حظيرة الجواسيس!
توقَّفَت السيارات الجيب أمام المبنى الإداري الكبير السابق التجهيز في المنجم على شكل طابور … وكان «عثمان» و«إلهام» قابعَين في مؤخرة السيارة الأولى يرقبان ما يجري بصمت بعد أن تمَّ أَسْرُهما والقبض عليهما …
وفجأة، تحرَّك جزءٌ من المبنى كأنما يدور على محور أرضي ليظهر أسفله فُتْحةٌ كبيرة هابطة لأسفل كالنفق …
وبدأت السيارات تتهادَى لتدخل في تلك الفُتحة حتى أتمَّت عددَها … وتلاقَت أبصارُ «عثمان» و«إلهام» في صمت! وعاد المبنى ليحتلَّ مكانه كأنما لم يحدث شيء.
وانطلقَت السيارات في النفق الطويل أقل من مائتي متر ثم انحرفَت يسارًا وتوقَّفَت في مساحة كبيرة تتخلَّلُها الأنوارُ اللامعة.
ودفع قائد السيارة «إلهام» و«عثمان» بخشونةٍ قائلًا: هيَّا اهبطَا؛ فقد انتهَت النزهة!
هبط الشيطانان في صمت، وأحاط بهم عدةُ أشخاص مسلحون من أفراد العصابة حلُّوا قيودهما ثم انتهى بباب من الفولاذ فتحَه أحدُ المسلحين بمفتاح معه ثم دفعهما بداخل الحجرة الضيقة، وعاودوا إغلاقَ الباب الفولاذي الذي تتخلَّلُه نافذةٌ ضيقة في نصفه العلوي … خبط «عثمان» الباب بقبضته في غضب شديد … فقالت «إلهام» بهدوء: لن تُفيدَنا الثورة يا «عثمان» … إننا بحاجة إلى استخدام عقولنا أكثر من استخدام عضلاتنا في هذا المكان … من المؤسف أن بقية المجموعة ليسَت لديها فكرةٌ عمَّا جابهناه هنا، فلو خطر ببالهم ما نحن فيه لأسرعوا لإنقاذنا!
غمغم «عثمان» قائلًا: إن أملَنا الوحيد هو «أحمد».
وتجهَّم وجهُه وهو يُكمِل: ولا أدري كيف سيتصرف في مثل هذا المأزق الذي وقع فيه … فمن المستحيل أن يعود إلى «السلمان» على قدمَيه للاتصال ببقيَّتِنا … يا لَهؤلاء الأوغاد … إنها عصابة رهيبة حقًّا!
إلهام: إنهم بارعون أشدَّ البراعة! لقد تخفَّوا في شكل أصحاب أحدِ المناجم ليستغلُّوا ذلك في عملهم الإجرامي … أرأيتَ ذلك النفق الذي انكشف عنه المبنى الإداري الكبير؟! إن هناك ما يُشبه المدينة الحية أسفل ذلك المنجم!
التفتَ «عثمان» ﻟ «إلهام» قائلًا: إن هذا يفسِّر سرَّ اختفاء الطائرة … لا بد أنها هبطَت في مكان قريب، ولا تنسَي أن هناك ممرًّا قريبًا لهبوط الطائرات التي تحمل المواد التموينية للعمال.
إلهام: وما أسهل أن يتمَّ إخفاؤها تحت الأرض الرملية في إحدى الحظائر التي يُخفيها أحد المباني السابقة التجهيز هنا!
ولمعَت عيناها وهي تقول: إن هذا يفسِّر سرَّ استخدام المباني السابقة التجهيز في السكن هنا.
هتف «عثمان»: نعم … نعم … هذا هو ما لاحظه «أحمد» قبلنا وإن لم يتَّسع الوقتُ له ليشرحَ استنتاجه … لقد أراد «أحمد» بسؤاله ﻟ «جيمس» أن يجعلَه يكشف نفسَه بنفسه … فسأله عن الطاقة التي تمدُّ هذا المكان بالإضاءة والتكييف … هذا واضح تمامًا … لقد اهتدَى «أحمد» قبلنا إلى أن هذه المباني السابقة التجهيز يمكن بسهولة عند تصميمها جَعْلها تتحرك من مكانها على محاور لتكشف فجواتٍ أسفلها يمكن استخدامها كمخابئ أو حظائر لإخفاء الطائرة!
أكملَت «إلهام» حديثَها بعينَين ضيِّقتَين: إن هذا يكشف أن ذلك المنجم لم يُستغلَّ أصلًا إلا للحصول على «مخلب النسر» … هل تتذكر حديثَ العامل الذي قابلناه عند مجيئنا إلى المنجم صباحًا … لقد قال إن المنجم أُنشِئَ من عام واحد، إذن فقد كانت تلك العصابة على علمٍ بالتجارب التي تَجري لتطوير «مخلب النسر»، فأنشأَت ذلك المنجم لتُخفيَ فيه الطائرة عند إجبارها على الهبوط، وبالطبع لن يشكَّ أحدٌ في جنسية أو أهداف بعض الأجانب أو شركة أجنبية تقوم باستغلال منجم للحديد في الصحراء … لقد خطَّطَت عصابةُ «قبضة الموت» جيدًا لعملها ومنذ وقت طويل انتظارًا لهذه اللحظة!
عثمان: إنهم لا يعملون وحدهم … إن هناك إحدى الدول المعادية التي أمدَّ جهاز مخابراتها العصابة ببعض الفنيِّين الخبراء في الطائرات؛ فإن أية عصابة مهما كانت قويةً ينقصها الخبرات في مثل هذا المجال.
إلهام: هذا لا شك فيه، لقد أهملوا المنجم القديم لوقوعه بجوار الطريق، وجهَّزوا هذا المنجم بعيدًا عن عيون الفضوليِّين، وأظن أنهم أخفَوا «مخلب النسر» هنا تحت إحدى هذه المباني المتحركة أثناء انشغال العمال المحليِّين بالعمل داخل المنجم فلم يلاحظوا شيئًا!
عثمان: ولكن كيف استطاع هؤلاء الجواسيس إجبارَ الطائرة على الهبوط هنا؟!
إلهام: هل تتذكَّر ما أخبرَنا به رقم «صفر» عن رسالة تلقَّتْها القاعدة من الطائرة قبل اختفائها؟ لقد كانت تُفيد بأن الطيارين لا يسمعون القاعدة بوضوح ثم انقطع الاتصال … إنه نفس الشيء الذي حدث لجهاز إرسالنا!
ضاقَت عينَا «عثمان» وهو يقول: هل تقصدين أنه تم التشويش على أجهزة الإرسال والاستقبال بالطائرة، ثم خاطبَت العصابةُ قائدَ الطائرة باعتبارها القاعدة وطلبوا منه الهبوط في هذا المكان لسبب ما … فأطاعهم الطيار ومساعِداه … إن هذا يفسِّر كلَّ شيء إذن … لقد تمَّ القبض على الطيارين الثلاثة وإخفاء الطائرة هنا!
قالت «إلهام» لاهثةً: نعم … إنها هنا بالتأكيد في مكان ما بتلك الأنفاق والحظائر أو لعلها في أحد الأنفاق الواسعة تحت سطح الرمال.
عثمان: ولكن ما هي خطوة عصابة «قبضة الموت» بعد ذلك؟ إذا كانوا قد حصلوا على الطائرة، فما الذي يجعلهم ينتظرون بعد ذلك؟ من الواضح أنهم يريدون الحصولَ على أسرار تكنولوجيا الطائرة بأيِّ ثمن … بدليل أنهم لم يقوموا بأيِّ عملٍ تخريبي نحوها … لماذا لم يتَّجهوا بها إلى أية جهة معادية … الجهة التي موَّلَت تلك العملية؟!
إلهام: إنهم لا يستطيعون تهريبَها إلى خارج الحدود العراقية وإلا كشفَتهم قواتُ الحدود والرادار، خاصة والبحث يجري على قدَمٍ وساقٍ للعثور على «مخلب النسر» … أظن أنهم لا يُضيِّعون وقتَهم الآن … إنهم سوف يقومون بتهريب الطائرة بدون أن يشكَّ فيهم أحد … سوف يفكِّكونها بكل تأكيد ليسهلَ نقْلها للخارج.
التفتَ «عثمان» بدهشة نحو «إلهام»، وقبل أن ينطق جاء صوتٌ من مكان ما يقول: يا لَكما من بارعَين! لقد ظننتُ أنكم مجردُ مجموعة قتالية تُنفِّذ الأوامر بلا عقل، فاكتشفتُ أن لكم عقلًا لا يقلُّ كفاءةً عن قدرتكم القتالية!
تبادلَ «عثمان» و«إلهام» النظراتِ … لقد كان هناك ميكروفون بمكان ما بالحجرة ينقل ما يدور بينهما إلى صاحب ذلك الصوت الذي يبدو أنه المسيطر على ذلك المكان … إنه زعيم عصابة «قبضة الموت» بلا شك!
وواصل الصوتُ قائلًا: إن موهبتَكما الفذة بالإضافة إلى رفيقكما الثالث الذي لا أشكُّ في مصيرِه المحتوم تُشجعني على أن أقابلَكما لأطْريَ كفاءَتَكما برغم وقتي الضيق … سوف أمنحكما عشر دقائق؛ ففي العاشرة مساءً ينتهي كلُّ شيء … فتمتَّعَا بوقتكما من الآن …
تبادل «عثمان» و«إلهام» النظراتِ في صمت … لقد منحهما القَدرُ فرصةً ذهبية لمقابلة زعيم عصابة «قبضة الموت» التي يواجهانِها لأول مرة، وكانت المواجهة في صالحهما دائمًا. وبلغةِ الأصابع قال «عثمان» ﻟ «إلهام» حسنًا … إن المرة القادمة لن تكون في صالحهم بكل تأكيد …
ابتسمَت «إلهام» لأول مرة منذ وقوعها في الأَسْر وعاودَتها الثقة، وتمدَّد الاثنان فوق فراشَين خشبيَّين وقد أدركَا أن أفضل ما يفعلانِه هو النوم ليستعيدَا نشاطَهما في المساء …
واستيقظَا قبل العاشرة بقليل فغسلَا وجهَيهما من صنبور صغير بركن الحجرة، وبعد لحظات انفتح البابُ أمامها فظهر ثلاثةٌ من أفراد العصابة مدجَّجين بالسلاح، وقاد أفراد العصابة «إلهام» و«عثمان» إلى ممرٍّ آخر انفتح في نهايته بابٌ إلكتروني يتكشَّف عنه قاعةٌ واسعة بها بعضُ الأجهزة الإلكترونية المعقَّدة وعددٌ من الفنيِّين. أدرك «عثمان» و«إلهام» أنهم تابعون لمخابرات تلك الدولة المعادية التي موَّلَت اختطافَ «مخلب النسر»، ووقعَت عينَا الشيطانَين على شخص ضخم بوجهٍ أحمر وشعرٍ دموي وملامح تُشبه الغوريلَّا، وتقدَّم ذلك الشخصُ منهما وقد التمعَت في عينَيه ابتسامةُ سخرية قائلًا: مرحبًا بكما في عريننا … إنني «ماكس» ويسمونني «ماكس الغوريلَّا» … ومن المؤسف أننا لم نتقابل من قبل … ولا أظنُّ أن أجلَكما سيتَّسعُ لمقابلة أخرى!
وقهقَه بغرور شديد بصوتٍ غليظ قبيح … و«إلهام» و«عثمان» يرقبانِه بصمت. وقال «ماكس الغوريلا»: برغم أنني لا أفهم في هذه الأشياء كثيرًا إلا أن «مخلب النسر» شيءٌ رائع بكل تأكيد … إن كلَّ هؤلاء الفنيِّين يقولون ذلك … وأنا هنا لحمايتهم حتى لا تحدثَ مشكلةٌ دولية إذا ما عثرَت حكوماتُكم على دليل يُدين حكومتَهم في تلك المسألة … إننا دائمًا نتدخَّل في مثل هذه المواقف … وعادةً يكون ثمنُ خدماتنا كبيرًا.
وقهقَه مرة أخرى بصوتٍ غليظ قبيح، ثم قال: هيَّا أصطحبكما في هذا المكان الجميل … إن من حقكما نزهةً قصيرة قبل أن تُغادرَا الحياة إلى الأبد!
غلَت الدماءُ في عروق «إلهام» فكادَت تندفع نحو الرجل القبيح لولا أن حذَّرها «عثمان» بعينَيه طالبًا منها الهدوء؛ فقد كان هناك أكثرُ من عشرة أفراد من رجال العصابة يقفون في كل مكان حاملين أسلحتَهم في وضعِ استعداد لإطلاقها.
وقادَهم «ماكس الغوريلا» في أنحاء المكان مفاخرًا، وعيون «إلهام» و«عثمان» تلتقط كلَّ صغيرة وكبيرة في الأجهزة الإلكترونية التي تلتقط الإشارات والمكالمات وتُسيطر على المكان وتستطيع التشويش على الاتصالات كما حدث ﻟ «مخلب النسر». قال «ماكس الغوريلا» سعيدًا: لقد أوشك عملُنا على الانتهاء … سوف نُسلِّم «مخلب النسر» ونتسلَّم عشرة ملايين دولار ونرحل من هنا … لقد ضاق صدري بهذا المكان، وأحسُّ براحة لأنه سيتحول إلى أنقاض عندما نُغادره في الصباح … ومن المؤسف أنكما لن تُغادراه معنا!
وقهقَه مرة أخرى بصوته القبيح، وتوقَّف أمام باب إلكتروني، وبلمسةٍ من كفِّه على جزء خاص بالباب انفتح ليكشفَ عن مكان متسع برزَ في منتصفه هيكلٌ داخليٌّ مليءٌ بالأسلاك والمواتير وحوله عددٌ من الفنيِّين يعملون بنشاط كالنحل، وأشار «ماكس الغوريلا» إلى ذلك الهيكل قائلًا: هذه هي «مخلب النسر» وما تبقَّى منها! إننا بعد أن شوَّشنا على إرسالها أقنَعنا طيَّارَيها بالهبوط هنا وألقَينا القبضَ عليهم ثم انتزعنا الجهاز الخاص بإرسال الذبذبة التي تُفصح عن مكان الطائرة، وبعد ذلك أخفَيناها تحت الأرض، وبالطبع لم يعرف أحدٌ من العمال المحليِّين بالأمر؛ فقد منحناهم جميعًا إجازة في ذلك اليوم، وها هي «مخلب النسر» قد أوشكَت أن تتحول إلى أجزاء بسيطة مفكَّكة لا يشكُّ أحدٌ فيها عندما تَعبُر الحدود في دفعات متفرقة على أنها قِطَع غيار … إنها خطة عظيمة! وقهقَه بشدة مفاخرًا … وحدَّقَت فيه «إلهام» بغضبٍ هائل وهي تكتم غيظها …
وقال «ماكس الغوريلا»: إن عصابتَنا لا تقوم في العادة بمثل هذه الأعمال، ولكن المبلغ كان ضخمًا فلم نستطع الرفض، وسنخرج لنستمتع بهذه النقود؛ فقد بدأ رجالي يتذمَّرون من البقاء هنا. سوف تكون نهاية دامية حقًّا لهذا المكان … ولكنها تستحق المكافأة!
وأشار بيده، فأحاط أفراد العصابة المدجَّجين بالسلاح ﺑ «إلهام» و«عثمان»، ولم تحتمل «إلهام» أكثرَ من ذلك فبصقَت على الأرض باحتقار لا حدَّ له قائلةً: أظن أنك تستحق هذه الحياة أيضًا!
احتقن وجهُ «ماكس الغوريلا» بغضبٍ هائل، ورفع يدَه ليصفعَ بها «إلهام»، ولكن قبل أن تهبط يدُه لأسفل قفز «عثمان» نحوه وضربَه ضربةً مؤلمة، فسقط «ماكس الغوريلا» على الأرض وهو يتأوَّه، وسرعان ما أحاط أفراد العصابة المسلَّحين ﺑ «إلهام» و«عثمان»، ولكن لم يعبأ بهم، وقال ﻟ «ماكس الغوريلا» ساخرًا: وهذه أيضًا مكافأةُ مَن لا يُجيد التعامل بأدب مع الفتيات.
نهض «ماكس الغوريلا» وفي عينَيه حقدٌ عظيم، وصاح بصوت متحشرج: سوف تندمان على كل ذلك … ما إن ننتهي من عملنا فأُقسم أن أحوِّلَكما إلى أشلاء … سوف أتمتع كثيرًا بذلك.
وصرخ في أفراد عصابته: أعيدوهما إلى زنزانتهما.
فاقتادهما أفرادُ العصابة إلى الزنزانة الضيقة، ومن جديدٍ تم إغلاق الباب عليهما وتقلَّصَت قبضةُ «إلهام» بغضب هائل وهي تقول: هل سنموت هنا كالفئران؟! يجب أن نفعل شيئًا.
ضاقَت عينَا «عثمان» وهو يقول مستخدمًا لغةَ الأصابع: أظن أنَّ لديَّ فكرةً للخروج من هذا المكان. فالتفتَت نحوه «إلهام» بسرعة وسألَته بأصابعها عن خطته.
وفي هدوءٍ وبطْءٍ راحَ يشرح «عثمان» لها فكرتَه مستخدمًا أصابعَه السمراء الرشيقة …