكهة وحمل الشياطين الثلاثة المئونة إلى سيارتهم و«جيمس» يتبعهم في فضول إلى السيارة وهو يتأمل محتوياتها … وأدار «أحمد» موتورَ السيارة وقبل أن ينطلق بها.
التفَت «أحمد» إلى «جيمس» وسأله: هل تَصِل الكهرباء إليكم من مدينة «السلمان» لتستخدموها في إنارة المكان ليلًا؟
ضحك «جيمس» قائلًا: هذا مستحيل … فهو يتكلَّف عشرات الملايين والمنجم ليس كثيرَ الربح، فهي عملية غير اقتصادية، إن هناك بضعة مولدات صغيرة تمدُّنا بالكهرباء وهي تكفي للإنارة.
شكره «أحمد» وانطلق بالسيارة ونظر «عثمان» و«إلهام» نحو «أحمد» بدهشة لسؤاله الغريب عن مصدر الكهرباء، وهتف «عثمان» بشك: هل وجدت في المنجم ما يريبك يا «أحمد»؟!
التفتَ «أحمد» إلى «عثمان» بعينَين ضيقتَين قائلًا: نعم … إن هذا المنجم مريب فعلًا!
وكان قد ابتعد بالسيارة لبضعة كيلومترات فدارَ بها خلف بعض التلال الصخرية، وأوقفها بحيث لا يمكن رؤيتها من المنجم … وقفز من السيارة هاتفًا في رفيقَيه: اتبعاني … فتَبِعه الاثنان وتسلَّقوا أحدَ التلال العالية.
وأمسك بنظَّارته المقرِّبة وراح يوجِّهها نحو المنجم وهو يتفحَّص كلَّ شبر فيه … ولم تستطع «إلهام» أن تكتم فضولها أكثر من ذلك فهتفَت: إنني لم أفهم ما الذي جعلك تشكُّ في ذلك المنجم يا «أحمد»!
أبعد «أحمد» النظارة عن عينَيه، وقال: ألم تلاحظي شيئًا غريبًا في ذلك المنجم … إن المنجم السابق كانت المباني الإدارية به وأماكن لنوم العاملين من الحجارة، أما هذا المنجم الجديد والألومنيوم وهذه الخامات فمبانيه من مواد سابقة التجهيز من الخشب ترتفع درجة حرارتها بشدة في حرِّ الظهيرة فتصير جهنم، وهي بالتأكيد تحتاج إلى أجهزة تكييف ضخمة لتجعل الحياة محتملة بداخلها.
أكملَت «إلهام» وقد فهمَت ما يقصده «أحمد»: وهذا معناه أن هناك مصدرًا ضخمًا جدًّا للطاقة بالمنجم!
– هذا صحيح … ونظرًا لكذب «جيمس» علينا؛ فليس هناك أدنى شكٍّ في أن المنجم به ما يريب … وليس من المستبعد أن يكون له علاقة باختفاء «مخلب النسر»، خاصةً وأن هذه المنطقة فقيرة في خام الحديد الذي يشكِّل استخراجُه خسارةً اقتصادية كما أن …
والتمعَت عيناه بشدة وهتف: كيف فاتني ذلك؟! «إلهام» أسرعي واتصلي ببقية الشياطين في الجيب الثانية، واطلبي منهم أن يقطعوا رحلتهم ويأتوا إلى هنا فورًا … إنني واثق مليون في المائة أن «مخلب النسر» تختفي في مكان ما قريب من هذا المنجم.
لم تناقشه «إلهام» فيما قاله وقفزَت بسرعة نحو السيارة، وأخذَت تحاول الاتصال بالمجموعة الثانية بلا فائدة؛ فقد كان هناك ما يُشبه الطنين الخافت يصدر من الجهاز وتذكَّرت «إلهام» ما حدث للطائرة المفقودة، فأسرعت عائدةً إلى «أحمد»، وقالت لاهثة: يبدو أن هناك جهازًا ضخمًا للتشويش يقوم بتعطيل الإرسال والاستقبال في جهاز اللاسلكي!
هزَّ «أحمد» رأسه قائلًا: إذن فقد صحَّت ظنوني … إننا في عرين الأسد بالفعل … لا بد أنهم شكُّوا فينا أيضًا! وفي نفس اللحظة دوَّت صيحة «عثمان»: انظروا هناك خمس سيارات جيب مسلحة تتجه نحونا … لا بد أنها سيارات عصابة «قبضة الموت»! وأطلَّت رءوس الشياطين الثلاثة من فوق التل بالنظَّارات المقرِّبة، ومن بعيد لاحَت السيارات تقطع الطريق باتجاههم بسرعة بالغة. فقفز «أحمد» من مكانه هاتفًا: هيَّا بنا فلا وقتَ لإضاعته لقد انتظروا حتى ابتعدنا عن المنجم، ولم يشاءوا مهاجمتَنا هناك حتى لا يُثيروا شكَّ العمال المحليِّين. إن المواجهة مع هؤلاء المسلحين في ذلك العراء لن تكون في صالحنا قطعًا … دعونا نستدرجهم إلى منطقة صخرية قريبة حتى يسهل قتالهم هناك.
وقفز ثلاثتُهم داخل الجيب التي أطلق لها «أحمد» العنان، ومن الخلف انطلقَت المدافع الرشاشة نحوهم كالسيل المنهمر، وضغط «أحمد» فوق دواسة البنزين، فمرقَت الجيب بأقصى سرعتها فوق الطريق الرملي مثيرةً عاصفة من الرمال … وأخذَت المسافة بينها وبين السيارات المطاردة تتَّسع وتتَّسع وسيارة الشياطين تقترب من بعض الصخور التي تشكِّل حاجزًا جيدًا للحماية.
وفجأةً، ظهرَت طائرة صغيرة في الأفق وراحَت تقترب من الأمام بطريقة بالغة الخطورة حتى كادَت تصطدم بهم، وصرخَت «إلهام»: حاذر يا «أحمد»، وأدار «أحمد» مقود السيارة بطريقة بالغة الخطورة ليتفادى الطائرة.
ولكن تصرُّفه جاء متأخرًا؛ فقد أطلقَت الطائرة صاروخًا أصاب الأرض أسفل مؤخرة السيارة على بُعْد أمتار قليلة منها، فانقلبَت السيارة فوق الرمال عدة مرات وقد اشتعلَت فيها النيران.