الشياطين تكسب … دائمًا!
كانت الخطة غايةً في البساطة؛ فبواسطة بعض المواد الحارقة البسيطة التي يحملها «عثمان» و«إلهام» أمسكَت النارُ بالفراشَين الخشبيَّين، وتصاعدَ الدخان الكثيف، فصرخَت «إلهام»: حريق! حريق!
واختبأ «عثمان» خلف الباب الفولاذي، وسرعان ما أقبلَ أحدُ رجال العصابة، وما إن شاهد الدخان من نافذة الباب الضيق حتى فتحَه بسرعة، وما كاد يخطو للداخل خطوةً واحدة حتى كانت قبضةُ «عثمان» موجَّهةً نحو رجل العصابة بقوة هائلة في نفس اللحظة التي طارَت فيها «إلهام» لتضربَه ضربةً قوية.
ولكن، وببساطة متناهية انحرف رجلُ العصابة المسلَّح عن قبضة «عثمان» كأنما يتوقَّعها فطاشَت الضربةُ في الهواء على حين مدَّ يدَه ليصدَّ ضربةَ «إلهام»، ثم دفعَها للخلف فسقطَت ذاهلة، وأمسك رجلُ العصابة بمدفعه الرشاش وهو يصوِّبه نحو الشيطانَين اللذَين أصابهما الذهولُ؛ لأنهما لم يتوقَّعَا أن تفشل محاولاتُهما وأدهشَتْهما تلك المهارةُ التي أبداها رجلُ العصابة، وعلَا صوتُ ميكروفون الحجرة الداخلي ﻟ «ماكس الغوريلا» يتساءل: ماذا حدث أيها الحارس؟!
ردَّ رجلُ العصابة وهو لا يزال مصوِّبًا سلاحَه نحو «إلهام» و«عثمان»: لقد كانَا يتحايلان للهروب من الزنزانة يا سيدي!
– وهل تم السيطرة عليهما؟
رجل العصابة: نعم يا سيدي، كلُّ شيء تحت السيطرة.
– هذا حسن؛ فهذان الشخصان يبدوان عظيمَي الخطورة … أَغْلِق الزنزانة وابْقَ في حراستهما إلى الصباح … ولا تفتح الزنزانة لأيِّ سببٍ أيها الحارس … فسوف يكون لي معهما في الصباح شأنٌ آخر … هل فهمت؟
الحارس: نعم يا سيدي. قالها رجل العصابة وهو يتفرَّس في «إلهام» و«عثمان» بعينَين شديدتَي الدهاء والبأس كعيون النسر.
وحدَّقَت «إلهام» في رجل العصابة ذاهلة! كان صوتُه مألوفًا لها بطريقة ما برغم محاولة تغييره، وعندما حدَّقَت أكثر في العينين العجيبتَين برغم اختلاف الملامح هتفَت بذهول غير مصدقة: «أحمد»؟!
وسرعان ما وضع رجلُ العصابة أصابعَه فوق فمها ليمنعَها من الحديث وليشيرَ لها إلى الميكروفون الذي ينقل كلَّ ما يدور إلى «ماكس»، وبيده الأخرى انتزع قناعَه الجلدي ليُظهرَ بأسفله وجهَ الشيطان الباسم … «أحمد»!
وأشار «أحمد» ﻟ «عثمان» و«إلهام» أن يتبعاه، فخرجوا ثلاثتهم من الحجرة وأغلقوا بابها، وهتف «عثمان» لاهثًا: كيف نجوتَ وأتيتَ إلى هنا؟!
ردَّ «أحمد»: لقد تتبَّعتُكم وجئتُ إلى هنا، واختبأتُ في إحدى سيارات المنجم المتجهة إلى «السلمان»، فأخبرتُ بقيةَ الشياطين بما حدث، فأسرَعْنا إلى هنا وتمكَّنَّا من التسلُّلِ إلى الداخل بعد أن تنكَّرْنا في زيِّ رجال العصابة!
ونظر في ساعته قائلًا: لم تَعُد هناك إلا خمس عشرة دقيقة على موعد تفجير هذا المكان بكل ما فيه، ولا بد أن «خالد» و«رشيد» يقومان بوضع المتفجرات في أنحاء المكان.
هتف «عثمان» متسائلًا: والعمال المحليون؟!
أجاب «أحمد»: لقد تكفَّلَت «ريما» بإبعادهم عن المكان في سرية تامة وهم في طريقهم ﻟ «السلمان» تحسُّبًا لاحتمال إصابتهم في المعركة القادمة إذا ما بقوا داخل المنجم.
ضاقَت عينَا «إلهام» وهي تتساءَل: و«مخلب النسر»؟!
أحمد: لقد جاءَتْنا الأوامر من رقم «صفر» في «السلمان» بتفجيرها داخل هذا المكان.
اعترض «عثمان» قائلًا: ولكن …
أحمد: أعرف ما تريد قوله يا «عثمان»، برغم أهمية «مخلب النسر»، إلا أن محاولةَ إخراجها من داخل المنجم خلال الوقت القليل المتبقي محاولةٌ مستحيلة، علاوة على أن كافة رسوم وتصميم الطائرة لدى حكومتنا ومن السهل صنْعُ نماذج أخرى للطائرة وتجربته في وقت قريب، إن مهمَّتَنا أساسًا هي منع وصول «مخلب النسر» للأعداء، والقضاء على عصابة «قبضة الموت» وجميع الجواسيس الموجودة هنا.
وصمتَ لحظة ثم قال: ونظرًا لسرية المسألة كلها؛ فقد طلب منَّا رقم «صفر» أن نُنهيَ العملية وحدَنا بدون تدخُّل أو مساعدة من الحكومة العراقية أو أية حكومة عربية أخرى … إن الأمر متروكٌ لنا تمامًا …
وأخرج مسدسَين كبيرَين من سُتْرتِه مدَّ بها إلى «عثمان» و«إلهام» وهو يقول: إن لنا مهمةً باقية هنا قبل أن نُغادر المكان، وهي أن نقوم بإنقاذ الطيارين الثلاثة الذين كانوا يقودون «مخلب النسر». ونظر في ساعته مرة ثانية وقال: هيَّا بنا؛ فلا وقتَ لإضاعته. وسار ثلاثتُهم و«أحمد» يتقدَّمُهم في الممر الطويل، وعلى بُعدٍ ظهرَ رجلان مسلَّحان من رجال العصابة، وما إن اقتربَا من الشياطين الثلاثة حتى أصابَتهما الدهشة لرؤية «عثمان» و«إلهام»!
وفي نفس اللحظة كانت كرة «عثمان» قد تكفَّلَت بإلقاء أحدهم في عالم الغيبوبة والثاني تكفَّلَت به ساقُ «إلهام» … وسرعان ما بدَّل الاثنان ملابسَهما بملابس رجلَي العصابة، وغطَّت «إلهام» شعرَها بكاب أحدهما …
وهتف «أحمد» فيهما: اتبعاني؛ فقد قمتُ بدراسة المكان، وأعرف طريقَ الطيارين.
وسار الثلاثة بخطوة عسكرية، وقابلَهم بعضُ رجال العصابة، فرفع الشياطين الثلاثة أيديَهم على بُعدٍ بالتحية، وردَّ رجال العصابة التحيةَ بدون أن يشكُّوا فيهم، وانحرف «أحمد» يسارًا وخلفه «إلهام» و«عثمان»، وهبط عدةَ درجات سلمية ثم انتهَوا أمام زنزانة حديدية قبع بداخلها الطيارون الثلاثة، وكانت هيئتهم وملابسهم في حالةٍ يُرثَى لها، وكان هناك اثنان من رجال العصابة يقومان بحراسة الزنزانة، فتقدَّم منهما «أحمد» قائلًا: إن «ماكس الغوريلا» يرغب في مقابلة الطيارين الثلاثة.
اعترض أحد رجال العصابة قائلًا: لم تَرِد إلينا أوامرُ في هذا الشأن … هل لديك أمرٌ كتابي؟! وحدَّق في «أحمد» بشكٍّ!
وضع «أحمد» يدَه في جيبه الداخلي قائلًا: نعم، ها هو.
وفي لحظة خاطفة ضرَب الرجلَ ضربةً قوية فألقَته أرضًا … وعلى بُعْد مترين تقريبًا وكالعادة عاجلَته «بطة» كرة «عثمان» الجهنمية؛ فإنها كانت تُبادر بالمشاركة في اللحظة المناسبة بلا سابق إنذار، وهكذا تكوَّم رجلُ العصابة الثاني فوق زميله وقد تراقصَت النجوم بألوانها الزاهية في عينَيه.
وأسرعَت «إلهام» تستلُّ مفاتيحَ الزنزانة من رجلَي العصابة الغائبَين عن الوعي، وأطلقَت سراح الطيارين الثلاثة … وفجأةً دوَّت صفارةُ إنذار عالية، فهتفَت «إلهام» بدهشة: ما هذا؟! إنها أشبهُ ما تكون بصفارة إنذار بهروب الطيارين!
هتف «أحمد» قائلًا: أظن أن هناك زرًّا سريًّا كان من الواجب الضغط عليه قبل فتْح الزنزانة حتى لا تنطلقَ الصفارة تحسُّبًا لهروب الطيارين … هيَّا بنا نخرجْ من هنا؛ فلا بد أن العشرات من رجال العصابة سوف يُسرعون لقتالنا!
والتقط الطيارون الثلاثة أسلحةَ رجلَي العصابة، وسرعان ما كان الستة يَجْرون صاعدين السلالم القليلة المفضية إلى الممر، وظهرَت أول دفعة من رجال العصابة، فعاجلَتها رصاصاتُ الشياطين بدفعة سريعة ألقَتهم أرضًا، واندفع الشياطين والطيارون في الممر، وكلما قابلهم بعضٌ من رجال العصابة عاجلوا بإطلاق الرصاص عليهم.
كان «أحمد» يهدف للوصول إلى أماكن الجيب لاستغلالها في مغادرة المكان بسرعة، وكانت عيناه على عقربَي الدقائق والثواني بساعته الفسفورية …
وهتف بسرعة: لم تَعُد هناك إلا أربعُ دقائق على انفجار المكان … دعونا نغادره بأقصى سرعة!
وظهرَت من بعيد السيارات الجيب، وكأنما أدرك رجالُ العصابة غرضَهم، فأسرعوا يُطوِّقون السيارات ويحتمون خلفها ويمنعونهم من الوصول إليها، وأخذوا يُطلقون الرصاص في اتجاه الشياطين والطيارين الثلاثة.
غضب «أحمد» غضبًا شديدًا وهو ينظر إلى ساعته … كانت الثواني تمرُّ بسرعة، وكل ثانية تمرُّ تُقلِّل من فرصتهم في النجاة، كما كان من المستحيل الوصول إلى الجيب دون التعرض لرصاص العصابة وحدوث خسائر جسيمة …
فاحتمَى الستة خلف الجدران من رصاصات رجال العصابة. برز «عثمان» من مخبئِه وراح يُطلق رصاصَ مدفعه في غضب شديد تجاه رجال العصابة، ففوجئ ببعض الطلقات التي كادَت تُصيبه في رأسه فهتفَت «إلهام» محذرةً له، فأسرع «عثمان» يُلقي بنفسه خلف الجدار ليحتميَ به من الرصاص، وهتف بسخط: إن هذا المكان أشبهُ بالمصيدة … كيف السبيل إلى الخروج من هنا؟! إن أفراد هذه العصابة يبدون كما لو كانوا لا نهاية لعددهم!
ونظر «أحمد» في ساعته … كانت قد بقيَت دقيقتان بالضبط على انفجار المكان … وفجأة جاءَت النجدة بطريقة غير متوقعة … فمن خلف ظهور رجال العصابة ظهر «خالد» و«رشيد» و«ريما»، وفي أيديهم الرشاشات على حين غرَّة، وراحوا يُطلقون رصاصَهم نحو رجال العصابة الذين فُوجئوا بما حدث، وحاصرَتْهم المجموعتان حتى قضَوا عليهم، وهلَّل «أحمد» و«إلهام» و«عثمان»، وفي ثوانٍ قليلة كان الشياطين الستة والطيارون الثلاثة يستقلُّون ثلاث سيارات جيب وينطلقون بها باتجاه مدخل النفق الأرضي، وعينُ «أحمد» تُراقب الثواني بساعته … كانت قد بقيَت نصفُ دقيقة فقط على انفجار المكان … تسع وعشرون ثانية … ثمانٍ وعشرون … سبع وعشرون … وضغطَت «إلهام» و«ريما» و«عثمان» فوق دواسات البنزين لتزأرَ السيارات الثلاث كالسهام في الممر. عشرون ثانية … تسع عشرة … ثماني عشرة … وظهرَت مجموعة أخرى من رجال العصابة تسدُّ الطريق بمدافعهم الرشاشة يتقدَّمهم «ماكس الغوريلا»، وهتف «أحمد» في رفاقه: لا تتوقَّفوا!
واندفعَت السيارات الثلاث نحو الحاجز البشري، وانهال الرصاص على سيارات الجيب فأخفى الشياطين والطيارون رءوسَهم إلى أسفل، وأسرع رجال العصابة بأنفسهم بعيدًا عن السيارات المارقة والتي فشلَت رصاصاتُهم في إيقافها.
وتأخَّر «ماكس الغوريلا» أقلَّ من جزء على الثانية فطرحَت به الجيب الأولى وألقَته جثةً هامدة للخلف، وكان عقرب الثواني لا يزال يرمح بسرعة كأنه يتعجل النهاية … عشر ثوانٍ … تسع … ثمانٍ … وظهرَت أبواب النفق مقفلة على بُعْد عشرات الأمتار … وراقب «أحمد» عقاربَ ساعته لاهثًا وهتف في رفاقه: اخترقوا الأبواب بأقصى سرعة!
واندفعَت السيارات الثلاث نحو الأبواب لتخترقَها بقوة هائلة، وتحطَّم جدار المبنى الإداري الكبير الذي يعلوها لتخرج السيارات إلى النور … خمس ثوانٍ … وصرخ «أحمد»: بأقصى سرعة! … وبأقصى ما تحتمله السيارات الثلاث من سرعة انطلقَت فوق الأرض الرملية … ثلاث ثوانٍ … وصرخ «أحمد»: غادروا السيارات! ودوَّت الفرامل الحادة ثم قفز الجميع ليُلقوا بأنفسهم خلف أحد التلال الرملية في مواجهتهم تمامًا … ثانية واحدة … استلقى الجميع فوق الأرض وقد وضعوا أيديَهم فوق آذانهم … ودوَّى الانفجار الهائل … اهتزَّت الأرض تحتهم وحولهم كأنها جوفُ ماردٍ رهيب يغلي بالنار … وانهارَت الأرض الرملية أمامهم على بُعْد أمتار قليلة! وراحَت الانفجارات تُدوِّي واحدًا وراء الآخر لتُطلق ألسنة اللهب نحو السماء مخترقًا الطبقة السطحية الرملية بقوة هادرة … وظلَّت الانفجارات تُدوِّي دقائق قبل أن يعود الهدوء إلى المكان على حين ظلَّت ألسنة اللهيب تنبعث داخل الأرض …
وأخيرًا نهض الشياطين الستة وفي عيونهم بريقُ الانتصار، وتعانقوا بسعادة على حين لمعَت دموع الفرحة في عيون الطيارين الثلاثة الذين لم يصدِّقوا أنهم نجَوا بتلك الصورة غير المتوقعة.
وتساءَلت «إلهام» بقلق: كيف سنغادر هذا المكان ونعود إلى «السلمان» … ولم تَعُد هناك سيارة واحدة سليمة؟!
ابتسم «أحمد» ونظر في ساعته قائلًا: بقيَت نصف دقيقة.
وقبل أن تسألَه «إلهام» عمَّا يقصده ظهرَت في الأفق من بعيد طائرة هليكوبتر كبيرة اقتربَت من موقعهم، ثم هبطَت أمامهم مثيرةً عاصفة من الأتربة …
والتفتَت «إلهام» مندهشة إلى «أحمد»، فقال بابتسامة أوسع: كنت واثقًا من نجاحنا كالعادة وها هو رقم «صفر» يُرسل إلينا وسيلةً مريحة للعودة إلى شواطئ «سيناء» … أعتقد أن من حقِّنا إكمال إجازتنا هناك!
ضحكَت «إلهام» قائلةً: إذن فسيزيد وزني مرة ثانية … إن هذه المهمة المثيرة جعلَتني أفقد كلَّ ما زدتُه من كيلوجرامات خلال الأسابيع السابقة التي قضيتُها في كسل!
ضحك «أحمد» قائلًا: أما أنا فأرغب في استعادة اللون البرونزي مرة أخرى …
وانطلق الشياطين يضحكون بمتعة كبيرة، وتدافعوا نحو الهليكوبتر التي ضمَّتهم والطيارين الثلاثة، وارتفعَت الطائرة في الهواء، ودارَت مرة ثانية حول المنجم المتفجر قبل أن ترتفع مبتعدةً عن مكان المغامرة المدهشة!