هبوليتس
تمهيد
قام هركيوليز على رأس حملة على أمازون، وصحبه في هذه الحملة ثيسيوز. وفي أثناء القتال
التقى ثيسيوز بهبوليتا وشغَفها حبًّا، وهامت به وهام بها، فتزوَّج منها وعادا معًا إلى
أثينا. وولدت له طفلًا أسمتْه هبوليتس. وتولى تربية هذا الأمير بثيوز الفيلسوف، فنشأ
الغلام كريمًا كأبيه، طاهرًا كأمه، واتَّصف بالشجاعة، وتحلَّى بكل فضائل الرجولة. ولم
يكن به سوى عيب واحد أودى بحياته في نهاية الأمر، كان كريمًا سمحًا للناس جميعًا، غير
أنه كان يبغض النساء، ولا تجد عاطفة الحب الِجنسي الرقيقة إلى قلبه سبيلًا، ثُمَّ إنه
يقدس الآلهة جميعًا، ويخصُّ منها بعبادته ديانا، ويَستثني فينس إلهة الحب ويُهملُها ولا
يأوي إلى معابدها، فغضبَت منه هذه الإلهة وعملت على موته. ويَرمي الكاتب من وراء هذا
إلى استحالة إغفال الغريزة الجنسية، ويقصد أن يُنبهنا إلى عدم التقصير في أيَّة ناحية
من نواحي الدين، وأن يُعنى بنو وطنه بالآلهة جميعًا، فيجعل فينس تقول:
أولئك الذين يقدمون لي فروض الطاعة ويعترفون لي بالسلطان يَنالون مني الشرف
والإكرام. أمَّا أولئك الذين يَشمخون بأنوفهم عليَّ كِبرًا وصلفًا، فلهم مني
شديد العقاب، لأنَّا معشر الآلهة كبني الإنسان تَبتهج قلوبنا حينما يتقدَّم لنا
الأحياء خاضعين خاشعين.
وماتت هيوليتا وتزوج ثيسيوز من فيدرا ابنة مينس ملك كريت. وما إن وقعت عينا هذه
الأميرة على الأمير الشاب — هبوليتس — حتى هامَت به وشغَفَته حُبًّا، ولكنها أخفت
عاطفتها؛ لأنها كانت تُدرك أنها عاطفة غير نبيلة، كما كانت تحسُّ بكرامتها، وتخشى
الفضيحة والعار. وحاولت أن تُحكِّم عقلها وفضيلتها في هذه العاطفة الجامحة. ولما لم
تستطع هذا عزمت أن تَقتُلَ نفسها. وهي إلى هذا الحد بريئة وإن تكن عاثرة الجد. وقد أججت
هذه العاطفة في صدرِها فينس انتقامًا من هبوليتس الذي كانت تمقتُه لإهماله
إياها.
وأخيرًا استطاعت مربية فيدرا أن تَظفر منها بالسر الذي كانت تُكنُّه في صدرها، وأفضت
به إلى الفتى رغم تحذير مولاتها الشديد. فارتاع هبوليتس لهذا النبأ وأعلن سخطه على شعور
فيدرا الذي يُناقض كرامة الأخلاق. وهكذا ذاع سر فيدرا، فصمَّمت على الانتحار السريع،
ولكنها أرادت أن تُبرئ نفسها مما قد يُنسب إليها بعد موتها، فكتبت رسالة وأمسكت بها في
يدها قبل أن تموت، واتَّهمت هبوليتس إلى أبيه أنه اعتدى على فراشِها عنوة. وهكذا تنتهي
هذه المأساة التي كان مبعثها صراع بين عاطفة دنيئة وعقل نبيل؛ فقد كانت فيدرا امرأة
فاضلة تَخشى الفضيحة والعار، ولكنَّها لم تخلُ من حقد تحمله في قلبها لهبوليتس لإعراضه
عنها وإهماله إياها. وقد أرادت باتهامها هذا الأمير الشاب أن تموت نبيلة موفورة
الكرامة، وألا يَلحقها العار والشنار، وألا تُسيء إلى شرف أبنائها أو أهلها الأكرمين.
ولكن هذا الاتهام الباطل يدلُّ على أن الرذيلة إذا لم تُقمَع في أول أمرها، اشتدَّ
إلحاحها ومازَجَتها ثورة الغضب، وانتهت بإطفاء جذوة الفضيلة، وكانت العاقبة وخيمة
وبيلة.
أشخاص الرواية
المنظر
عند مدخل قصر بثيوز في تروزين.
***
فينس
:
إني فينس إلهة جليلة الشأن في السماء، ونفوذي بين البشر عظيم، سواء في ذلك من
تسقط عليهم أشعة الشمس المضيئة وراء البحار ومَن يقطن فوق سواحل الأطلنطيق.
أولئك الذين يَعترفون بسلطاني ويُبجِّلونني ينالون مني الإكرام والشرف. أمَّا
أولئك الذين يشمخون بأنوفهم عليَّ كِبرًا وصلفًا فلهم مني شديد العقاب؛ لأنَّا
معشر الآلهة كبني الإنسان، تَبتهِج قلوبنا حينما يتقدم لنا الأحياء خاضعين
خاشعين. والآن سأبرهن على صدق هذه الكلمات: إن ابن ثيسيوز — هبوليتس — الذي
يجري في عروقه دم الأمازون، والذي تلقَّى العلم على بثيوز الطاهر، وحده من بين
أولئك الذين يَقطنون داخل جدران تروزين جميعًا يتحدَّاني ويحسبني أقل الآلهة
شأنًا، ويَحتقِر الحب ويزدري فراش الزواج، في حين أنه يرفع دعواته إلى ديانا
أخت أبولو ويُكرمها ويَعُدها أعظم الآلهة. وما زال يرافق هذه العذراء حين
يَرتاد الغابات الخضراء، ويطرد الوحوش من مخابئها بكلابه سريعة العَدْو، وقد
ارتفع بطموحه إلى أعلى مما تستطيع قدرة البشر. بَيْدَ أنه لا يُثير بهذا الحسد
في صدري، ولستُ أقيم لهذا السلوك وزنًا. ولكني اليوم سأصبُّ على رأس هبوليتس
نقمتي لما قدم نحو سلطاني من إهانة. وسأبذل في هذا الأمر جهدًا طفيفًا؛ فقد
أعددتُ عدتي من زمان بعيد؛ ذلك أنه خرج مرة من بيت بيثيوز ليحتفل بالطقوس
المقدسة ويرعاها، فرأته في أثينا فيدرا الحسناء زوجة ثيسيوز، فاشتعلَت في قلبها
نار الحب المُلتهبة، وتلك كانت إرادتي. وقبل أن تُقبل هنا إلى تروزين أقامت
هناك معبدًا لفينس على مقربة من صخرة بلاس التي تُشرف على هذه الأرض، وقد شرَّد
فؤادَها الهوى. وستروي الأيام المقبلة أنها أقامت هذا المعبد للآلهة من أجل
هبوليتس. ولما قتَل ثيسيوز أبناء بلاس هجر بلاد سيركوبيا كي يُكفِّر عما أراق
من دماء، ثُمَّ أخذ سمته مع زوجه إلى هذه البلاد، مريدًا لنفسه النفي حولًا
كاملًا. حينئذٍ تنهَّدَت فيدرا، وأحسَّ قلبها بآلام الحب، ولكنها أخفت كربة
نفسها، وفي الكِتمان ذابت أسى وحسرة. ولم يعرف واحد من خدامها سبب عِلَّتها. إن
هذا الحب لن يضيع سُدًى، ولسوف أُطلع عليه ثيسيوز، وسوف يُذاع بين الناس، وسوف
يَقتل الأب عدوِّي هذا ويصبُّ عليه اللعنات. وقد وهب ملك البحر «نبتيون» ثيسيوز
هذه المنة؛ أن يتقدَّم إليه بمطالب ثلاثة، ولن يُخفِق في تحقيقها جميعًا.١ وقد بلَغَت فيدرا أوج الشهرة، وبرغم هذا فسيكون نصيبها الموت معه.
إني لا أعطف على حياتها عطفًا يردُّني عن أن أصبَّ نقمتي على خصومي كما أشاء
وأهوى.
ولكني أرى الآن هبوليتس ابن ثيسيوز هذا مُقبلًا، وهو من الصيد عائد، وسوف
أنصرف؛ لأني أرى برفقته رتلًا من الشباب يَرفعون عقيرتَهم بالغناء اللجب
لديانا. إنه لا يكاد يُدرك أن أبواب جهنم مفتوحة، وأنه لن يُطالع هذه الشمس بعد
اليوم.
هبوليتس والخدم
هبوليتس
:
اتبعوني، اتبعوني، اتبعوني، وتغنوا لديانا بالنشيد؛ فهي ربة الصيد، وتعدنا من
أتباعها.
الخدم
:
حياكِ الله يا ديانا ثُمَّ حياك، يا ربة الصيد العذراء، أيتها المَلكة التي
تتحلى بكل صفات النُّبل والكرامة، أيتها الإلهة المقدسة، يا ذات القوة والنفوذ
الرهيب، يا من حملتْك لاتونا لجوف، أنت أجمل العذارى اللائي يَسبَحْن في ممالك
السماء المضيئة العريضة، ويتشرَّف بهن بلاط جوف الذهبي.
هبوليتس
:
حياكِ الله يا ديانا. أيتها العذراء ذات الرونق والبهاء، أبرع الحور اللائي
يتألقن حسنًا في السموات العُلا مغمورات بضياء الجمال!
إلهتي! لقد أتيتُ إليك بهذا التاج تتحلِّين به، وقد ضفَّرته من مختلف الزهور
التي تُزيِّن المروج المعشبة، حيث لم يجرؤ راعٍ أن يُطلق قطعانه ترعى، وحيث لم
يسقط على العشب منجل. هناك يحوم النحل كيفما شاء فوق زهور الربيع التي لم
تُقطَف، والطبيعة السمحة تُجري نهرًا لا يجفُّ ماؤه، وليس للفن الزائف هناك
نصيب. من هذه الزهور يستطيع الأبرياء أن يجمعوا ما شاءوا، ولكنها حرام على من
لا يتصف بالنقاء. أيتها الملكة الكريمة، تقبَّلي هذا الإكليل من يدي النقية،
تُتوِّجين به خصلات شعرك الذهبي؛ فأنا وحدي من بين الأحياء جميعًا مُنحت هذا
الشرف، وهو أن أُصاحبك، وأن أتحدث إليك حديثًا حُرًّا، وأن أستمع إلى صوتك، وإن
كان لا يجوز لي أن أطالع وجهك. أرجو أن تنتهي حياتي نقية كما بدأت.
أحد الخدم
:
أيها الأمير الشاب — ونحن لا ندعو غير الآلهة بالسادة — قُل لي: هل تُصغي إلى
نصحي؟
هبوليتس
:
بكل ترحاب، وإلا كنت غير حكيم.
الخادم
:
هل تعرف القانون العام الذي كُتب على الإنسان؟
هبوليتس
:
لستُ أعرفه، ولا أدرك ما تعني بهذا السؤال.
الخادم
:
ذلك أن المرء يَمقت من يتعالون عليه ويأنفون أن يُدخلوا على قلبه
السرور.
هبوليتس
:
وهذا حق، لأنَّا جميعًا ينبغي أن نمقت المتشامخين.
الخادم
:
وهل لدى الشخص الودود فضل؟
هبوليتس
:
فضل عظيم، وهو يظفر به بقليل من العناء.
الخادم
:
وهل تظن هذا يبلغ الآلهة؟
هبوليتس
:
لا بُدَّ أن يكون ذلك، لأنَّا من الآلهة نستمد القواعد.
الخادم
:
ولماذا إذًا لا تخاطب هذه الربة المتعالية؟
هبوليتس
:
أية ربة؟ احذر من الإساءة.
الخادم
:
فينس، التي تقف عند بابك.
هبوليتس
:
إني أُحيِّيها على بُعد محتفظًا بطهارتي.
الخادم
:
ومع ذلك فهي تتعالى، وصيتها بين الناس ذائع.
هبوليتس
:
كل امرئٍ يُقدِّس من شاء من الآلهة ومن شاء من الرجال.
الخادم
:
لو كانت آراؤك كما ينبغي أن تكون لبُورك فيك.
هبوليتس
:
إن الإله الذي يُقدَّس في ظلمة الليل لا يُدخِل على قلبي السرور.
الخادم
:
إن شرف الآلهة ينبغي أن يكون مُقدَّسًا.
هبوليتس
:
اذهبوا يا رفاقي، ومرُّوا تحت هذه القبة، وأعدوا الطعام؛ لأن المائدة الغنية
بالطعام بعد الصيد مشكورة. ولا بُدَّ أن أرى خيلي مطهَّمة وأن أُدرِّبها — بعد
أن أتناول وجبتي — على جرِّ العربة. أمَّا فينس، فإني أُودِّعها هنا.
الخادم
:
ولكنَّا يا فينس يا ربة الجلال نتقرب بدعواتنا لتِمثالك ونحمل لك في أفئدتنا
إجلالًا يُلائم مقامنا الوضيع — وما ينبغي لنا أن نتبع مثال الشباب — ويَليق بك
أن تعفي عنه إن كان في حديثه نزَقٌ دفعه إليه الشباب المتهوِّر. ولتظهري كأنك
لم تسمعيه، فمن اللائق بالآلهة أن يكونوا أكثر من أبناء الفناء عقلًا
وحكمةً.
الجوقة
الفرقة الأولى
:
هناك صخرة تتدفَّق من قاعها المنخفض الينابيع الفوارة، ومن أعلاها نُدلي
الجرار حتى تبلغ أسفل الجدول. ولي صديقة أتت إلى هذه الينابيع بقمصانها المحلاة
باللون الأرجواني اللامع كي تغسلها هذه القطرات الندية كالبلور. ثُمَّ نشَرَتْ
هذه الثياب ذات الألوان الزاهية على حافة الصخرة المرتفعة وعرضتها لأشعة الشمس
الدفيئة.
الفرقة الثانية
:
وهي أول من حمل إلينا هذا النبأ، وهو أن الأميرة الملَكية تستلقي على فراش
المرض في غرفتها في فتور ووَهَن، وهي تتحاشى كل العيون وتُرسل على رأسها الذهبي
نقابًا خفيفًا. وقد امتنعت شفتاها الملائكيتان ثلاثة أيام عن الطعام يذيبها
الأسى، وهي تشكو ألمًا خفيًّا وتنتظر الموت يُفرِّج كربتها.
الفرقة الأولى
:
أيتها الملكة التَّعِسة، إن إلهًا ما قد أجج هذه النار في صدرك، فشققته أهوال
بان المفزعة، أو تسلطت عليه هكيتي، أو تحكَّم فيه نفوذ الأم «سِبِل» التي تتجول
فوق الجبال وهي تهذي. أو ربما أرسلت ملكة الصيد هذا الألم وقد أهملت طقوسه
المقدسة، وهي تتجول على سواحل البحيرات وفوق المُرتَفَعات وعلى متن المحيط
الأجاج.
الفرقة الثانية
:
أم هل انقاد مولاك الزعيم الأثيني للمُتعة الضالة؟ فهل أنتِ من أجل هذا
تَسترسلين في الأحزان وترثين لفراشك الذي أُسيء إليه؟ أم هل شقَّت عباب الماء
سفينة ورسَت عند خليج تروزين الحبيب تَحمل إليك نبأً يفطر فؤادك؟ أم هل سمِعَتْ
مليكتي بحادث مؤلم وقَع في كريت يُفتِّت قلبها، فأوَت إلى فراش المرض؟
(نشيد):
إنَّ الغم الجنوني كثيرًا ما يُؤثر أن يستقر في قلوب النساء، فيَكتئبن رعبًا
وفرقًا؛ وذلك حينما تدور الأشهر دورتها الكامل وتنبئ بأن ساعة الوضع الأليمة
تقترب. وقد عانَيت هذه المخاوف وهذه الآلام من قديم. ولكني كنت دائمًا أضرع إلى
العذراء السماوية التي تحب إرسال السهام (ديانا)، فتخف إليَّ ديانا وتقدم لي يد
المعونة الرحيمة، وتسوق معها تلك القوى التي تقوم على رعايا سرير
الزواج.
ولكن انظروا! إنَّ المربية العجوز أمام الأبواب تُسندها وهي تخرج من دارها،
وإن سحابة كئيبة كثيفة تُحلِّق فوق جبينها، وإني أحب أن أعرف ماذا عسى هذا
الأمر أن يكون، ولماذا ذبلت من فوق وجنتَي هذه الملكة الشقية الزهرات التي
سرعان ما تزول.
فيدرا والمربية والجوقة
المربية
:
أيها التُّعَساء في دار الفناء! أفهكذا تذبل زهراتكم من أثر المرض العُضال!
ماذا أفعل وعن أي شيء أمتنع كي أوفِّر لك راحتك؟ هنا تَستطيعين أن تشهدي نور
السماء، وهنا تَستنشقين عليل الهواء. هنا أمام الدار هات فراش المرض لأنك
كثيرًا ما طلبت أن تُحملي إلى هنا، لتعودنَّ إلى غرفتك سريعًا لأنك متقلِّبة
الأهواء ولا شيء يبعث في نفسك السرور. إنَّ كل ما نقدم إليك لا يسرك، وإنك
لتتوقعين الخير من عالم الغيب. إن للمريضة ميزة على من يقوم بتمريضها؛ فهي
مريضة فحسب، أمَّا الممرضة فهي بحاجة إلى انتباه الفكر كما هي بحاجة إلى العمل
بيدَيها. غير أن حياة الإنسان كلها مليئة بالآلام، ولا تقف المشقَّة عند حد.
وإن كان هناك ما هو أثمن من الحياة فهو مغمور في الظلام مختفٍ وراء الغمام.
ولسنا نُصيب إذا كان ضياء الشمس يَستهوينا حين يُرسل شعاعه الذهبي فوق هذه
الأرض، كما أنَّا لا نعلم ما يُكنُّه لنا الغد، ولم نطلع على شيء مما تبطنه
الممالك السُّفلى، وكل شيء تكتنفه الأساطير التي تبعث الحيرة في النفوس.
فيدرا
:
احمِلَنني يا صديقاتي، وأسندْن رأسي؛ فقد خارت قواي. وأنت يا من تقومين على
خدمتي أمسكي بيدي النحيلتين. ما أثقل هذا الرداء! إن رأسي يحمله بمشقة، انزعوه
عني حتى تسترسل هذه الخصلات المجعدة. ويلاه!
المربية
:
تشجَّعي يا ابنتي، ولا تُضْني أطرافك الضعيفة بهذه الحركة وهذا الضجر، فإنك
لو استقررتِ في هدوء وسلَّحت بالصبر فؤادك، كان المرض عليك أخفَّ وطأة. فليس في
هذه الدنيا الفانية من يَخلو من مكافحة الآلام.
فيدرا
:
كم أتمنى أن أتجرَّع الماء البارد من النبع الصافي، وأن يضجع رأسي فوق الشاطئ
المعشَّب تحت ظلال أشجار الحور.
المربية
:
ماذا تعنين بهذا التمني، لا تبوحي بمثل هذه الكلمات للكثير؛ فإنها تنم عن
اضطراب شديد.
فيدرا
:
احملوني إلى الجبل، إلى أشجار الصنوبر؛ فإني إلى الغابة أريد أن أذهب، حيث
الكلاب سريعة العَدْو تُطارد الغزلان المرقَّشة. أقسم بالآلهة أني أتوق إلى
تحية كلاب الصيد، وأن أُلوِّح فوق خصلات شعري اللامعة بسهم من تساليا، وأن أمسك
بالحربة المدبَّبة بين يدي.
المربية
:
من أين لك هذه الرغبة وهذا الغرام بالصيد؟ ولماذا تودِّين لو شربت جرعةً
باردةً من مياه النبع الصافي؟ إن المياه الدافعة تتدفق في الجدول الدائم إلى
جوار القلعة. ومن مياه هذا الجدول تستطيعين أن تروي غُلَّتك.
فيدرا
:
أي ديانا، يا إلهة البحيرة المقدسة، وسباق الفرسان! إني أتحرَّق شوقًا إلى
ترويض خيول هنشيا في حقولك.٢
المربية
:
لماذا تعودين إلى هذه الكلمات الهمَجية؟ إنك حتى الآن لا تَتوقين إلا إلى
الجبل وإلى الصيد، وإلى ترويض الخيول فوق هذه الرمال القاحلة. إنَّ هذا الأمر
لا يُدرك كُنهَه إلا إله يتغلغل في ثنايا عقلك الهائج المضطرب.
فيدرا
:
ماذا فعلت؟ حقًّا إني لشقية. إلى أين انحرفتُ عن صواب رشدي؟ إني كنتُ أهذي.
إن إلهًا غاضبًا قد أصابني بهذه البلية. آه، ما أتعسني! استري رأسي مرة أخرى
بيدك الرفيقة، فإني أشعر بالخجل مما تفوهتُ به. استريني. إن دمعة تتدفق من
عيني، كما أني أُحسُّ بدمِ الخجل الدفيء يتدفَّق في وجنتي. ما أشق ذلك على
النفس حينما يَسترد العقل سالف قدرته! إنَّ الجنون مريع، ولكنه شر خفيف الوقع؛
لأنه يفقدنا الإحساس بالكوارث.
المربية
:
ها أنا ذا أستر رأسك مرة أخرى، فمتى يستر الموت جسمي. لقد تعلمتُ الكثير خلال
عمري المديد. إنَّ خير ما يلائم حياة الإنسان صداقة متبادلة تقوم على أساس من
الاعتدال، فلا تمتد جذورها في أعماق النفوس، محبة تنفكُّ أواصرها في يُسر،
وتتوثَّق عُراها حينما نشاء؛ لأنه عبء ثقيل على قلب واحد أن يُحسَّ بآلام
اثنين. وإني لشديدة الأسف على مولاتي. إنهم يقولون إنَّ الغرام الذي يعمر القلب
طوال الحياة يجلب الألم أكثر مما يجلب السرور، كما أنه على صحة المرء حرب عوان.
ولذا فإن ثنائي على المُغالاة أقل من ثنائي على ما يصدر عن الاعتدال. وهذا ما
يُقرِّر الحكماء.
الجوقة
:
أيتها المربية العجوز، إنك أخلصتِ منذ حداثتك لفيدرا ذات النفوذ والسلطان،
وإنَّا لنشهد آلامها القاسية، ولكنَّا لا نرى عَرَضًا يشفُّ عن نوع المرض، ونحب
أن نَستفسِر عن هذا، ومنك نريد المعرفة.
المربية
:
لستُ في هذا الشأن على تمام الثقة، وهي به لا تبوح.
الجوقة
:
ولكن ماذا عسى أن يكون السبب في آلامها؟
المربية
:
لستُ أَعرف هذا، فهي تُخفي كل شيء.
الجوقة
:
إنها تذوي من أثر علتها.
المربية
:
لم يمسَّ شفتيها طعام لثلاثة أيام طوال.
الجوقة
:
وهل هذا من أثر المرض، أم هل اعتزمَت أن تموت؟
المربية
:
لا بُدَّ أن تَنتهي حياتها سريعًا بسبب امتناعها عن الطعام.
الجوقة
:
لا شكَّ أن هذا لا يسر مولاها.
المربية
:
إنها تُخفي كل شيء، ولا تتحدَّث عن علتها.
الجوقة
:
ولكن لا بُدَّ أنه يُلاحظها حينما يبصر وجهها.
المربية
:
حدَث أنه غائب عن هذه البلاد.
الجوقة
:
هل كنتِ جادةً حينما حاولت أن تتبيَّني علَّتها، وما يُضني فؤادها؟
المربية
:
حاولتُ ما وسعتني الحيلة، فذهبت محاوَلاتي أدراج الرياح. ولكني — برغم هذا —
لن أُخفِّف من حماستي لها، حتى تشهدن بأي عطف أُشاطر مَليكتي البائسة آلامها.
بُنيَّتي العزيزة، دعينا نَنسى ما قالته كل مِنَّا، واستعيدي طبيعتك الحلوة
الرقيقة، وأبعدي عن جبينك هذه السحب القاتمة، ولا تُصرِّي على ما أنتِ فيه. وإن
كنتُ في أمرٍ من الأمور لم أظهر لك الطاعة الواجبة، فلن أُعارضك بعد هذا،
وسأحاول جهدي أن أُسمعك من الكلمات ما يبعث في نفسك السرور. وإن كانت علَّتك من
تلك العِلَل التي لا يصحُّ أن تُروى، فهؤلاء النِّسوة على استعدادٍ لأن
يُخفِّفنها عنك. وإن كانت مما يُجوز لنا أن نذكره للرجال في صراحة، فبُوحي بها
كي نستدعيَ الطبيب الماهر فيأتينا بمعونة الطب؟ لماذا أنتِ صامتة؟ لا ينبغي لك
أن تصمتي هكذا. إن كنتُ قد أصبت القول فاستجيبي لي. ما بكِ! تكلَّمي وانظري
إليَّ. ما أشقاني!
صديقاتي النسوة، إني عبثًا أحاول، ولم أظفر بأكثر مما ظفرت من قبل. إن كلماتي
لم تُخفِّف من قبل عنها الألم، وهي الآن لا تعيرها الإصغاء. ولكن اعلمي أنك لو
بقيتِ عنيدةً كمَوج البحر، وإن أدركتك المنية، فإنك بذلك تسيئين إلى أبنائك،
ولن يكون لهم نصيب في إرث أبيهم العظيم. وإني أقسم لك بالملكة الأمزونية
المحاربة إني صادقة؛ لأنها خلَّفت ولدًا سوف تكون له السيادة على أبنائك.
وحقًّا لقد كان ابنًا غير شرعي، ولكنه نبيل الفكر، وإنك لتعرفينه حق المعرفة،
ذلك هو هبوليتس.
فيدرا
:
ويلتاه!
المربية
:
هل هذا يمس قلبك؟
فيدرا
:
لقد حطَّمتِني. وإني أستحلفك بالآلهة ألا تُسمعيني هذا الاسم مرة
أخرى.
المربية
:
هل أدركتِ هذا؟ إذن لقد أصبتُ الحُكم. فلماذا إذن لا تعمَلين على مصلحة
أبنائك وتنقذين حياتك؟
فيدرا
:
إني أحبُّ أبنائي، ولكن عاصفة أخرى تثور فوق رأسي.
المربية
:
هل يداك يا بُنيَّتي بريئة من الدماء؟
فيدرا
:
يدي طاهرة، ولكن قلبي دنس.
المربية
:
هل أصابك أعداؤك بشرٍّ غريب؟
فيدرا
:
إنما حطَّمني صديق، وكلانا لم يقصد الإساءة.
المربية
:
هل آذاكِ ثيسيوز بإساءة ما؟
فيدرا
:
وددتُ لو أني لا أسيء إليه!
المربية
:
أي باعث مريع يَجعلكِ تُؤثرين الموت؟
فيدرا
:
دعيني وخطئي، فإني لا أخطئ في حقِّك.
المربية
:
إنَّ هذا لا يُرضيني، ولو رضيتُ لكنتُ مقصرة في واجبي نحوك.
فيدرا
:
ما هذا؟ هل أنت تُرغمينني؟ ولماذا تلازمينني كل هذا التلازم؟
المربية
:
إني أتشبَّث بركبتَيك، ولن أتخلى عنهما.
فيدرا
:
لو علمتِ بآلامي لحاقت بك الشرور.
المربية
:
وهل يُمكن أن يحلَّ بي من الشر ما هو أكثر من فقدك؟
فيدرا
:
آلامي تُحطِّمك، ولكنها تجلب لي المجد.
المربية
:
ولماذا إذن تُخفينها، إن كان فيما أسألك خير؟
فيدرا
:
لأني لا بُدَّ أن أهوي من المجد إلى هُوَّة العار.
المربية
:
بُوحي بها إذن، وسوف يَزداد مجدك.
فيدرا
:
اذهبي عني، وبحق الآلهة كُفي عن هذا، واتركي يدي.
المربية
:
لن أفعل هذا، حتى تجيبي لي مطلبي.
فيدرا
:
إذن لأخبرنك لأني أبجل هذه اليد الضارعة.
المربية
:
ومن واجبي أن أُصغي إلى كلماتك وأنا صامتة.
فيدرا
:
ما أشقاك يا أمي! أي حبٍّ وقعتِ فيه؟
المربية
:
لقد أحبَّت عجلًا، أو ماذا تقصدين؟
فيدرا
:
وأنتِ يا أختي الشقية، يا زوجة باكس!
المربية
:
لماذا تذكُرين يا بنيَّتي ما يُعيِّر ذويك؟
فيدرا
:
أنا ثالثة من يحلُّ بهن سوء المصير.
المربية
:
إن قلبي يخور، في أي اتِّجاه تسوقين الحديث؟
فيدرا
:
هنا مبعث الألم الذي يَسحق قلبي، وهو ليس عليَّ بجديد.
المربية
:
ولكن لم أعلم بعد شيئًا مما أُريد أن أسمعه.
فيدرا
:
آه! هل لك أن تُخبريني ماذا أقول!
المربية
:
إني لا أتكهَّن ببواطن الأمور.
فيدرا
:
آه! خبِّريني ما هذا الذي يُسمِّيه الناس الحب؟
المربية
:
إنه أحلى المتع وأقسى الآلام.
فيدرا
:
لقد علَّمتني الخبرة أن أحسَّ بأحد الشقَّين.
المربية
:
ماذا تقول طفلتي؟ هل أنت إذن تحبِّين رجلًا من بين الرجال؟
فيدرا
:
مَن ابن الملكة الأمزونية هذا؟
المربية
:
هبوليتس.
فيدرا
:
لقد سمَّيتِه أنت، ولم أسمه.
المربية
:
ويلي! ماذا تقولين؟ لقد جلبتِ على قلبي أعظم الشقاء. كلا. إن هذا لا يُحتمَل.
صديقاتي النسوة، هل أحتمل هذا وأبقى على قيد الحياة. إنَّ النهار بغيض على
نفسي، وكذلك هذا النور بغيض. سأقذف بنفسي، وأُلقي بها إلى أسفل سافلين وأترك
هذه الحياة. وداعًا، لستُ بعد الآن من الأحياء؛ لأنَّ امرأة عاقلة متواضعة وقعت
في شراك الحب، وحقًّا إنه لشر لم تُرده. أفليسَت فينس إذن إلهة؟ كلا. إن كان
هناك ما هو أقدر من الآلهة، فتلك هي. فقد قضَت على الملكة مولاتي وعلى كل من
بالدار.
الجوقة
:
هل سمعتِ هذا، هل سمعت كلامًا لا يليق أن يطرق مسمعيك؟ هل سمعت السيدة
الملكية تبوح بآلامها وما كان أحراها أن تخفيها بصمتها؟ وددتُ لو أن المنية
أدركتني قبل أن تحيدَ صاحبتك عن الحكمة الرشيدة إلى هذا الحد البعيد. ويلتاه!
أي حزن يفتت كبدي. إنَّ الآلام حليفة حياة الإنسان. لقد حاق بك سوء المصير، كيف
استطعت أن تبوحي بمثل هذه الآلام؟ ولماذا بقيتِ إلى اليوم على قيد الحياة؟ إن
رزءًا جديدًا سوف يحلُّ بهذه الدار، لأن فينس هي التي أشعلت هذه النار المهلكة.
ما أنكد طالعك يا ابنة كريت!
فيدرا
:
يا فتيات تروزين، يا من تقطنَّ هذا الركن القصي من ولايات بلبس في الليل
الطويل الهادئ. كم ذا جلتِ بفكري في فساد الحياة الإنسانية فسادًا محزنًا، وفي
ميل البشر إلى الشر. فلم أعزُ ذلك إلى نقصٍ في الطبيعة، فقد وَهَبَت كثيرًا
مِنَّا الإحساس بالحق. وهدَتْني تأمُّلاتي إلى هذه النتيجة: إنَّا نعرف الخير
ونحسُّ به، ولكنَّا لا نفعله. بعضنا يَنقصه روح العمل من جراء التراخي، وبعضُنا
يؤثر المتعة المستحبَّة على فعل الفضيلة، وفي الحياة متع متعددة، منها الحديث
المَرِح الذي ننفق فيه الوقت في غير طائل، والتراخي، وهو شرٌّ مستحب يجلب
العار. ومتع الحياة ضربان، أحدهما ليس شرًّا، والآخر يؤدِّي بالديار إلى البؤس
والشقاء. ولو أنَّا ميَّزنا هذا من ذاك في وضوح وجلاء لفرَّقنا بينهما ولم
نُطلق عليهما اسمًا واحدًا.
كنتُ هكذا أهيم في بيداء الفكر العميق، وأحسب أن ليس هناك إغراء بوسعه أن
يخدع عقلي، ويحمله على أن يتخلَّى عن مقصده النبيل. وها أنا ذا أبسط لَكُنَّ ما
دار بخلدي، أحسستُ بجراح الحب، وسُرعان بعدئذٍ ما أخذت أفكر كيف أتحمَّلها على
خير وجه. من ذلك الحين أخفيت آلامي في طيِّ الكتمان؛ فاللسان خداع. يسيرٌ عليه
أن يقدم النصح لغيره حين يكتشف لديه الخطأ، ولكنه كثيرًا ما يعود على صاحبه
بالشر البليغ. ثُمَّ اعتزمت أن أحتمل جنون الحب صابرة، وأن أتغلب عليه بالعفة
الصارمة. ولمَّا لم يجدِ هذا في هزيمة الحب رأيتُ أنه أشرف لي أن أموت، ولن
يلومني أحدٌ فيما اعتزمت؛ ذلك أني ارتأيت هذا: إذا كانت فعالي فاضلة، فلا ينبغي
أن تبقى مغمورة مطمورة، وإن كانت وضيعة فلا يصحُّ أن يشهد الكثير فضيحتي وعاري.
وكنتُ أعلم ما في هذا الهيام والغرام من فجور، وكنتُ أعلم أنه غرام مشين
بالكرامة، ولما كنتُ امرأة فقد كنت أعلم أنه ممقوت مرذول. يا ليتها ماتت وعانت
كل الآلام تلك التي كانت أولى من دنس سرير الزوجية بالحب الزائف! في بيوت
العُظَماء نشأ هذا الداء، ومن هنا انتشر الوباء. وإذا لقيَ وضيع الفعال قبولًا
من ذوي المراتب العليا، عدَّها كل مَن دونهم أمورًا جديرةً بالمحاكاة الصادقة.
وإني أمقت كذلك المرأة التي يَنطلِق لسانها بالعبارة الرقيقة، وهي لا تخشى أن
تَطوي في قلبها نيَّة الفسق والفجور. أي فينس، أيتها الملكة، يا ابنة البحار،
خبِّريني كيف يستطيع أمثال هؤلاء النسوة أن يُجابهن أزواجهن ولا يرتعدن من
الظلام الذي اتخذن منه عونًا، ولا يخشين أن تجد السقوف والجدران ألسنًا تذيع
بها ما اقترفن من آثام؟ لن أعيش يا صديقاتي كي أجلبَ العار على زوجي وعلى
أبنائي. كلا؛ إني أريدهم أن يعيشوا أحرارًا في قلب ولاية أثينا الزاهرة، وأن
يُباهوا بذيوع الصيت، وأن يشتهروا بالمجد من أجل أمهم؛ لأن العقل قد ينشأ على
الجرأة النبيلة، ولكنه يتخاذل مستذلًّا إذا أدرك ما أتت به آلام أو أتى به الأب
من سيئات. والعقل الحكيم الذي يدرك قدر العدل والفضيلة يقدر الحياة الطيبة ذات
الشأن الرفيع. والزمان يُظهر ما يُميزنا من عيوب؛ كالمرآة في يد الفتاة
العذراء. وأرجو ألا أُرى بين هؤلاء!
الجوقة
:
ما أجمل الطُّهر في كل حال؛ فهو يجلب أسمى مراتب الشهرة للأحياء!
المربية
:
مولاتي! لقد استولى على قلبي رعبٌ مفاجئ، حينما سمعتُ أول الأمر بأحزانك.
ولكني أُدرك خطئي. ومن الحقائق الثابتة أن الرأي يستمد الحكمة كلما أطَلْنا
التفكير. لا عجبَ ولا غرابةَ فيما تُحسِّين. إن غضب الآلهة الشديد ينصبُّ عليك
انصبابًا. هل تُحبِّين؟ أي عجبٍ في هذا! ما أكثر ما يحسُّ بسلطان الحب. وهل أنت
من أجل هذا تَنبذين الحياة؟ ما أسوأ مصير من يعيش اليوم ومن يعيش في مقبل
الأيام إن كان الموت مُنتهاهم. إن فينس — إن أقبلت بكل قواها — لا تُقاوم،
ولكنها رقيقة مع القلب الذي يخضع لسلطانها. أمَّا المتكبرون الذين يتحدُّون
نفوذها بازدراء، فهي تتملكهم وتُنزل بهم شديد العقاب، وأنتِ بهذا جد عليمة.
إنها تشق عنان السماء، وتتسلط على أمواج البحار، وكل شيء مدين لها بالوجود.
إنها تَبذُر بذور الحب وتنبتها، وكل كائن حي على وجه البسيطة عنها نشأ. ويعلم
أولئك الذين يروون تاريخ الزمن القديم، وأولئك الذين يطئون مرتاد ميوزس المقدس،
كيف تعلَّق قلب جوف بحب سملى، وكيف مسَّ الحب قلب أورورا الجميلة الحسناء
فحمَلَت سفلس إلى معارج السماء؟ وبرغم هذا فهما يتَّخذان لهما مكانًا في
السماء، ولم يفرَّا من عِشرة الآلهة، بل إن هؤلاء ليُعزُّونهما لأني أحسب أن
الآلهة أنفسهم قد خضعوا لهذا السلطان، فكيف إذن لا تَحتملينه أنت؟ إن أباك قد
أعطاك الحياة حينما استكان للحب، فإن كنتِ تبغضين قيوده فالتَمِسي لك آلهة
آخرين لهم قواعد أُخرى بها يَحكمون. كم رجل تظنين من أصحاب الحكمة العميقة يرى
فراشَه ملوَّثًا بهذا الداء ولا يغضُّ الطرف عنه؟ وكم والد يُعين أبناءه على
حبٍّ غير شريف؟ إنَّ من الحكمة أن يَمنعنا الشرف عن التصريح به. ليس من الخير
للإنسان أن يَسيرَ بدقة في كل نواحي الحياة؛ فالسقوف التي أُقيمت للوقاية فحسب
تَفتقِر إلى دقة الصناعة. وكيف يبلغ شاطئ النجاة من حاقت به مثلك النوائب؟ وإن
كانت الحياة قد وهبَتْك من الخير أكثر مما أصابتك بالشر، فهذا من فضل ربك لأنك
في دار الفناء. كُفِّي يا بنيتي العزيزة عن هذه الأفكار العقيمة، وعن هذا
التأنيث؛ فإنك إن نشدت كمالًا يفوق كمال الآلهة لم تَبُوئي بغير الملامة. وإن
كان الحب قد ملك عليك قلبك فالزمي الثبات. فهذا من فعل ربة الحب، وهي على كل
شيء قديرة. وإن أصابتك في الحب الآلام، فخفِّفي عن نفسك هذه الآلام. واعلمي أن
هناك طلاسم وتمائم لها قدرة عجيبة على شفاء أمراض النفوس، وسوف تظفرين من فعلها
براحة الفؤاد. وما أبطأ الرجال في كشفها، ولكن ما أسرع مهارة النساء.
الجوقة
:
إن ما تستحثك به يا فيدرا يُسكِّن آلامك الحاضرة. ولكني أُثني على ما سلكت،
وقد يكون هذا الثناء ثقيلًا على مسمعَيك، وقد يبعث في نفسِك ضيقًا لا تبعثه
كلماتها المُهدِّئة.
فيدرا
:
ما أكثر البيوت النبيلة وما أكثر المدن الآهلة بالسكان التي قوَّضَ الملق
أركانها. إنَّ المداهنة التي تسرُّ الأسماع لا تليق بنا الآن، إنما يليقُ بنا
ما يبعثنا على أن نعمل صالح الأعمال.
المربية
:
فيمَ هذه النغمة المترفِّعة؟ ليست بك حاجة إلى الكلام المنمق، إنما أنت في
حاجة إلى رجل. وسرعان ما تجدين من يُعبِّر بلباقة عما يُهمُّك. ولو أن هذا
الداء لم يمس حياتك، ولو أن الحياء لم يستولِ عليك، ما سُقتك إلى هذا أملًا في
إدخال السرور على نفسك وإشباع حبك. إنما البر أن أنقذ حياتك، فلا يلومنِّي في
هذا أحد.
فيدرا
:
تبًّا للسانك. هلَّا ضممت شفتيك؟ ألا تكفِّين عن الدفاع عن دعواك
المشينة؟
المربية
:
قد تكون مشينة، ولكن فيها نصيحة لك أقيَم من الشرف. إنها تنقذ حياتك وهي
أهمُّ من الاسم الذي تحبِّين أن تموتي من أجل كرامته.
فيدرا
:
إن كلماتك مخزية وإن تكن قوية السبك، فأستحلفك بالآلهة أن تكفِّي عن الدفاع
عن دعواك بأني أُصيب لو أسلمت روحي للحب؛ لأنك لو زيَّنت لي المسلك الوضيع
بزخرف اللفظ حلَّ بي الخزيُ والدمار وأنا أفرُّ منهما.
المربية
:
إن كان هذا عزمك، فما كان أحراك ألا تحيدي عن الحق. أمَّا وقد فعلتِ فاقبلي
حكمي، وقدِّمي لي على الأقل هذا الجميل. لديَّ في الدار عقاقير لها من نفوذ
السحر ما يُخفِّف لوعة الحب، وقد تذكرتها أخيرًا، فلا تجعلي للخوف سلطانًا على
نفسك؛ فهي تخفِّف عنك عذاب الفؤاد دون أن يلحقك العار أو تؤذي في شعورك. ولكن
لا بُدَّ لك أن تظفَري من الشاب المحبوب بعلامة أو كلمة أو أثرٍ من قميصه، كي
نجمع بين قلبَين متقاربَين في حب واحد.
فيدرا
:
وهل هذا الطلسم دهان أو شراب؟
المربية
:
لا تطلبي المعرفة يا بُنيتي، بل اطلبي لقلبك الشفاء.
فيدرا
:
أخشى أن تكوني قد بالغت في الثِّقة بحِكمتك.
المربية
:
إنك لتخشَين كل شيء. مم تخشين؟
فيدرا
:
أخشى أن تبُوحي بالسرِّ لابن ثيسيوز.
المربية
:
ضعي فيَّ ثقتك، وسأَرعى هذا الأمر بعنايتي حقَّ الرعاية. أي فينس، أيتها
الملكة، يا ابنة البحار، أعينيني في هذا! ولست الآن بحاجة إلى أكثر من أن تقف
صديقاتي داخل الدار على شيءٍ مما اعتزمت.
فيدرا والجوقة
الفرقة الأولى
:
أيها الحب، إنك من خلال العيون تبعث الرغبة الحارة في النفوس، كما تُدخل
البهجة التي تُذهل الفؤاد وتسرُّ النفس بعذوبتك. ولكن أرجو ألا تحلَّ بقلبي
وتتحكَّم فيه وتُفلت مني الزمام وتُرغمني على الإذعان؛ لأن النار المشتعلة —
الشمس — والشُّهُب التي تشق بمسيرها السماء لا تستطيع أن تُلاقي سهام ابن جوف
حينما يُرسلها من يدَيه بعنف في الهواء فيؤجج نيران العشق والغرام.
الفرقة الثانية
:
عبثًا ما يَذبح الإغريق من ضحايا مُنذرة وما يُقدمون — وهم خاشعون — من طقوس
مقدَّسة عند جدول ألفيوس أو معبد أبولو في بثيا ذي الرونق والبهاء، فإنَّا بذلك
لا نُكرم الإله الذي يمسك في يده مقاليد الأبواب الذهبية للحب والحبور يفتحها
أنَّى شاء، فهو إله يستبدُّ بقلوب البشر ويعيثُ فسادًا حيثما حلَّ سلطانه،
ويُثقل الناس بالويلات فيرزحون تحت نيره الذي لا يلين.
الفرقة الأولى
:
وأنتِ يا فخر أوكيليا وزهرتها،٣ أيتها العذراء التي لم تُجرِّب من قبل الحب، والتي لم تَسَقك من
قبل إلهة الزواج — هَيْمن — فأنتِ غريبة عن فراش الزوجية، عديمة الخبرة، حسناء
منكودة الحظ، لقد سارَعتِ من بيتك يملأ جوانحك الوجل الشديد، كالفتاة المجنونة
التي تطير على جناح السرعة إلى بقاع باكس المتهتِّكة، وأسلمتك فينس إلى سرير
الزواج الملطَّخ بالدم، بين الدماء والدخان واللهيب وأهوال القتال، وأمرَتِ ابن
الكمينا أن يتقبَّل الهدية الحسناء.
الفرقة الثانية
:
انطقي أيتها البروج المقدسة التي تقوم لطيبة سدًّا منيعًا. انطقي أيتها
الجداول التي تتدفَّق من ينابيع ديرسي، وخبِّرينا كيف أتتك ملكة الحب، وسط
النيران المشتعلة المضيئة، يقصف حولها هزيم الرعد، فقضَت على سملى الذابلة
بالموت، وهي الحورية المنكودة التي حملت باكس بعدما عانقها جوف، وهكذا بسطت
نفوذها الطاغي فوق الجميع، وهي قَلِقة كالنَّحلة تتنقل من زهرة إلى
زهرة.
فيدرا
:
الزموا الصمت يا صديقاتي، إني قد تحطمت.
الجوقة
:
أي سبب للفزع في بيتك يا فيدرا؟
فيدرا
:
أنصتوا حتى أستطيع أن أسمع ما يقولون بداخل الدار.
الجوقة
:
إن كلماتك تُنذر ببعض الشر، ولكني بكماء.
فيدرا
:
آه، ما أشقاني، وما أعظم بلواي!
الجوقة
:
ما معنى هذا العويل؟ وأيُّ داعٍ لرنة الأسى في صوتك؟ خبِّرينا، سيدتي، ماذا
سمعت حتى حل بقلبك هذا الفزع المباغت؟
فيدرا
:
الدمار! الدمار! قفنَ لدى الباب، واستمعن إلى الضجيج الذي ثار بالبيت.
الجوقة
:
أنت واقفة لدى الباب، والصوت الذي ينبعث من الدار يطرق مسمعيك. فخبِّريني أية
نائبة مريعة حلَّت بها.
فيدرا
:
لقد علا صوت ابن تلك الأمزونية المتوحِّشة، وثار غضبه الشديد في وجه
خادمتي.
الجوقة
:
إني أسمع صوته، ولكن كلماته لا تبلغ أذني في وضوح، ولكنها تبلغك، والأبواب
تنقل إليك ما يقول داخل الدار.
فيدرا
:
إنه يُسميها قوَّادة دنيئة، ويَصِمها بأنها خانت سرير مولاها غدرًا، هذا ما
سمعت في جلاء.
الجوقة
:
وا حسرتاه على هذا المصير البائس! أيتها الملكة المحبوبة، إن سرَّكِ قد فشا.
أيَّة نصيحة أُقدم إليك؟ إن أسرار قلبك كلها قد أُذيعت، وتحطَّمت حياتك، وغدر
بك الأصدقاء.
فيدرا
:
لقد باحت بأحزاني فحطَّمتني. أرادت أن تُخفف عني وتَشفي علة فؤادي، فدفعها
الود، ولكنها سلَكَت مسلكًا غير نبيل.
الجوقة
:
أيتها التَّعِسة التي تُقاسي الآلام، ماذا عساك فاعلة؟
فيدرا
:
لا أدري غير شيء واحد: الموت السريع، الموت شفاءُ آلامي الوحيد.
فيدرا وهبوليتس والمربية
هبوليتس
:
أمنا الأرض، وأنت أيتها الشمس التي تطَّلع على كل شيء! ما هذه الكلمات ذات
المَغزى المريع التي سمعت.
المربية
:
لا تَنبِس بكلمة أكثر من هذا، خشية أن يلحظ حديثك أحد.
هبوليتس
:
كيف لا أتكلم وقد آذَيتِ أذني بوضاعتك!
المربية
:
إني أتوسلُّ إليك بهذه اليد الحسناء ألا تفعل!
هبوليتس
:
عنِّي، وأَبعِدي يديك، ولا تمسِّي ردائي.
المربية
:
إني أجثو على ركبتيَّ ضارعةً ألا تحطم حياتي.
هبوليتس
:
لماذا تفعلين هذا، وقد صرَّحتِ أنكِ لم تبوحي بكلمة سوء؟
المربية
:
إنَّ أمورًا كهذه لا يصحُّ أن يعلمها الجميع.
هبوليتس
:
العمل الشريف يمكن أن يُذاع دون أن يُخدش الشرف.
المربية
:
لا تتهور وتحنث في يمينك.
هبوليتس
:
حقًّا لقد أقسمتُ بلساني ولكني لم أقسم بقلبي.
المربية
:
ماذا تريد أن تفعل؟ أن تؤدِّي بأصدقائك إلى الدمار!
هبوليتس
:
إني أحتقرُك، ولا أعقد الصداقة مع الوضعاء.
المربية
:
اعفُ عني، فإن ضعف الإنسان كثيرًا ما يسوقه إلى الزلل.
هبوليتس
:
ربي جوف! لماذا أوجدت المرأة تحت ضوء الشمس الساطع، وهي ذلك الشر الذي يخدعنا
مظهره؟ لأنكَ إن أردت أن تملأ الأرض العامرة بالبشر فلم تكن ثمَّت بك حاجة أن
تتخذ المرأة وسيلة لذلك. ألم يكن بوسع الرجال أن يُقدِّموا لدى معبدك الحديد
والنحاس أو أكداسًا من سبائك الذهب، كي يَشتروا بها الأطفال، فتُقدِّم لهم
الأبناء بنسبة عطاياهم الغالية؟ إذن لاستطاع الرجل أن يعيش حُرًّا لا يُثقل
كاهله عبء النساء. ولكُنَّا الآن إن أردنا أن نسوقَ هذا الشر إلى ديارنا كان
لزامًا علينا أن نبذل ما نملك؛ ومِنْ ثَمَّ يبدو أن المرأة للرجل شر مستطير.
يأتي بها أبوها إلى الوجود ويُنشِّئها، ثُمَّ عليه بعدئذٍ أن يقدِّم لها مهرًا
ويبعث بها إلى بيت آخر كي يُخلِّصَ نفسه من شرِّها. ومن عجب أن يَبتَهِج من
يحمل هذا العبء الثقيل، بل ويخلع عليها كل زينة فاخرة، ويكسو هذا التِّمثال
الفاتن بفاخر الثياب. ما أشقاه! إنه يُنفق عليها كل ما يضم بيته من ثراء. وإن
كانت المصاهرة معقودة مع بيوت النُّبلاء، فعليه حتمًا أن يحيط فراش الزوجية
المضني بمظاهر البهجة الكاذبة. وإن ألفى فيمن اختار حلاوة العشرة ولكنها من بيت
وضيع غير نبيل، كان لزامًا عليه أن يُخفيَ هذا النقص بالفعل الجميل. وأوفر
حظًّا من هذا وذاك من يتحاشى هذه وتلك، ويسوق إلى بيته زوجة ساذجة بسيطة طيبة
الخُلُق. إني أمقت المرأة المتعلِّمة، ولا أحب أن يضمَّ بيتي زوجة أكثر حكمةً
مما ينبغي للنساء؛ لأن فينس تستطيع في يُسرٍ أن تدسَّ الدسائس في صدور هؤلاء
النساء المتعلِّمات، في حين أن السذاجة تبعد المرأة التي لا تستطيع بذكائها أن
تُدبر المكائد من أمثال هذه السيئات. ولا ينبغي أن تقوم على خدمة الزوجة خامة،
بل إني لأوثر أن تقطن الزوجة مع الحيوان الذي لا يملك القدرة على الكلام، حتى
لا يتيسَّر لها أن تجد من تتحدَّث إليه أو تسمع منه جوابًا في حديث. والآن
تُدبِّر زوج أبي الآثمة في الدار حيلة آثمة، وهذه الخادمة السافلة تُنفذ لها
خارج الدار تلك الخطة الفاجرة. والآن أراك أيتها السافلة الدنيئة تأتينني كي
تُتاجري تجارة خسيسة بفراش أبي وهو أقدس من أن يُمَسَّ. إنَّ كلماتك القذرة
تدنس أذنيَّ، ولا بُدَّ لي أن أطهرهما في الجدول النقي. كيف لي إذن أن أقترف
هذا الإثم إن كان مجرد ذكره يُلوِّثني؟ اعلمي هذا أيتها المرأة، إنَّ تقواي
تَحميكِ، فلولا أنكِ فاجأتني وأنا مرتبط بعهد مقدَّس لما امتنعتُ عن الإفضاء
بهذا الأمر إلى أبي، ولكني سأهجر هذا البيت في غيبة ثيسيوز عن بلاده، وسأضمُّ
شفتيَّ، وإذا ما عاد عُدت معه، وسأرى حينئذٍ كيف تُجابهين أبي أنتِ ومولاتِك؟
وسأُعرِّفك وإياها بعدما تُدركان ما كنتما تحاولان. قاتلكما الله! إن قلبي لن
يشبع بُغضًا للنساء مهما عبَّرتُ عما في نفسي من ضغينة لأنهن أبدًا آثمات. فإما
وجدتنَّ من يُسبغ عليكنَّ الحشمة، أو فدعوني أصب عليكن لومي دائمًا.
فيدرا والمربية والجوقة
المربية
:
ما أتعس النساء وما أبأسهن! لقد خابَت آمالنا، فأية حيلة وأيَّة حكمة تهدينا
الآن إلى إنقاذِك من هذه الأحبولة الشائكة؟
فيدرا
:
هذا جزاءٌ عادلٌ. أيتها الأرض، أيها النور! كيف أفرُّ من مصيري، وكيف يا صديقاتي أخفي
آلامي؟ أي إله يتكرم بمعونتي؟! وأي حيٍّ يُحالفني، أو يؤيد عملًا
وضيعًا. ليس لحياتي من هذه الشرور مأوى، وها أنتنَّ ترينني أشد بنات جنسي ضيقًا
وأعظمهنَّ بؤسًا.
المربية
:
حقًّا إن الدمار يُحلِّق فوق رأسك. ولم تُجْدِ محاوَلات خادمتك الماكرة
فتيلًا، وقد ساءَت أمورك جميعًا.
فيدرا
:
أيتها السافلة الدنيئة، إنكِ وضيعة مفسدة لصديقاتك. أية بلية جلبتِ لي؟
اللهمَّ إني أسألك يا جوف العظيم، يا مُنشئ أهلي، أن ترسلَ عليها صاعقة من
عندِك وتَمحوها من وجه البسيطة! ألم أُكلِّفك — وقد أدركت مقصدك — ألا تبوحي
بما أعاني الآن؟ ولكنَّك لم تَحتمِلي أن تَكبحي جماح لسانك. وإذن فلن أموت
مُحاطة بالجلال. ولا بُدَّ لي الآن أن أعقدَ عزمًا جديدًا؛ لأنه — بعدما ثارَت
حفيظته — سينفض إلى أبيه زلتي، وسيبوح لبثيوز المسنِّ بآلامي، وينشر في أنحاء
البلاد جميعًا قصتي المخزية. ألا سُحقًا لك ولأشباهك، فإنكن تُخفِّفن إليَّ
معونة أصدقائكن بطرق غير شريفة لا يرضون عنها!
المربية
:
أقرُّ لكِ يا مولاتي أنكِ على حق حين تلومينَني على خطئي؛ لأن ما تُكابدين
يغلب الحكمة الرزينة. ولكني أحبُّ — برغم هذا — أن أدافع عن نفسي بهذه الكلمات
لو تسمَحين. لقد ربَّيتُكِ طفلة، وإن قلبي لينبض بالحبِّ لك، ولقد كنتُ أبحث عن
الدواء الذي يُخفِّف عنك الآلام، ولكني بؤتُ بأبغض شيءٍ إلى نفسي. ولو أفلحت
لحشَرتِني في عداد الحكماء. حقًّا إنَّ عقولنا تميل إلى الحكم بناءً على مجرى
الحوادث.
فيدرا
:
هل من العدل أن تُصلحي بمثل هذا الكلام العابث ما أفسدتِ، وأن تُحاولي كسب
قلبي بعدما صوَّبتِ إليه طعناتك؟
المربية
:
لن أتمادى في دعواي، وأقرُّ أني لم أكن حكيمة. ولكني — برغم هذا — أستطيع أن
أجد لك وسيلة للنجاة.
فيدرا
:
لن أصغي إليك بعد هذا. لقد نصحتِني من قبل بما يخدش الشرف، وكانت محاولاتك
دنيئة سافلة. اغربي عني، واعني بأمرك. أمَّا أنا فسأفعل ما يُملي الشرف. يا بنات تروزين
الكريمات، امنحنَني الآن مطلبًا مُتواضِعًا، عِدُوني وعدًا صادقًا
أن تتكتَّمنَ ما سمعتُن.
الجوقة
:
أي ديانا المقدسة، يا ابنة جوف، اسمعي قسَمي: إنني لن أبوح بآلامك.
فيدرا
:
ما أنبل ما تقولين. ولكني فكرت طويلًا، فلم أجد غير سبيل واحد أخفِّف به هذه
الهموم، وأضمن به لأبنائي حياة مجيدة، وأُهوِّن به على نفسي في هذه المحنة. إني
لن أجلب العار على سلالتي الكريتية، ولن أَظهر في حضرة ثيسيوز الملَكية ملوَّثة
بهذه الوصمة؛ وذلك من أجل حياة واحدة!
الجوقة
:
أي عمل يائس تَعتزمين؟
فيدرا
:
أن أموت، ولكن كيف؟ سأُفكِّر في هذا مليًّا.
الجوقة
:
لا تتحدَّثي بهذا الطيش.
فيدرا
:
ولا تُقدمي لي نصيحة طائشة. لقد كتبتِ عليَّ فينس السقوط، فسأسرُّها اليوم
بمُغادرة الحياة، وأسلِّم بالنصر للحب العسوف. ولكنَّ موتي سيكون لغيري سببًا
في الألم، فيتعلَّم ألا يَشمخ بأنفِه على نائباتي كما يتعلَّم درسًا في
الإنسانية إذ يُشاطِرُني همومي.
الجوقة
الفرقة الأولى
:
آه. لو كان لي فوق التِّلال الوعرة مكان بين الصخور، ولو أني من هذا المكان
اخترقتُ بجناحيَّ الهواء مثل الطيور، إذن لحلَّقتُ عالية فوق موج الأدرياتيك
الذي يَصطخِب على السواحل، أو فوق إلبو الذي يتدفَّق تيارُه في اكتئاب؛ حيث
فيثن العزيز المفقود تبكيه أخواته وقد حرَّكت قلوبهن الشفقة، ويتحدَّر دمعهنَّ
الكهرماني الصافي قطرات بغير انقطاع إلى جانب أبيهم الحزين (المحيط) ذي التيار
الأرجواني.
الفرقة الثانية
:
أو أطير إلى سهول هسبريا الشهيرة التي تتحلَّى أشجارها بثمار الذهب كي
أُشاطرَ هسبريا نغَمَها الحزين. إلى تلك السهول التي لم يَسمح إله الموج
الأرجواني بالسير إلى ما وراء شُطآنها. وإنما هناك يَقِف أطلس ذو القامة
الشامِخة يُتاخِم السماء مريعًا مُفزعًا، وهناك تَنفجِر يَنابيع أمبروزيا وتروي
مُستقَرَّ جوف، وهناك تمدُّ التربة الخصْبة الناس جميعًا بخيراتها الوافِرة،
فيطمئن لذلك شعور الآلهة.
الفرقة الأولى
:
أيتها السفينة الكريتية! إنكِ بأشرعتِكِ ناصعة البياض التي تَنتشِر وسط
العواصف في كبرٍ واعتزازٍ شققتُ عبابَ المحيط الصاخب، تحملين — وأنت ظافرة —
مَليكتي من مقرِّها السعيد إلى أقسى آلام الزواج وويلاته؛ لأنها حينما خلَّفت
أرض نوسيا انطلقَتْ إلى أثينا المجيدة فوق اليمِّ وفي إثرها نكد الطالع،
يَحدوها طوال الطريق نذير السوء، حتى رسَت عند خليج منكيا، ووطأت قدمُها شواطئ
أتكا.
الفرقة الثانية
:
وهناك أشعَلَت روحها ملكةُ كِثِرا — فينس — وأضرمَت نارًا حاميةً دنسةً،
وأصابتها بمرض الحبِّ العضال، وأثارت في نفسها غضبًا هائجًا. والآن يضيق صدرها
بالشر الأليم، ويُمزِّق صدرها اليأس والأسى، وهي تُريد أن تهرع إلى الملجأ
الأخير، وقد روَّعتها الآلهة القاسية، فأحاطَت جِيدها الناصع بحبل خانق؛ لأنها
شديدة الرغبة في الاحتفاظ بسُمعتها الشريفة. تريد أن تُطفئ لهيب الحب الذي يشعل
الأسى، والذي يَضطرم في صدرها. إنها تريد أن تموت.
خادمة
(من الداخل)
:
الغوث، الغوث! ليُسرع بالمعونة كل مَن هو من الدار قريب. إن الملكة زوج
ثيسيوز قد فاضَت روحها.
الجوقة
:
ويلاه! لقد حُمَّ القضاء، وعقدت مولاتي الملكة حول جيدها حبلًا خانقًا
فأدركتها المنية.
الخادمة
:
هلَّا تعجلتم؟ هلَّا أتيتم بقطعة من الصلب حادَّة تبترون بها هذه العقدة التي
تَربط بها جيدها؟
نصف الجوقة
:
ماذا عسانا فاعلات يا صديقاتي؟ هل نلجُ الدار ونفكُّ هذا الحبل الخانق من
رقبة الملكة؟
النصف الآخر
:
عجبًا أليس هناك من الخدم من يقوم بعمل؟ لا أحسب أن في دوام الانشغال في هذه
الحياة أمنًا وسلامًا.
الخادمة
:
مدُّوا هذه الجثة البائسة وترفَّقوا بها. يا لها من خدمة مُفجِعة أؤدِّيها
لسادتي!
الجوقة
:
نما إليَّ أن السيدة التِّعِسة قد ماتَت، وأنهم الآن يَطرحونها جثة
هامدة.
ثيسيوز والجوقة
ثيسيوز
:
هل تَعرِفن أيتها النسوة لماذا يَرنُّ في بيتي هذا العويل؟ إن صيحات خدمي
تُسمَع عالية، ولا تتلطَّف داري فتفتح أبوابها مرحبةً بعَودتي ومحيِّيَةً ربها.
هل يُعاني بثيوز العجوز ألمًا من الآلام؟ إني ليحزنني أن أفقده من بيتي وإن يكن
قد تقدمت به السن وبلغ أرذل العمر.
الجوقة
:
ليست هذه الأحزان من أجل المسنِّين، ولكنك يا ثيسيوز سوف تبكي على موت
الشباب.
ثيسيوز
:
ويلي! هل اغتصب أحد حياة أطفالي؟
الجوقة
:
هم أحياء، إنما ماتَت أمهم، وسوف يُحزنك ذلك كثيرًا.
ثيسيوز
:
زوجي! هل تَقولنَّ زوجي؟ أية كارثة ألمَّت بها؟
الجوقة
:
عقدت حول جيدها حبلًا مميتًا؟
ثيسيوز
:
هل غلبها الحزن، أو أصابها رزء من الأرزاء؟
الجوقة
:
إني لا أعرف أكثر مما ذكرت، وقد أتيت إلى بيتِك منذ عهد قريب يا ثيسيوز كي
أنوح على همومك.
ثيسيوز
:
ما أشقاني! ولماذا بعد هذا أُتوِّج نفسي بهذه الغصون المشتبكة بعدما عدتُ من
المعبد في ساعة منكودة!٤ افتحوا الأبواب يا خدامي. أسرعوا، حتى أستطيع أن أرى زوجتي
المسكينة المفقودة التي جلبَت لي الشقاء بموتها.٥
الجوقة
:
ما أسوأ مصيرك أيتها الملكة! لقد أحاطت بك أسباب البؤس والشقاء، وعانيتِ
عناءً شديدًا. إنكِ عملت عملًا سوف يُنزل بهذا البيت الاضطراب؛ وذلك حين
اندفعتِ إلى الموت بعنفٍ طائشٍ، وقتلت نفسك بيدك قتلًا شنيعًا. ألا ما أقسى
المصير الذي أظلم حياتك البائسة؟
ثيسيوز
:
ما أقسى الآلام التي أُحسها من أجل فقدك يا زوجتي العزيزة. إن موتَك هو أسوأ
ما أعاني من آلام. أيها القدر، ما أثقل البؤس الذي تسحَقُني به كما تسحق بيتي!
هذه لوثة لا يتصوَّرها العقل أنزلتها بنا قوة ناقمة. إن كل ما بقي لي من الحياة
سيذوي من الأسى. إنَّ بحرًا من الويلات يغمرني، ولن أستطيع بعد هذا أن أنهض أو
أصدَّ تيار هذه النوائب. ما أحلَك الدنيا في عينيَّ! وبأي لفظ أخاطبك أيتها
البائسة وأُخاطب مصيركِ القاسي، وأنا ذلك الشقي! لقد أفلتِّ من يدي كما يفلت
الطائر ولم أَعُدْ أراكِ، ورفرَفْتِ بجناحَيكِ طائرةً نحو العالم السُّفلي
فجلبْتِ الشقاء لي. الويل! الويل! إنه ويل لا يُحتمَل! أي إثمٍ ارتكب أسلافي،
وأيَّة جريرة اقترف آبائي الأولون ضد الآلهة حتى تنهال عليَّ هذه
الكوارث؟
الجوقة
:
إنَّ هذه النوائب لم تحلَّ بك وحدك أيها الملك، إنما افتقَدَ معك زوجك
المحبوبة كثيرون.
ثيسيوز
:
إنَّ ما أصبو إليه الآن أن أتخذ لي في ظلال الموت مأوى في أسفل الأرضين
المظلمة؛ لأني لم أَعُد أستمتِع بعذب حديثها. إنك حطمتني أكثر مما حطَّمت نفسك.
أي باعث أيتها المرأة التَّعِسة دفعك إلى هذه الفِعلة الشَّنعاء. من أين لي أن
أعرف هذا الباعث المُميت؟ ليُحدثني بعضكنَّ ماذا حدث، أم هل هذا البيت المالك
يأوي تحت سقفِه هذا الرَّتل الطويل من الخدم بغير جدوى؟ آه، ما أشقاني. لقد
شقيت من أجلك. وإني ليُحزنني أن أرى هذه الأحزان في بيتي. إنها لا تُحتمَل ولا
يُمكن التعبير عنها! لقد فقدت كل شيء، وحلَّ بداري الدمار، وباتَ أطفالي
يتامى.
الجوقة
:
آه يا أعزَّ النساء، لقد خلَّفتنا من بعدك ثاكِلات. إنك أبرع النساء حُسنًا،
وخيرُ من أشرَقَت عليه الشمس الساطعة في مَسيرها، أو دار عليه القمر المضيء وهو
يسبح في فلَكِه ليلًا! أيتها الملكة المَنكودة الطالع، أي ويل أصاب دارك! لقد
ترقرق الدمع في عيني وفاضَ مِن أجل نكباتك. ولكني أشدُّ فرقًا من الويلات التي
لا بُدَّ أن تتلو.
ثيسيوز
:
صه، صه! ما هذه الرسالة التي تتدلى من يدِها؟ هلَّا أنبأتني بخبر؟ لقد
دبَّجَت هذه الرسالة وسط أحزانها، وقد تنطوي على مطلب عزيز بشأن فراشها أو بشأن
أطفالها. كوني على ثقة أن ثيسيوز لن يُشرك من بعده امرأة في فراشه أو بيته. وا
حرَّ قلباه! أجل لقد قُضيت، ولكن توقيعك الرسالة بخاتمك الذهبي يغريني، وإذن
فلأفض المختوم وأقرأ ما كلفتني به.
الجوقة
:
وا حسرتاه! وا حسرتاه! إن الله يصيبنا برزء بعد رزء. وقد أضحت الحياة شاقة
على نفسي بعد الذي حدث؛ لأني أحسب — وا أسفاه — أن بيت سادتي قد حلَّ به الدمار
وانتهى به العهد. أيتها القوة العابسة، أنقذي هذا البيت إن كان ذلك مستطاعًا.
لا تقوضيه، واستمعي إليَّ وأنا أضرع إليك، واستجيبي لدعائي. غير أن قلبي
المتشائم — كالكاهن — لا يتنبَّأ بغير النكبات.
ثيسيوز
:
ما أشقاني! إن الويل يعقب الويل بقدرٍ لا يُحتمَل ولا يمكن التعبير
عنه.
الجوقة
:
ماذا عسى هذا أن يكون؟ خبِّرني إن كان يجوز لي أن أعرف.
ثيسيوز
:
في هذه الرسالة صيحة، ويا لها من صيحة مفزعة. آه، إلى أين أفرُّ وأتحاشى هذا
العبء من الآلام الذي يهدُّ قواي! يا لها صيحة ترنُّ في هذه الرسالة! ما
أيئَسني! ما أتعسني!
الجوقة
:
يا ويلتاه! إنك تتفوه بألفاظ تشفُّ عن الألم.
ثيسيوز
:
إنَّ شفتي لن تَسكُت بعد هذا الشر الهدَّام الذي ليس له نظير. فاسمعي يا
بلادي واسمعي! لقد جرؤ هبوليتس على أن يَقربَ فراشي عنوة. ولم يَرْعَ عين جوف
المهابة. أبتاه! نبتيون! لقد وعدتَ من زمان بعيد أن تُجيب لي مطالب ثلاثة،
فليكن هذا أحدها: اقضِ على حياة ولدي، ولا تجعله ينجو بحياته من هذا اليوم، إن
كنت تحبُّ أن تفي بوعدِك.
الجوقة
:
والآن، بحقِّ الآلهة أيها الملك، ارجع فيما تقول، وصدِّقني إنك سوف تدرك خطأك
فيما بعد.
ثيسيوز
:
لن أرجع فيما اعتزمَت، وسأَنفيه بعيدًا عن هذا البلد. إنَّ أمامه مصيرين، ولا
بُدَّ أن يسحقه هذا أو ذاك، فإما أن يستمع نبتيون لدعواتي فيزجُّ به في دار
الفناء، وإما أن يُحرَم مسرَّات الحياة جميعًا أو يُطرَد من هذي البلاد
ويتشرَّد في بلد غريب.
الجوقة
:
انظر! ها هو ذا ولدك هبوليتس يُقبل في الوقت الملائم. أي ثيسيوز، أيها
الملاك، خفِّف من حدة هذه العاطفة التي تملَّكتْك، وتدبَّر خير طريق تسلك
لتُبقي بيتك على سعادته.
ثيسيوز وهبوليتس والجوقة
هبوليتس
:
سمعتُ الصيحة يا أبتِ، وها أنا ذا أقبل مسرعًا. ولكني لست أعرف لهذه الشكاة
المرتفعة باعثًا؟ وأريد أن أعلم منك هذا. عجبًا! أي منظر أرى! إني أرى زوجتك يا
أبتِ قتيلة. وإني لشديد العجب من هذا؛ لأني تركتُها منذ عهدٍ قريبٍ جِدًّا تنعم
بنور الحياة الجميل. ماذا دهاها؟ كيف ماتت؟ أحب أن أعرف هذا منك يا أبتاه. إني
أراك صامتًا، ولكن الصَّمت لا يُجدي في النوائب نفعًا، وإن رغبة المرء في أن
يُلمَّ بكل شيءٍ لتجعله مشغوفًا بأن يعلم حتى النوائب. ولا يجدر بك يا أبتِ أن
تُخفيَ كربة نفسك عن أصدقائك، بل ومَن هم أكثر من أصدقائك.
ثيسيوز
:
أيها الإنسان الضال، يا من تشغل نفسك عبثًا بكثيرٍ من الأمور. لماذا تتعلم
آلاف الفنون، وبفكر عميق تحتال وتُدبِّر وتَخترع. ولكن شيئًا واحدًا لا تعرفه
ولا تحب أن تعرفه؛ وذلك أن تعلِّمَ الحكمة من لا عقلَ له.
هبوليتس
:
إنه أستاذ سفسطائي ذلك الذي يستطيع أن يُعلِّم الحكمة قسرًا أولئك الذين ليس
لديهم رُوح ولا عقل يدرك — بَيْدَ أن هذه المباحث العجيبة يا أبتِ ليست في
إبَّانها، حتى إني لأخشى أن يزلَّ لسانُك على غيرِ هُدًى من أثر الحزن
العميق.
ثيسيوز
:
كان من الخير للناس لو كانت لديهم إمارات خاصة يميِّزون بها أصدقاءهم،
وتُبيِّن لهم في جلاء نفوس خلَّانهم؛ الصادق منهم والزَّائف، أو أن كل امرئٍ
كان له صوتان؛ أحدهما ينطق عن الحق ولا شأن له بالآخر، فإن انطوى الكلام على
السوء أو كانت هناك ظلامة دنيئة انبرى صوت الحق لبيان الزلل، فلا يَنخدِع
بعدئذٍ إنسان.
هبوليتس
:
هل غابني لديك صديق خائن؟ إني لا أحسُّ بجرمٍ ارتكبته. وإني لفي عجب شديد لأن
كلماتك التي تَحيد كثيرًا عن الحكمة المتَّزنة تذهلني.
ثيسيوز
:
إلى أيِّ حدٍّ يَبلغ جنون الإنسان! وأنَّى تَنتهي جرأة الإنسان الآثمة؟ لو أن
كل جيل جديد يَزداد شرًّا ويتضاعف ما فيه من لؤم دنيء حتى يفوق آخر الأجيال كل
ما سلف من جرائم، لكان جديرًا بالآلهة أن يَضمُّوا إلى هذا العالم عالَمًا آخر
يكون مأوًى صالحًا لسُكنى هذا الجنس البشري السافل الوضيع. وجِّهوا أبصاركم
إليه. إنه ولدي، ومع ذلك فقد اعتدى على فراشي، وهذه القتيلة المُلقاة تُثبت
عليه دناءته. وهل تستطيع بعد هذه الجريمة التي لا تُغتفَر أن تُقابل أباك وجهًا
لوجه؟ وكيف تتحدَّث إلى الآلهة كأنك إنسان ذو مزايا رفيعة؟ هل أنت طاهر الذيل؟
وهل لم تُلوِّثك الجريمة؟ إن هذا التظاهُر بالكبر لا يخدعني، وإلا فإني أتهم
الآلهة بالجهل والعمى. والآن اشمخ بأنفك، أو ازعُم لنفسك قدرًا لا تَستحقُّه،
أو تناول الخُضَر طعامًا كي لا تلوِّث يديك بدماء الحيوان، أو خُذ عن أورفيوس٦ حكمته، أو اتَّبع شعائر باكس، أو أَثِرْ حول نفسك دخانًا خادعًا من
العلم الغزير؛ لقد افتُضح أمرك.
إني أحذركم جميعًا أن تتحاشوا صحبة أمثال هؤلاء؛ فإنهم بزخرف اللفظ يوقعوننا
في الشراك، ويخفون نواياهم الدنيئة. لقد ماتت، وظننتَ أن في موتها سلامتك. ولكن
اعلم أيها الوغد الدنيء، أن جرائمك قد اتَّضحَت في جلاء بعد موتها. أي قسمٍ وأي
كلماتٍ لديك أقوى من هذه الرسالة تُثبت بها براءتك، ولكنك سوف تقول: «إنها
تَمقتني.» وتدَّعي كراهية زوج الأب للابن الذي وُلد في فراش غير فراشها. غير
أنك لا تُنكر أنها صفقة خاسرة لها إن كانت لبغضها إياك تبيع حياتها وكل ما هو
عزيز لديها. أجل، إن الرغبات الدنيئة لا تصم قلوب الرجال، وإن كانت تسيطر على
قلوب النساء وتتحكَّم فيها، ولكني — برغم ذلك — عرفتُ كثيرًا من الشبان الذين
زلُّوا كما تزل النساء حينما أشعلت فينس النار في دمائهم، غير أن لديهم دعوى
جريئة تنفعهم، وتلك أنهم رجال. ولكن لماذا أُسرف في اللفظ مع وغد كمثلك؟ اغرب
عني وارحَل من هذا البلد طريدًا، ولا تجرؤ بعد اليوم أن تطأ بقدمِك أرض أثينا
التي بناها الآلهة، ولا شواطئ البلدان التي تعترف بنفوذي الملكي. إني إن
حرَّكَت قلبي الشفقةُ عليك بعد الذي قدَّمتَ إليَّ من إساءة أنكر سِنِس
الإسميائي أني جندلته صريعًا، وذهب كل ما أفخر به هباءً منثورًا، وصمتَت صخور
سكيرون الوعرة التي يرتطم فوقها الموج عن التصريح بما أنزلتُ بالسفلة الأدنياء
من شديد النِّقَم.
الجوقة
:
إني لا أعرف من بني الإنسان فردًا أستطيع أن أسميه سعيدًا، فمن كان كذلك
بالأمس يقلب الدهر له اليوم ظهر المجن.
هبوليتس
:
إن هذا العنف فظيع وهذه الثورة النفسية مفزعة. بَيْدَ أن هذه التهمة التي
تقوم عليها الأدلة العديدة ظاهرًا لو فُض مكنونها لظهر بطلانها. إني لا أملك
القدرة على أن أُلقي على الجماهير خطابًا مزيَّنًا، ولكني أَفصح بيانًا حين
أتحدث إلى قرنائي أو إلى عدد من الناس قليل، وهذه ميزة عندي؛ وذلك لأن المرء إن
كان على باطل وكان عديم القيمة بين الحكماء، تدفَّق لسانه الثرثار الذي تعود أن
يفتن الجماهير. ولكني لا بُدَّ لي في هذا الشر المستطير أن أفضَّ شفتيَّ.
وبماذا أبدأ سوى بالتُّهمة التي طعنتني بها، وحسبتَ أني لا بُدَّ بعدها أن أهوي
بغير معذرة؟ أرأيتَ إلى هذا الضوء، وإلى هذه الأرض؟ ليس فيهما رجل أكثر مني
صفاءً مهما رفعت صوتك بالإنكار. احترام الآلهة أول معارفي، وأصدقائي أعاملهم
بالرأفة، ولا أَطوي بين جنبيَّ سوءًا، وتواضُعي يَمنعني من التفكير في الشر، أو
أن أعين أحدًا على عمل وضيع، ولا أسخر سخريةً لا مبرِّر لها من أولئك الذين
يُبادلونني الحديث. أصدقائي سواء لديَّ، من غاب منهم ومن حضر. وأنا بريء طاهر
من هذا الذنب الذي تحسب الآن أني اقترفته، ولا يخامرك في ذلك شك، فإني إلى هذا
اليوم غريب عن فراش الحب، ولا أعلم من طقوسه أكثر مما تَروي القصص أو يرسم
المصور للعيَان، وحتى هذه الصورة لا أحدِّق فيها بعين الغرام، لأن عقلي عفيف
عفة العذراء. ولكن ربما كان تواضُعي النَّقي الطاهر لا يُقنعك، وإذًا فيجدر بك
أن تبين لي ذلك الباعث القوي الذي أغواني. هل كانت في جمالها وفِتنتها تفوق
بنات جنسها؟ أم هل كان بوسعي أن أقطن في بيتك وأُشاطرك الفراش؟ إنما هذا باطل
لا معنى له. وإن سلطان الملوك يفتن حتى الحكماء، غير أنه لا يَسحرني لأنه يفسد
أولئك الذين به يُفتَتنون. كنت أحب أن أكون في الطليعة وأتفوَّق في كل عمل من
أعمال الرجولة يُمارسه أبناء اليونان، وأن أكون بين أصدقائي في هذه الولاية في
المرتَبة الثانية، وهم جميعًا رجال ذوو عقول راجحة نبيلة؛ وذلك كي أكون سعيدًا؛
لأن ذلك هو سبيل السعادة، وإذا عاش المرء في مأمن من المخاطر ظفَر بسعادة روحية
دونها سحر المُلْك وفتنتُه. ولديَّ دعوى أخرى لم أُفصح عنها بعدُ، وقد أسمعتُك
كل ما عداها. لو كان عندي من يشهد لي من أنا، وإن كانت زوجك تعود إلى نُور
الحياة وأنا أدافع عن نفسي هذا الدفاع العادل، تبين لعقلك المُرتاب من الذي
أساء. والآن أقسم لك بجوف الذي تشهد قدرته على صحة الأيمان، وأقسم لك بهذه
الأرض العتية: إني لم أمسَّ فراشك، ولم أشتَهِه، ولم تَدُر الفكرة بخلدي. ألا
فلأَهلك هلاكًا مذمومًا، ولأَفقِد حسن السيرة، ولتَفقِدني بلادي ويَفقِدني بيت
آبائي، ولأحيَ طريدًا شريدًا. ألا لا ضمَّني بحر ولا أرض بعدما يُفارق نفسُ
الحياة هذا الجسد إذا كنتُ ملوثًا بإثم. ولستُ أدري إن كانت قد قضت على نفسها
خوفًا وفرقًا. وحسبي ما ذكرت. أرادت زوجُك أن تكون عفيفة فلم تستطع، وكانت
العفَّة ديدني ولكنَّها لم تُجدِني فتيلًا.
الجوقة
:
حسبُكَ ما قلتَ لتبرأ من تُهمَتِك، وقد أيَّدت القول بقَسمٍ مقدس.
ثيسيوز
:
أفلا يؤمن بالطَّلاسم والرُّقى الكاذبة، ومِنْ ثَمَّ كان على ثقة من إقناعي
بعد الذي قدم إليَّ من إساءة بيمين ظاهره الصدق؟
هبوليتس
:
إني لأعجب منكَ في هذا يا أبت. لو كنتُ أباك وكنتَ ابني لقتلتُك، وما اكتفيتُ
بإقصائك في المنفى لو أنكَ جَرُؤت على أن تمسَّ زوجي.
ثيسيوز
:
عدلًا ما تقول، وقد أصدرت على نفسك حكم القانون، ولكنَّك لن تلقى حتفك هكذا؛
لأن المنية العاجلة برد وسلام على من يُعذبه الضمير. سوف تقضي حياتك التَّعِسة
شريدًا في بلد غريب طريد الأوطان، وهذا جزاء السافلين.
هبوليتس
:
ماذا أنتَ فاعل؟ ويلي! هلا تريَّثت حتى تُظهر الأيام إلى نور الحق ما يؤيد
دعواي؟ وهل تُريد أن تتهور وتَطرُدني من الوطن؟
ثيسيوز
:
إني لأمقتك أشد المقت، وإنَّ سلطاني ليمتدُّ إلى ما وراء البحار وما وراء
الأطلنطيق.
هبوليتس
:
هل ستَطرُدني بغير محاكمة غير مقتنع بقَسَمٍ أو إخلاصٍ أو دليلٍ من قول
كاهن؟
ثيسيوز
:
هذه الرسالة تُدينك حقًّا، وليست بحاجة إلى إثبات رسمي. إني لا ألتفت إلى
الطيور التي تشقُّ بجناحها السماء فوق رءوسنا.
هبوليتس
:
عجبًا! أيتها الآلهة! أليس لي أن أفتح شفتيَّ وقد حطمتِ حياتي برغم تقديسي
إياك؟ كلا، لن أنبس ببنت شفة، ولن أُحاول أن أُقنع أولئك الذين ينبغي لي أن
أُقنعهم أني لا أحنث في يَمينٍ مقدَّس.
ثيسيوز
:
لا أستطيع أن أحتمل هذا التظاهُر بالإيمان. اغرب عني، واغرب على عجلٍ من هذا
البلد.
هبوليتس
:
إلى أين؟ ويلاه! أيُّ بيت كريم يقبلني وأنا طريد بسبب هذا الاتهام؟
ثيسيوز
:
يقبلك من يسرُّه أن يأوي أولئك الذين يعتدون على فراش الزواج. إن اللئيم يأنس
إلى اللئيم.
هبوليتس
:
ويلتاه! إنه ليُفتِّت كبدي، ويستذرف دمعي، أن تحسبني لئيمًا.
ثيسيوز
:
كان ينبغي لك أن تتأوَّه وأن تتدبَّر هذا الأمر من قبل، حينما جرؤت على أن
تعتدي على زوجة أبيك.
هبوليتس
:
أيتها الدار، هلا انبعث منك صوت! هلا تنطقين، وتشهدين أني لم أقترف
إثمًا!
ثيسيوز
:
هل تستغيث بشاهد لا يَنطق؟ هذه الرسالة — وإن كانت لا تتكلم — تثبت ذنبك في
جلاء.
هبوليتس
:
وددتُ لو استطعت أن أخرج من إهابي وأشهَد نفسي، إذن لأبكتني هذه
النوائب!
ثيسيوز
:
لقد اعتدتَ أن تُقدِّر نفسك قدرًا كبيرًا أكثر مما اعتدت أن تقدس والدَيك وأن
تكون عادلًا.
هبوليتس
:
ما أشقاكِ يا أمي! لقد كان مولدي مدعاةً للرثاء! اللهم احفظ أصدقائي من زوجات
الآباء.
ثيسيوز
:
اعتِلُوه من هنا أيها الإماء. ألم تسمعوا ما أمرتُ به من زمان بعيد، وذلك ألا
يَجد له هُنا مرفأ؟!
هبوليتس
:
لن يَمسَّني أحدٌ إلا وتقطَّرت منه الدموع. فاطردْني بنفسك من هنا، إن كان
هذا ما تريد.
ثيسيوز
:
سأفعل، إن كنت لا تَصدَع بما أمرتك، فإنني لا تأخذني الرحمة إذ
أُقصيك.
هبوليتس والجوقة
هبوليتس
:
أراه لا يَنثني عن عزمه، وا شقوتاه! حقًّا إني لأعرف مصيري، ولكن لا سبيل لي
إلى الإفصاح. يا ابنة لاتونا الطاهرة، إنكِ أعزُّ الآلهة لديَّ، فرافقيني حيثما
حلَلت، ورافقيني في منفاي، فلا بُدَّ لنا أن نَهجُر بُروج أثينا الشامخة.
وداعًا أيها المكان الذي كان أركثيوز يحكمه في يوم من الأيام. وداعًا أيها
الوطن الحبيب. وداعًا تروزين، أيها البلد الذي يغصُّ بالمتع التي تستهوي شبابنا
الغض وتُحبِّبنا في الإقامة بين ظهرانيك. لن أراك بعد اليوم، ولن أُوجه إليك
بعد اليوم خطابًا. تعالوا أيها الشباب، يا رفاق لهوي إبان مقامي هنا، تعالوا
ودِّعوني الوداع الأخير وسدِّدوا خطاي فوق أراضيكم، فإنكم لن تروا من بعدي
رجلًا أطهر مني قلبًا، وإن كان أبي يرى غير ذلك.
الجوقة
الفرقة الأولى
:
إذا ركَّب «سوء الحظ» العاتي سنانًا لقناته كي يجرح بها قلبي، هرعت إلى قدرة
الله الواقية بفؤاد ضارع وفكر عميق، وتلاشت بعدئذٍ كل أحزاني. وبهذه العقيدة
المقدسة التي عليها نشأت يمدُّ الأمل إليَّ يده التي تبعث في النفس السكون.
ولكن إذا مَثُلَتْ مناظر الحياة الحقَّة قوية أمام عيني، خارت قواي وتلاشت
عزيمتي. إنَّ الحظ والقدر — كالريح المتقلِّبة — يلعبان بالمرء ويبعثان في نفسه
اليأس والضجر.
الفرقة الثانية
:
إني أضرَع إليكم أيها الآلهة فاستَجيبوا لي: أرجو أن أكون سعيدة رقيقة الحال
لا تعرف حياتي الغِنى والثراء. أرجو ألا أشكو ظلمًا، وألا تتقدَّم بي السن وسط
الأحزان، وألا تُصيبني تلك الآلام التي تُهلك الجسم في تُؤدَةٍ وتَوان. أرجو
ألا تُفتَتن أذناي بالمجد والجلال، وأن يكون اسمي بين الناس قليل الذكر، بعيدًا
عن الإثم وبعيدًا عن اللوم والعتاب. أرجو أن أبتعد عن نضالٍ لا يجدي، وألا توغر
صدري الإحن، وأن يمنَّ الله عليَّ بخلق طيب وحياة مطمئنة هادئة.
الفرقة الأولى
:
ولكن هذا الهدوء قد غادر هذا المكان، وفقدت الأمل وفقدت هدوء النفس؛ ذلك أن
نجم اليونان الساطع قد هوى من سماء أتكا كي يُشرق فوق بلاد نائية قاصية، فغاب
عن عيني. إنَّ غضب أبيه لشديد، إنك يا هبوليتس لن تُطارد الصيد بعد اليوم على
سواح لتروزين ذات الرمال وفوق المرتفَعات التي تُغطيها الغابات، ولن تُدخل
السرور على قلبك وقت الصيد دِكْتنا الفتاة الصائدة حينما تَنطلِق كلابك سريعة
العدو وتشق بطن الوادي.
الفرقة الثانية
:
ولن تُدرِّب بعد اليوم جيادك الهنشية وأنت في خُيَلاء الشباب، وتتحكم فيها،
وتملك زمامها الشديد، وتُعلِّمها أن تسير برأس مرفوع حول الحلبة وهي تجرُّ
العربات السريعة. ولن تُسيِّرها عند حافة البحيرة الخضراء، وتقودها بخطوٍ
متَّزن. ولن تترنم بعد اليوم ميوز في بيت أبيك بصوت عذب الرنين. ولن تَنتثِر
أكاليل الزهر عند مقر ديانا الظليل كي تُزيِّن طريق عودتها السندسي الأخضر.
(نشيد):
وعند رحيلِكَ اليائس ستتنهَّد الحور، ويزول كل ما بينهن من نضال التنافس؛ فقد
فقدتك الأعين التي تشتهيك. وسأَذرف عليك الدمع مدرارًا، وتمس الشفقة بيدها
الرقيقة قلبي على مصيرك. أيتها الأم الشقية! إن كل ما عانيتِ من ألم وأنت
تُخرِجين ابنَكِ هذا إلى نور الحياة قد ذهب هباءً منثورًا. إني على الآلهة
ساخِطة. يا ربَّات الجمال، يا ذوات الصوت العذب، لماذا أقصيته من هذا الوطن
الحبيب؟ إن ضعة النفس لم تَجِد إلى قلبه سبيلًا، وعرفته الفضيلة ابنًا من
أبنائها. لماذا أقصيته قسرًا من أرض الوطن؟
انظروا! إنَّ خادم هبوليتس يُقبل بخُطًى سريعة، والحزن مرتسمٌ على
جبينه.
الرسول والجوقة
الرسول
:
أين أجد الملك ثيسيوز؟ خبِّروني أيتها النسوة، هل رأيتنه داخلًا من
هنا؟
الجوقة
:
انظر، ها هو ذا خارج من الدار كما تريد.
ثيسيوز والرسول والجوقة
الرسول
:
ثيسيوز! إني آتيك بنبأٍ يُدخل الحزن الشديد على قلبك وعلى قلوب رعيتك، سواء
منهم من كان من أثينا أو من ولاية تروزين.
ثيسيوز
:
وماذا عسى هذا أن يكون؟ هل وقع شرٌّ مفاجئٌ يُزعج هذه المدن
المجاوِرة؟
الرسول
:
أُوجز القول فأقول: إن هبوليتس قد مات أو هو يَشهق آخر نفس قصير مِن نسيم
الحياة.
ثيسيوز
:
متى كان هذا؟ وهل هو انتقام من زوجٍ أساء إليه في زوجتِه كما أساء إلى أبيه
فاعتدى عليه عنوة؟
الرسول
:
أهلكَتْه عربته، كما أهلكته دعواتك ولعناتُك التي استنزلتها على ولدك من أبيك
ملك البحار.
ثيسيوز
:
أيتها الآلهة! أي نبتيون، لقد برهنت حقًّا أنك أبي، وقد استجبتَ لدعائي
بالحق، ولكن قل لي كيف هلك؟ كيف سحقَه صولجان العدالة لما قدَّم إليَّ من
سوء؟
الرسول
:
وقَفنا على حافة الساحل الذي يرتطم عنده الموج، وأمسكنا خيله وسرَّحنا شعر
عرفها المرسَل ونحن نبكي؛ لأن رسولًا أتى إلينا بنبأ يقول إن هبوليتس لن يطأ
بقدمه هذه الأرض بعد اليوم، وسيَخرُج من هنا طريدًا شريدًا بحكم منك شديد.
ثُمَّ أتانا بنفسِه عند الشط وأنبأنا بهذا الحكم المُحزِن ذاته، ولم يكن بغير
حاشية، فإن رتلًا كبيرًا من الشباب —
زملائه المحبين — كان يَتبعه. وبعد
برهة تغلب على حزنه ونطق، ولكن ماذا يجدي العويل؟ قال: «لا بُدَّ من طاعة ما
أمر به أبي. خدمي، هيا اربطوا الجياد إلى العربة على عجل؛ فهذه المدينة حرامٌ
عليَّ بعد اليوم.» وأسرع كل مِنَّا إلى عمله، وسُقنا الجياد مطهَّمة إلى مولانا
في لحظة واحدة. وجذَب العنان من العجلة ووثب إلى مقعده. ثُمَّ رفع كفيه إلى
الآلهة وقال: «اللهم يا جوف، إن كانت وضاعة النفس قد لوَّثت قلبي، فلا تنفَّستُ
بعد اليوم نسيم الحياة، وليعلم أبي كما أساء إليَّ، سواء متُّ أو شهدَت عيناي
نور السماء.» ثُمَّ ألهب جياده بالسوط، وسِرنا في إثر مولانا قريبًا من عنان
الخيل وأخذنا سَمتنا على الطريق المؤدية إلى آرجس وإلى أبدُورْس ولما بلغنا
الأرض الصحراوية حيث ترتفع سواحل بلادنا إزاء خليج سارونيا، سمعنا فوق الأرض
دويًّا عظيمًا، مرتفعًا كصوت جوف، مسمعُه يَبعث الفزع. ومالت الجياد برءوسها
إلى أعلى، ورفعت آذانها نحو السماء، فارتعَدت صفوفنا كالأطفال، وتعجَّبنا من
أين مبعث الصوت، وصوَّبْنا أبصارنا نحو الشاطئ الذي يَرتَطِم فوقه الموج،
ورأينا موجة هائلة تعلو حتى تكاد أن تبلغ السماء، حتى إنَّ صخور سَيْزُن
المرتفعة اختفت عن أنظارنا، واختفى البرزخ، واختفت صخور أيسكيولابيوس. وعلا
الموج ثُمَّ علا واستدار وارتطم زبده الصاخب، واندفع التيار المُرتفع حتى بلغ
الساحل قريبًا من العربة التي يشدُّها الخيل. ومن هذا الفيض المتدفِّق المتدافع
انطلق إلى الأمام ثور، وهو حيوان وحشي ضخم. ورنَّ خُواره المريع فوق الأرض التي
أصابها الفزع. ولم تحتمل الأعين هذا المنظر البغيض. واستولى الفزع المرعب على
الجياد المروَّعة. وصاحبُ الجياد مدرَّب على ركوب الخيل، فأمسك في قبضته القوية
بالزمام. وكالرجل الذي ينحني إلى الوراء وبيده المجداف، أنحني إلى الوراء وجذب
الزمام المستقيم. ولكن الخيل أخذت تقرض جديد اللجام، وانطلقَت مُندفعة ثائرة.
لا تأبه بِيَدٍ تقود، أو زمام مشدود، أو عربة كاملة الإعداد. فإذا ساق هبوليتس
عجلته إلى السهل المنبسط ظهَر أمامه الثور وردَّه إلى الوراء راغمًا وروَّع
الجياد المجنونة. وإذا انطلقت فوق الصخور الوعرة وهي تعدو في وحشةٍ وجنون، رافق
العربة عن كثب وفي صمت، حتى ارتطم على صخرة مرتفعة. وطارت العجلة بعد الصدام
إلى أعلى وطرحته من مقعدة رأسًا على عقب. وبعدئذٍ ساد الاضطراب. وشقَّت العجلة
المحطمة أجواز الفضاء، وتخلخل محور العجلة. من مكانه. والشاب المنكود مكبل بين
الأزمَّة المعقدة بصورة تَدِقُّ على الأفهام. ثُمَّ ارتطم رأسه العزيز فوق
الصخر، وتمزَّق لحمه، وسمعناه يُخاطب الجياد بصوت يدعو إلى الرثاء ويقول: «قفي
يا جيادي، واذكُري أني بيديَّ هاتين أطعمتك في الإصطبل، فلا تحطميني. ما أروعَ
دعوات أبي! أليس هنا أحد قريب مني، أليس هنا أحد يُنقِذ رجلًا بريئًا لم
تُلوِّثه الآثام؟» وكم مِنَّا من رغب في إنقاذه، ولكنَّا كُنَّا متخلِّفين،
سيرنا بطيء مهما أسرعنا. وأفلت من يده الزمام الممزق ولا أدري كيف هوى، ولكنه
كان يَلفظ بعض أنفاس الحياة. واختفى الثور المنحوس. ولا أدري أين توارى بين
الصخور القائمة في ذلك المكان. ولستُ في بيتك أيها الملك سوى عبد مسكين. ولكني
لا أعتقد في أعماق نفسي أن ابنك كان دنيئًا، ولن يُقنعني بذلك أحد حتى إن خنقت
أنفسها نساء الدنيا جميعًا، وإن امتلأت أشجار أيْدا كلها بالأدلة المكتوبة؛
لأني أعلم أنه طاهر بريء.
الجوقة
:
وا حسرتاه، وا حسرتاه! لقد بلغَت هذه الكوارث الجديدة الذروة، ولا مفرَّ من
القضاء، ولا بُدَّ مما ليس منه بد.
ثيسيوز
:
لقد كنتُ أمقت أشد المقت هذا التَّعِس الذي عانى هذا العناء. وإن كلماتك
لتثلج صدري، ولكني الآن أُقدر الآلهة قدرها، وأقدره لأن كان ولدي. ومِنْ ثَمَّ
فإن هذه البلايا لا تبعث فيَّ سرورًا ولا حزنًا.
الرسول
:
إنَّا لا نحب أن نؤذيك، فخبِّرنا إلى أين نحمل هذا الشاب الشقي وأي واجب نؤدي
له، وكم أحب أن تكون على ابنك عطوفًا وهو يكابد هذه الآلام.
ثيسيوز
:
ائتوني به، فإني أريد أن أراه. والآن بعدما أنكر اعتداءه الدنيء على فراشي
فسوف أُثبت عليه بالبرهان تهمة الاعتداء الدنيء، بعدما اقتنعت بهذا الانتقام من
الآلهة.
الجوقة
:
عليكِ يا فينس أن تكبحي جماح النفس العنيدة الأبية. وإن الآلهة والناس
ليَعترفون بسلطانك. وابنك يُحلق فوق الأرض وفوق البحر الصاخب وهو يعرض ريشه ذا
الألوان في زهو وخيلاء، ويَطير بخفة ويرفرف بأجنحته الخفيفة مداعبًا. وحيثما
سار «إله الشهوة» المتألق نشر سلطانه الظافر. نشره فوق الجبل الوعر حتى يعترف
الوحش بقوة الحب. ونشر سلطانه على كل مَن يرتاد الأدغال، أو يَثِب في الماء. كل
من أشرقت عليه أشعة الشمس اللامعة، وكل امرئٍ يحس بنفوذك يا فينس، فأنت إلهة
مهابة، والكل يؤدي واجب الطاعة لسلطانك.
ديانا وثيسيوز والجوقة
ديانا
:
يا ابنَ إيجيوز النبيل، إني آمرك أن تصغى لي ابنة لآتونا العذراء، ديانا،
تتحدث إليك. ثيسيوز، أيها الشقي، لماذا تبتهج لهذه الحوادث؟ إنك لم تكن عادلًا
حينما قتلتَ ولدك، إنما خدعك نفاق زوجتك. التُّهمة غامضة، ولكن خسارتك الفادحة
واضحة. إن الخزي يبعث في نفسك الضيق، فهل تُخفي وجهك في أعماق الظلام السفلي،
أم هل تتخذ لنفسك جناحَين وتركب متن الهواء فرارًا من هذا الدمار المشئوم؟ إنك
لا تستطيع بعد اليوم أن تتبادل الحديث مع الرجال الطيِّبين. استمع إليَّ يا
ثيسيوز أقصُّ عليك من أي لون نوائبك. إن كلماتي لن تُجديَك نفعًا، ولكنها سوف
تبعث في نفسك الأحزان. إنما أتيتُ كي أخبرك أن ولدك قلبه طاهر، وأنه هلك
لإحساسه بالكرامة، وأن زوجَك قد ثارت نفسها إلى حدِّ الجنون، وإن يكن في قلبها
شيء من كرم الطباع. أشعلَت قلبها فينس، وهي أبغض الآلهة عندي وعند المتواضِعين
الطاهرين، فأحبَّت ولدك. وحاولت أن تتغلب على حبها بالعقل، ولما فشا سرها على
رغم منها اختارت أن تموت؛ وذلك لأن مربِّيَتها الماكرة فضحت عاطفتها لابنك
الشاب بعدما قيدته بقسم. ولكنه ثبَت على الفضيلة فلم يُعِرها أذنًا مُصغية، وقد
أساءت إليه كثيرًا، ولكنه لم يحنث في يمينه احترامًا للآلهة. وخشيَت أن يفتضح
عارها، ولكي تستره كتبَت هذه الرسالة الزائفة التي ظفرت منك بالتصديق السريع.
وبهذه الحيلة المزيفة قضت على ولدك.
ثيسيوز
:
ما أشقاني!
ديانا
:
هل يُكدرك هذا إذًا يا ثيسيوز؟ ليس هذا كل ما في الأمر. أنصِت واستمع لي.
تعلم حق العلم أن أباك قد أجازك ثلاثة مطالب. وقد نفَذ واحدٌ منها حينما
استنزلت النِّقمة على رأس ولدك. إنك أكثر الرجال شرًّا. وما كان أجدرك أن تُبقي
على هذا الجزاء لواحدٍ من أعدائك. أجاب مطلبك ملك البحر لأنه مرتبط بوعد، وإن
يكن لم يُرِد لك غير الخير. غير أنه يحسبك الآن — كما أحسبك — بعيدًا عن الخير؛
لأنك لم تَستمِع إلى عقيدة أو صوت كاهن أو دليل، ولم تتريث قليلًا لتفكر، وإنما
دعوت بالنقمة على ولدك بعجلة لا تليق، فقضيت على حياته.
ثيسيوز
:
آه لو هلكت معه أيتها الملكة العذراء!
ديانا
:
لقد أتيتَ شيئًّا إدًّا. ولكنك قد تظفر بالعفو عما قدَّمت؛ ذلك لأنها كانت
إرادة فينس حينما اشتعل قلبها غضبًا. وهذا القانون سائد بين الآلهة: لا يحب
أحدُها أن يعترض مقصدًا عزيزًا على الآخر، وإنما يَرضخ كل مِنَّا لإرادة صاحبه.
وإن لم يكن هذا فكن على يقين أني لولا خشية جوف ما تحمَّلتُ هذا العار الشنيع،
وما رضيتُ أن يموت أحب الأحياء إلى نفسي من بين الجنس البشري بأجمعه. ولكن
جهلُك شنيع لخطئك، وذنبك خلا من الحقد والضغينة. كما أنَّ زوجك بموتها قد قضت
على كل دليل لفظي يُقدم ضدها؛ وذلك كي تظفر منك بالتصديق. هذه المصائب تنفجر
أوَّلًا فوق راسك، ولكنها تجلب لي الحزن كذلك؛ لأن الآلهة لا تُسرُّ حين يسقط
الصالحون، ولكنَّا نُودي بالمذنبين إلى الدمار ومعهم أبناؤهم وديارهم.
الجوقة
:
انظروا! ها هو الشاب الشقيُّ يُقبل، ولحمه وشعره الذهبي كله ممزَّق. ما هذا
الحزن الذي ضرَب بجرانه فوق هذا المكان؟ إن غمًّا مُضاعَفًا أرسلته الآلهة قد
استولى على هذا البيت المحزون.
ديانا وثيسيوز وهبوليتس والجوقة
هبوليتس
:
يا لي من بائس! إني ممزَّق جريح من أثر ذلك الدعاء بالسوء الذي دعا عليَّ أبي
المؤذي به. ما أشقاني! إني أموت. إن ألمًا مُضنيًا يدق رأسي دقًّا عنيفًا. ومخي
قد تهشَّم — مهلًا! مهلًا! — إني أريد أن أُريح أعضائي المنهوكة قليلًا — إن
تلك العربة الممقوتة، وتلك الجياد التي أطعمتُها بيدي قد قضَت عليَّ وقتَلتْني،
آه، بحق الآلهة أضرع إليكم أن تمسُّوا جسمي الممزَّق برفق، تلك اليد الخشنة لمن
تكون؟ إنها تؤذي جنبي. احملوني برِفق، وسيروا إلى الأمام ببائس منحوس نزلت به
اللعنة لخطأ من أبيه، سيروا بي إلى الأمام سيرًا هادئًا وئيدًا. رباه يا جوف،
هل أنت تشهد هذه الأمور؟ إنَّ احتشامي واحترامي الآلهة لم يُجدني فتيلًا. كنت
أعفَّ البشر وها أنا ذا أفقد حياتي، وأهوى — على مرأًى منك — إلى عالم الموت
المظلم. إن أعمال البر التي أحسنت بها على الناس لم تنفعني. الألم الشديد
يُضنيني، اتركوني، ولا تمسُّوني، ودعوا الموت يأتي كي يخفِّف عني ويلاتي. إنكم
تُعذبونني. آه لو كان لديَّ سيف ذو حد باتر أقضي به على حياتي، وأستلقي
مستريحًا! وا أسفاه! إن لعنة أبي المروعة، وكل ما اقترف أسلافي المُلوَّثون
بالدماء من إثم في غابر الزمان يحلُّ الآن بي، وكل ما يَستحقُّون من عقوبة ينزل
على رأسي. ولكن لماذا تحلُّ بي، وأنا لم يكن لي يد في تلك الآثام؟ ويلي، ماذا
عساي قائل؟ كيف أُنقذ حياتي من هذه الآلام الشديدة التي لا دواء لها؟ آه لو أن
الموت الأسود الذي لا مفر منه. ولو أن الليل البهيم حلَّ ببائس معذَّب مثلي
فأراحه!
ديانا
:
أيها الشاب الشقي، أيَّة كارثة حلَّت بك! إن قلبك الكريم قد عاد عليك
بالدمار.
هبوليتس
:
إنَّ رائحة سماوية تشيع من حولي. إني أُدركك بكل حواسي رغم ما يَحيقُ بي من
كروب. إنَّ محضرك يخفف عني بعض الألم. هل ديانا بالدار؟
ديانا
:
قريبًا منك تقف ربَّتُك المكرمة أيها الشاب المسكين.
هبوليتس
:
هل ترين أيتها الملكة ما أعاني من شقاء؟
ديانا
:
إني أرى. ولكن لا ينبغي أن تَنحدِر دمعة واحدة من عيني.
هبوليتس
:
إن صائدك ورفيقك لم يعد على قيد الحياة.
ديانا
:
أجل، إنه يفارق الحياة بيدِ القدر القاسية.
هبوليتس
:
إنَّ تماثيلك وجيادك لم تَعُد بعدُ موضع عنايتي.
ديانا
:
لقد دبَّرَت هذا فينس التي تحبُّ فعل الشر.
هبوليتس
:
ويلتاه! إني أُحسُّ بسلطانها، لقد حطَّمَتني.
ديانا
:
إنها تَحسب أنك بعفَّتك قد أهدَرتَ كرامتها.
هبوليتس
:
هذه الإلهة القاسية قد حطَّمَت ثلاثتنا.
ديانا
:
أنت وأباك وزوجته المنحوسة.
هبوليتس
:
إني أرثي لبؤس أبي.
ديانا
:
لقد خدَعَته الإلهة المحتالة.
هبوليتس
:
وا أسفاه يا أبت، ما أشد ويلاتك!
ثيسيوز
:
إنها تهدُّني. الحياة يا بني شاقة على نفسي.
هبوليتس
:
إني أرثي لخطئك أكثر مما أرثي لنفسي.
ثيسيوز
:
وددتُ لو متُّ عِوَضًا عنك يا بني.
هبوليتس
:
إن ما وهبتك أمك فيتيون من عطايا مُهلِك مميت.
ثيسيوز
:
وددت لو أن هذه الرغبة لم تخرج من بين شفتيَّ.
هبوليتس
:
وإذا لم يكن كذلك، فقد كان غضبُك شديدًا يُحفِّزك على قتلي.
ثيسيوز
:
لأن الآلهة قد حرَمَتني قوة الإدراك.
هبوليتس
:
آه ما أشد نقمة الآلهة على الأحياء!
ديانا
:
حسبك هذا. إن هذه الثورة القاسية العنيفة من فينس التي سحقَتْكَ لعفَّتك
وعزمك الصادق لن تهوي في وهدة النسيان المظلمة بغير انتقام. كلا، إنَّ هذا لن
يكون؛ فسوف تحلُّ نقمتي بضربة لازبة على واحدٍ من أتباعها له في قلبها أعز
مكانة بين البشر. وسوف يَنالك مني أيها البائس العاني
شرف رفيع في تروزين من أجل هذه
الآلام. من أجلك سيقصُّ العذارى — أجيالًا طويلةً — خصلات من شعر رءوسهن
يهدونكها قبل ساعة القران، ويَذرفن الدموع باكيات على مصيرك. ومن أجلك سوف
تتغنَّى رفيقاتهن المُتواضِعات بالنشيد الحزين. ولن يُنسى حُبُّ فيدرا أو يضيع
بغير ذكر. وأنت يا ابن إيجيوز العجوز، خذ ولدك بين ذراعَيك وعانِقه؛ فقد قتلتَه
بخطئك لا بإرادتك. والإنسان الفاني لا بُدَّ أن يُخذَلَ إن كانت هذه مشيئة
الآلهة، وأنت يا هبوليتس كُفَّ عن بُغض أبيك؛ لأن موتك على هذه الصورة من قضاء
الله. والآن أُودِّعك، لأني لا يجوز لي أن أرى الموتى أو من هم على أبواب
الموت، فذلك يُدنِّس عيني. وأنت قريب من الضربة القاضية.
هبوليتس
:
ووداعًا يا ديانا. اذهبي أيتها العذراء، بورك فيك. ولا تَحزني لأن حديثنا
الطويل قد بلغ في هذا المكان نهايته. وغضبي من أبي قد تلاشى نزولًا عند إرادتك؛
فقد كنتُ أبدًا أصدع بما تأمُرين. إن الظلام يقبل على عينيَّ. خذني يا أبتاه،
خذني وضم أطرافي.
ثيسيوز
:
وا حسرتاه يا بنيَّ. إنك تجعلني من البائسين!
هبوليتس
:
إني أموت، وتتفتَّح لي أبواب بلوتو (عالم الفناء).
ثيسيوز
:
وتخلِّفني بذنبٍ لا يُغتفَر؟
هبوليتس
:
كلا، فإني أُبرِّئك من موتي.
ثيسيوز
:
ماذا تقول؟ هل تُعفيني من تهمة إراقة الدماء؟
هبوليتس
:
اشهدي على ما أقول يا ربة القوس الذي لا يُخطئ.
ثيسيوز
:
بنيَّ العزيز، ما أكرمك مع أبيك!
هبوليتس
:
وأنت يا أبتِ كذلك وداعًا، وكُن سعيدًا!
ثيسيوز
:
ما أطيب قلبَكَ يا بني، وما أتقاه!
هبوليتس
:
ارجُ الله أن يهبَكَ أبناءً مثلي كرام المولد.
ثيسيوز
:
لا تَهجُرني يا بنيَّ، واحتفظ بقواك.
هبوليتس
:
لا أستطيع بعد هذا أن أحتفظ بقواي. إني أموت. أَسدِل على وجهي قناعًا، احجبه
بقميصي (يموت).
ثيسيوز
:
يا ولايات بالاس، ويا بروج أثينا الشاهقة، ما أشدَّ خسارتك بحرمانك من مثل
هذا الرجل! وا شقوتاه! إن عقلي يا فينس سوف يذكر هذه الآلام في كثيرٍ من
الأحيان!
الجوقة
:
لقد حلَّ هذا الحزن العام بأهل المدينة جميعًا على غير انتظار. وسيُذرَف في
سبيله الدمع الغزير؛ لأن نهاية العظماء التي تستحق الأحزان تُصيب القلب في
الصميم.