ليس يومنا!
كان الأمرُ أشبهَ بالجحيم الذي لم يرَه أحد قبلًا … واشتعلَت النار بالسيارة وهي تكاد أن تلتهمها التهامًا … ولحسنِ الحظِّ فإن الإصابة كانَت في مؤخرة السيارة التي انقلبَت إلى شعلة نارية، وكان الأمر يهدِّد بكارثة فلا بد أن تطول النار صندوق الأسلحة والقنابل وعندئذٍ ينفجر كلُّ شيء بالسيارة ويتحول إلى شظايا!
أدرك «أحمد» ذلك برغمِ الدويِّ المفزع الذي راح يطنُّ في رأسه وهو ملقًى بداخل كابينة السيارة المنقلبة … وأحسَّ بشيء ساخن لَزِج يلمس بشرتَه الملتهبة … كانت جبهتُه تَدْمَى بلا شك، وتنبَّه تمامًا وهو يحاول السيطرة على جسده وعضلاته، كانت «إلهام» بمنتصف الكابينة وقد فقدَت وعْيَها، أما «عثمان» فكان يدفع الباب الآخر مستخدِمًا يدَيه وقدمَيه في ضربات متوالية … وأخيرًا انفتح البابُ فقفز «عثمان» إلى الخارج ولم تكن به أية إصابة، فهتف «أحمد» به: أَخْرِج «إلهام» عن تلك النار!
أسرع «عثمان» يحمل «إلهام» فوق كتفه ويعدو بها بعيدًا، وغادر «أحمد» السيارة من باب القيادة بصعوبة … ولم يصدِّق عينَيه وهو يرى النار التي أحاطَت بالسيارة من كل جانب! إن الحظ الذي ساندهم كثيرًا من قبل لم يتخلَّ عنهم تلك المرة أيضًا … ومن بعيد ظهرَت السيارات الخمس المطاردة لهم وهي تقترب منهم على حين ابتعدَت الطائرة المهاجِمة الصغيرة التي أصابَت سيارتهم الجيب.
وصرخ «عثمان» في «أحمد» ابتعد عن الجيب يا «أحمد» … سوف تنفجر بسبب ما تحمله من وقود وقنابل. ولكن «أحمد» كان يُدرك أن الموقف ميئوس منه بالفعل؛ فوجودهم في تلك الصحراء العارية بلا سلاح سيجعلهم صيدًا سهلًا لهؤلاء المهاجمين، ولن يزيدَ مصيرُهم عن الأَسْر أو القتل … ولم يكن هناك سوى تصرُّفٍ وحيد … وبجرأة بالغة اندفع يقتحم السيارة المشتعلة، كان يعرف مكان صندوق الذخيرة، ولم يكن بحاجة إلى أن يستخدم عينَيه للبحث عنه فغطَّى وجهَه بذراعه ليحميَه من النيران، وبالذراع الأخرى تقلَّصت أصابعُه فوق صندوق الذخيرة وجذبه إلى الخارج، وفي لحظة خاطفة كان يعدو به مبتعدًا عن السيارة المشتعلة.
لم يستغرق الأمر أكثر من ثانيتَين، وفي الثانية الثالثة انفجرَت السيارة فانبعث منها لهيبٌ ودويٌّ شديد …
واستعادَت «إلهام» وَعْيَها على صوت الانفجار، وسرعان ما كانت تتذكَّر كلَّ ما حدث فصرخَت بفزع: «أحمد»!
وشاهدَت «عثمان» وهو يزحف ويساعد «أحمد» المصاب على الزحف أيضًا … كان الاثنان يزحفان مبتعدين عن مكان السيارة المنفجرة و«أحمد» يجرُّ صندوقَ الذخيرة معه برغم إصابته الواضحة والحروق الخفيفة التي ملأَت ساعدَيه.
وما كادَت «إلهام» تندفع جارية نحوهما حتى انهال الرصاص نحوها من سيارات العصابة كالمطر.
فصرخ «أحمد» بها: تَوارَي يا «إلهام»!
فقفزَت «إلهام» عائدةً إلى مكمنها خلفَ بعض الصخور … وواصل «أحمد» و«عثمان» زحفَهما وما كادَت السيارات الخمس المهاجمة تتوقَّف على بُعْد أمتار قليلة حتى كان «أحمد» و«عثمان» قد تواريَا خلف الصخور بجوار «إلهام»، وقد نجح «أحمد» في إنقاذ صندوق الذخيرة، وأسرع «عثمان» يستخرج من الصندوق عددًا من المدافع الرشاشة والمسدسات ويحشوهما بالرصاص بسرعة، في حين تألَّقَت الدموع في عينَي «إلهام» وهمسَت ﻟ «أحمد»: هل إصابتُكَ خطيرة؟
ابتسم «أحمد» برغمٍ عنه قائلًا وهو يُربِّت على يدِها مُطَمْئِنًا: ألَم أُخبرْكِ من قبل بأنني أستمدُّ قوَّتي من وجودِك بجواري؟ فكيف تستطيعون التخلُّصَ مني إذن؟! وتأمَّل ساعدَيه وكفَّيه وهو يقول: من المؤسف أن تلك الجروح والحروق البسيطة ستُخفي اللونَ البرونزيَّ الذي اكتسبته من شواطئ سيناء.
صرخَت «إلهام» في غضبٍ شديد: سوف يدفعون ثمنًا غاليًا لفَعْلتِهم الإجرامية!
وكان رجال العصابة في تلك اللحظة قد ظنوا استسلام الشياطين أو موتهم، وما كادوا يتقدمون باتجاههم حتى اختطفَت «إلهام» أقربَ مدفع رشاش إليها وأخذَت تُطلقه بدفعاتٍ متتالية نحو المهاجمين …
وفُوجئَ رجال العصابة فأسرعوا يحتمون بسيارتهم وقد سقط منهم ثلاثةُ جرحَى، وانضم «عثمان» إلى «إلهام» وأخذ الرصاص يخترق هياكل السيارات المهاجِمة، فأخذ رجال العصابة يردُّون عليهم بالرصاص … واستمر التراشق لفترة، وبدأَت «إلهام» تحسُّ بشيء من القلق فإن ذخيرتَهم سوف تنفد قريبًا وهؤلاء المهاجمون يحملون كميةً كبيرة من السلاح!
وهتف «عثمان» وهو يُلقي بقنبلة يدوية تجاه السيارات الجيب: هيَّا ذوقوا طعامَنا المرَّ أيها المجرمون! وسقطَت القنبلة أسفل إحدى السيارات فانفجرَت لتُحيلَها إلى كرة من اللهب … كان عدد أفراد العصابة يتناقص وقد أُصيب نصفهم … وهتف أحدُهم بصوتٍ عالٍ وكان يبدو أنه قائد المجموعة: استسلموا وإلَّا فلا أملَ لديكم للنجاة!
وجاوبه «أحمد» بطلقةٍ محكمة من مسدسه أصابَت القائد في كتفه وجعلَته يترنَّح ويسقط على الأرض.
وصاح «أحمد» بصوتٍ عالٍ: هذا هو ردُّنا أيها الجبناء!
وعاد التراشق بالرصاص أشد مما كانت … وفجأةً دوَّى أزيز من بعيد … وظهرَت نقطةٌ صغيرة راحَت تقترب وتقترب في الفضاء وهي تكبر … وجزَّ «أحمد» على أسنانه وهو يراقبها بعد أن اتضحَت معالمُها وقال: إنها الطائرة التي أصابَت سيارتنا … أُقسم ألَّا أجعلَ قائدَها ضمن عالم الأحياء بعد اليوم!
وأسرع يحتمي بصخرة عالية في مواجهة الطائرة … كان كلُّ ما معه مسدسه الصغير، صوَّبه بإحكام باتجاه الطائرة التي راحَت تقترب وتقترب …
وبدَا «أحمد» كتمثال لا حياة ولا حركة، وقد صوَّب مسدسَه لأعلى بيدَيه الاثنتين وبقيَ على هذا الوضع ساكنًا … كانت عيناه فقط هي التي تتحرك وتُتابع الطائرة التي تقترب في مواجهته … وكانت الطائرة تقترب بسرعة؛ فقد شاهد قائدها «أحمد» في ذلك الوضع فلمعَت ابتسامةُ سخريةٍ فوق شفتَيه وهتف لنفسه: لن يُفلتَ مني هذه المرة!
وأسرع يقترب هابطًا ويدُه فوق زرِّ إطلاق الصواريخ … كان يريد إصابةَ «أحمد» إصابةً محكمة تُنهي غرورَ ذلك الشيطان وثقتَه بنفسه. وكان هذا هو ما يريده «أحمد» بالضبط … فإن اقتراب الطائرة منه تجعل من السهل عليه إصابتها إصابةً مباشرة في خزان وقودها … وعندما اقتربَت الطائرة من «أحمد» كتمَت «إلهام» أنفاسَها ذعْرًا على حين صرخ «عثمان»: سوف يُطلق صاروخًا عليك يا «أحمد»!
وضغط «أحمد» فوق زناد المسدس وهو يصوِّبُه بدقة نحو مكان خزان الوقود بالطائرة … في نفس اللحظة التي ضغط فيها قائدُ الطائرة فوق زرِّ إطلاق الصاروخ وحدث الانفجار في لحظة واحدة؛ فقد انفجرَت الطائرة في الجو لحظة انفجار الصاروخ عند ارتطامه بالصخرة العالية التي كان «أحمد» يحتمي خلفها …
وصرخَت «إلهام»: «أحمد»! عندئذٍ جاوبها صوتٌ ضاحكٌ من الخلف: إن أجلي لم يَحِنْ بعدُ!
كان الشيطان قد أسرع متدحرجًا هابطًا لأسفل بعد أن أطلق مسدسه فلم يُصبْه الصاروخ ولم تملك «إلهام» نفسَها فتعلَّقَت برقبته وهي تجهش بالبكاء … وراقب «عثمان» المشهدَ باسمًا، وقال: حسنًا … دعونا نجعل أعداءَنا يَذْرفون بعضًا من هذه الدموع … ولتكُن دموعًا ساخنة مُرَّة المذاق!
وألقى بآخر قنبلة بالصندوق فانفجرَت على يسار إحدى السيارات المهاجِمة لتُشعل النار بها … وأفاق رجال العصابة من ذهولهم، وعاد التراشق بالنار كما كان. وفجأة توقَّف مدفع «عثمان» عن إطلاق الرصاص ونظر «أحمد» نظرةً ذات مغزًى، لقد نفد الرصاص وحدث نفسُ الشيء ﻟ «إلهام» ثم «أحمد»، كانوا قد استهلكوا كلَّ ما لديهم من رصاص وقنابل خلال المعركة التي استمرَّت طويلًا ولم يتبقَّ سوى ثلاث رصاصات فقط في مسدس «أحمد» … على حين كان هناك عشرة رجال من العصابة لا يزالون يحملون أسلحتهم ويُطلقونها نحوهم.
وهتف «أحمد» بقلق: ما العمل الآن؟! سوف يكتشفون نفادَ ذخيرتنا فيطوقوننا ونُصبح صيدًا سهلًا لهم!
هتف «عثمان»: ليس هناك حلٌّ سوى أن نستوليَ على إحدى سياراتهم الجيب وننطلق بها!
إلهام: ولكن كيف؟! إنهم يحتمون خلفها.
لمعَت عينَا «أحمد» وقال: لديَّ فكرة … عليكما بالتسلُّل خلف هذه الصخور حتى تصيروا قريبين من مكان السيارات الجيب، وسأكفُّ أنا عن إطلاق الرصاص حتى أُفلت فيُسرعون باتجاهي وعندئذٍ يمكنكم أخذ سيارة والانطلاق بها بسرعة للاستعانة بباقي الشياطين …
هتفَت «إلهام» مستنكرة: ماذا؟! هل نتركك هنا لهؤلاء المجرمين؟!
أحمد: ليس هناك حلٌّ آخر، إننا في موقف دقيق …
هتفَت معترضة: ولكن …
قال «أحمد» بحدَّة: نفِّذي الأمر يا «إلهام» من فضلك … ولا تنسَي أنني قائد المجموعة …
وهتف «عثمان» متأثرًا: هيَّا بنا!
وأخذ الاثنان يزحفان ليدورَا خلف الصخور، وبدأ رجال العصابة ينتبهون إلى أن الشياطين الثلاثة لم يُطلقوا رصاصة واحدة منذ دقائق … فأطلُّوا برءوسهم وأدركوا نفادَ ذخيرتهم.
وهتف أحد رجال العصابة: استسلموا واخرجوا رافعي الأيدي وإلَّا قتلناكم!
برز «أحمد» من مكانه بعد أن ألقى مسدسه أسفل قدمَيه ورفع يدَيه قائلًا: زميليَّ مصابان هنا خلف الصخور ولا يمكنهما الحركة!
تشاور رجال العصابة … وبعد لحظة بدءوا يتقدَّمون صوبَ «أحمد» شاهرين أسلحتهم … وما كادوا أن يقطعوا نصف المسافة حتى كان «عثمان» و«إلهام» قد وصلَا بالقرب من سيارات الأعداء … فقفزَا إلى إحداها وأدارَا محرِّكَها.
كانت الحركة مباغتةً لرجال العصابة، فاستداروا للخلف في ذهول، وفي نفس اللحظة التقط «أحمد» مسدسه من الأرض، وأطلق ثلاثَ طلقات محكمة هي كل ما يحتويه مسدسه من رصاصات … وعلى أثرها سقط ثلاثةٌ من رجال العصابة، فأسرع «أحمد» بإلقاء نفسه فوق الأرض، وراح يتدحرج مبتعدًا عن الرصاص المنهمر نحوه.
وأخذ يجري ويجري … كان يجري بأقصى سرعة فوق الرمال محتميًا بالصخور الحادة المتناثرة من طلقات الرصاص خلفه، وساعدَته المفاجأة التي أحدثها رجالُ العصابة فلم يتعقبوه، وبدأت خطواته تُبطِئ شيئًا فشيئًا … وبدأ يحسُّ بحرارة الشمس الشديدة والأرض الساخنة، فوقف يستريح لاهثًا متعَبًا، وأطلَّ من فوق إحدى الصخور العالية، كان قد أصبح بعيدًا عن العصابة بمسافة كافية، وفي الناحية الأخرى شاهد السيارة الجيب التي انطلق بها «عثمان» و«إلهام» فابتسم ابتسامةً واسعة، ولكن فجأة، برزَ من الطريق المضاد أكثرُ من خمس سيارات أخرى للعصابة حاصرَت سيارة «إلهام» و«عثمان»، وبعد معركةٍ قصيرة سقط الشيطانان في الأَسْر.
وجزَّ «أحمد» على أسنانه بغضب هائل وهو يَرقُب ما حدَث على بُعْد كيلومترات، وهتف حانقًا: يبدو أن هذا اليوم ليس يوم الشياطين!