النقد الاجتماعي
لعل أبرز النقاط التي تلاقى فيها فكر ماركيوز مع الفلسفة الماركسية هي موقف هذه الفلسفة من مشكلة ماهية الإنسان — التي تمثل عند ماركيوز مشكلة أساسية كفيلة بتحديد الاتجاه العام لكل فلسفة، وبالكشف عن مدى تقدميتها أو رجعيتها — فالماركسية هي في رأيه فلسفة تقدمية لأنها لا تثبِّت الماهية الإنسانية عند أية لحظة معينة من لحظات تطورها، بل إن الإنسان يمكنه في كل لحظة أن يصبح على خلاف ما هو عليه، ومن ثم فإن الإنسان لا يُفهم إلا في حركته الدينامية ولا يمكن أن يُستوعب من خلال ما يكون عليه في أية لحظة بعينها، وبعبارة أخرى فليس هناك حدٌّ فاصل بين تاريخية الإنسان وبين تحقيق ماهيته، فحياة الإنسان في كل عصر معين تستهدف تحقيق شكل جديد، ومن ثَم فهي لا تتحقق كاملة في أي شكل محدد من الأشكال التي تتخذها عبر التاريخ، أو لِنقُل بلغة فلسفية إن الواقع والممكن متداخلان، ومن المحال أن يُفهم أحدهما من دون الآخر.
في الماركسية إذن نجد القطب المضاد لعالم الماهيات الأزلية الساكنة الذي يتم فيه تحديد حقيقة الإنسان — فضلًا عن حقيقة الأشياء — مرة واحدة وإلى الأبد. فهي فلسفة تؤكد لنا أن البناءات التي يمكن أن تفهم من خلالها حقائق المجتمع لا تفهم في أية لحظة إلا فهمًا جزئيًّا، ومن ثم فإن تجاوز الواقع الراهن لهذا أمر لا بد منه من أجل فهم حقيقته المتطورة. هذه الحقيقة المتطورة هي التي تدفع المجتمعات البشرية في حركة لا تتوقف، تستهدف على الدوام إزالة المتناقضات التي تقتضيها كل مرحلة من مراحل الإنتاج، وترمي آخر الأمر إلى فهم الإنسان من خلال ما يستطيع أن ينجزه، لا من خلال ما أنجزه بالفعل.
«هذا الفهم للماركسية — الذي كان في أساسه فهمًا هيجليًّا — كان يعني أن النظرية الماركسية ذاتها لا يمكن أن تكون تعبيرًا عن حقائق أزلية، وإنما هي تصدُق أساسًا على مرحلة معينة من مراحل التطور، هي مرحلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر.»
فالماركسي المخلص — في نظر ماركيوز — لا بدَّ أن يطبِّق معيار التطور والتاريخية والتجدد الدائم على النظرية الماركسية ذاتها، وفي هذه الحالة يتعيَّن عليه أن يمتنع عن تثبيت هذه النظرية في «عقيدة» جامدة يُفترض أنها تسري على الصور اللاحقة جميعًا، بل يجب أن يتأمل النظرية ذاتها في ضوء التداخل الذي تقول به بين الواقع والممكن. وفي هذه الحالة — أي حين نطبِّق على الماركسية معيارها الخاص — يصبح من الضروري أن نعيد تفسيرها في ضوء الظروف الدائمة التغير، وأن تخضع ماركسية القرن التاسع عشر لنقد مستمد من ظروف القرن العشرين.
«لقد كانت الماركسية التقليدية تفترض تناقضًا أساسيًّا هائلًا يقوم في قلب المجتمع الرأسمالي، ويُهيئ الظروف الموضوعية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هو التناقض بين طبقة من أصحاب الأعمال تتزايد قوتها، وتعمل دائمًا على زيادة الإنتاج من أجل تكديس أرباحها، وتتركز فيها بالتدريج السلطة الاقتصادية التي تندمج مع السلطة السياسية، وتتحول آخر الأمر إلى رأسمالية الدولة؛ وطبقة عمالية تزداد فقرًا نتيجة لحرص الرأسمالية على ضمان أرباحها، ولكنها تزداد في الوقت ذاته وعيًا بوضعها الطبقي، وبأنها هي القادرة على تحقيق الثورة وعلى تجسيد آمال البشرية في مستقبل أفضل، ومن ثم فإنها تعمل تنظيم نفسها بطريقة واعية محكمة تكفل لها تحقيق هدفها في الثورة العالمية.»
«على أن المسار الفعلي للأحداث، منذ بداية القرن العشرين، قد سار في اتجاه مختلف عن ذلك كل الاختلاف»؛ فالبلاد الرأسمالية الكبرى لم تزد فيها حدة التناقض بين الطبقتين الرئيسيتين، ومن ثم فقد أخذت تتباعد عن تحقيق الظروف المؤدية إلى قيام الثورة، والبلاد التي قامت فيها تجارب اشتراكية مرتكزة — من حيث المبدأ — على النظرية الماركسية، قد ابتعدت في سلوكها الفعلي ابتعادًا شبه تام عن أصول هذه النظرية ومبادئها، ولم تحاول تطويرها على النحو الكفيل بمواجهة واقع دائم التغير.
وهكذا فإن الواقع قد تجاوز النظرية الماركسية التقليدية، سواء في المجتمعات التي أنكرتها أو في تلك التي اعترفت بها. ومن هنا كان من الضروري في رأي ماركيوز القيام بمراجعة لهذه النظرية في ضوء الظروف الراهنة. ولقد قام هو ذاته بهذه المراجعة، ولكن حصيلتها النهائية لم تكن في واقع الأمر تعديلًا للنظرية، بل تغييرًا شاملًا لها، واستعاضة عنها بنظرية خاصة به، يعتقد أنها أكثر ملاءمة لواقع العالم المعاصر، وهي نظرية لم يحتفظ فيها من الماركسية إلا بالمبدأ العام الذي أشرنا إليه من قبل؛ وأعني به أن ماهية المجتمع الإنساني لا تنفصل عن تاريخه، وأن الواقع — في أية مرحلة من مراحل التطور — لا يُفهم إلا في ضوء إمكاناته الكامنة التي لم تتكشف بعد، والتي يتعيَّن على كل من يتصدى لدراسة المشكلات الاجتماعية أن يضعها في اعتباره عند أي تحليل يقوم به للوضع الراهن.
(أ) نقد المجتمع الرأسمالي
الجديد، إذن، في نوع القهر الذي يمارَس على الإنسان في مجتمعنا أنه أولًا قهر عقلي منطقي، يندمج تمامًا مع المقومات الأساسية للتنظيم الاجتماعي، وليس عقبة في وجه هذا التنظيم أو حالة انحراف انفعالي عابرة، وأنه ثانيًا قهر يُمارَس على الإنسان كله، على حياته الباطنة وعلى تفكيره وعقله وعواطفه بقدر ما يُمارَس على مظاهر حياته الخارجية وظروف عمله وإنتاجه وعلاقاته الاجتماعية، وتلك هي قصة القضاء على إنسانية الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث. فلنتابع من خلال كتابات ماركيوز، وخاصة كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد»، بعض تفاصيل هذه القصة.
إن المجتمع الصناعي الحديث، الذي يقتضي تنظيمًا إداريًّا بالغ الدقة والإحكام، يسيطر على الإنسان بنفس أساليب الإدارة المحكمة التي يسيطر بها على عملية الإنتاج، وتترتَّب على هذه السيطرة أنواع من الاغتراب العقلي والثقافي، تشكل دعامة أساسية للسيطرة الاقتصادية في نفس الوقت الذي تعد فيه نتيجة لها.
فالإنسان الحديث يُستعبد باسم العقل — نفس العقل الذي يقوم بتنظيم الإنتاج وتوزيعه في العالم الرأسمالي. ولما كان هذا الاستعباد قائمًا على العقل، ومرتبطًا بالازدهار الاقتصادي الذي تتمتع به المجتمعات الصناعية المتقدمة، فقد غدا — لأول مرة في تاريخ البشرية — استعبادًا مقبولًا، بل استعبادًا يحرص عليه، ويدافع عنه، ضحاياه أنفسهم؛ ذلك لأن هؤلاء الضحايا هم الذين يستهلكون منتجات المجتمع الصناعي ومن ثم فإنهم هم الذين يحافظون عليه، ويعملون على ضمان استمراره.
والواقع أن الإدارة، التي تتحكم في العمليات الاقتصادية، أصبحت في عصرنا الحاضر أكمل وسائل السيطرة على البشر والتحكم فيهم، بحيث غدت أفضل المجتمعات إدارة هي أكثرها عبودية. ولقد أصبح من الضروري في عصرنا هذا أن ترتبط عملية الترشيد المتزايد للإنتاج باستعباد متزايد للإنسان، ويزداد هذا الاستعباد فظاعة حين لا يتخذ صورة إدارة منظمة فحسب؛ ذلك لأنه يطالب لنفسه عندئذٍ، باسم السعي إلى مزيد من التنظيم، وباسم العقل والترشيد، بسلطة أعظم وبمجال أوسع للقهر والتسلط.
ولنضرب مثلًا لهذا الخداع الذاتي الذي يمارسه العقل في المجتمع الصناعي المتقدم؛ فالتهديد بالفناء الذري. في عصرنا الحالي يُستخدم في المحافظة على نفس القوى التي تسبب هذا التهديد، بحيث تنصرف الجهود كلها إلى درء الخطر والإقلال من التهديد، لا إلى إزالة الأسباب المؤدية إليه. وتقوم الدول سلميًّا بإنتاج وسائل الدمار، ويثري المجتمع ويزداد قوة وضخامة بفضل محافظته على الخطر، والحياة على حافة الهاوية. ولا جدال في أن هناك لا معقولية واضحة في هذا السلم الذي يحافظ عليه بالتهديد المستمر بالحرب.
على أن أبرز صفات هذا المجتمع الصناعي المتقدم هي قدرته الفائقة على امتصاص قوى السخط والتمرد في داخله، وتحويله إلى قوى تعمل على إبقاء الوضع القائم وتجد لنفسها مصلحة في استمرار هذا الوضع. هذا هو الجديد في عصرنا الحاضر بالقياس إلى العصر الصناعي الأول في القرن التاسع عشر. فالطبقتان المتضادتان، البورجوازية والبروليتاريا، أصبحت لهما معًا مصلحة في الإبقاء على الأوضاع الراهنة، بحيث لم تعد الطبقة العاملة، في المجتمع الرأسمالي، أداة أو واسطة للتغيير الاجتماعي. وتتحقق السيطرة في المجتمع «ذي البعد الواحد» عن طريق استبعاد كل إمكانية لإحداث تغير كيفي في الأوضاع، وذلك بإدماج المعترضين (أي الطبقة العاملة) في النظام، واستيعاب المجتمع لكل من يستطيع — نظريًّا — أن يضع النظام السائد موضع الشك والتساؤل؛ ففي المجتمع الرأسمالي المتقدم يتحول المعارضون إلى مستهلكين لنفس نواتج هذا المجتمع، وبذلك تكون لهم مصلحة مباشرة في استمرار النظام؛ لأنه يلبي حاجاتهم الأساسية، ويخلق فيهم حاجات مصطنعة يقتضيها دوام النظام، وبذلك تكتمل حلقات السيطرة، حين يصل التنظيم الاجتماعي إلى تلك المرحلة التي يستوعب فيها داخله كل إمكانات الاحتجاج والمعارضة والتمرد.
والواقع أن الوفرة التي تحققها التكنولوجيا الحديثة تجعل التشكك في الوضع الراهن أو التمرد عليه أمرًا لا معنى له. وبفضل هذه التكنولوجيا المتقدمة يتجه النظام الرأسمالي الحديث إلى أن يكون «شموليًّا» — لا بمعنى أنه قائم على الإرهاب؛ إذ إن هناك نوعًا من الشمولية غير القائمة على الإرهاب، يتمثل في التحكم في حاجات الناس وصبغها بصبغة نمطية بهدف خدمة المصالح القائمة، هذه الشمولية لا تتحقق على يد حزب سياسي معين، كالحزب النازي (قبل الحرب العالمية الثانية مثلًا)، بل تحققها طريقة معينة في الإنتاج والتوزيع، يمكن أن تسود في ظل نظام تعددي (كالنظام الأمريكي) يسمح نظريًّا بحرية الصحافة وتعدد الأحزاب … إلخ، ونتيجة لهذه الشمولية يستغرق النظام الإنتاجي الفرد بأكمله؛ فالفرد يندمج في مجتمعه اندماجًا كاملًا، لا يسمح له بأن يحتفظ لنفسه ببعد داخلي أو باطني خاص به، بل يصبح «ذا بعد واحد»، هو البعد الذي يريده النظام الاجتماعي القائم، والذي يتوحَّد به توحدًا تامًّا. ومن الجدير بالذكر أن عملية التوحد التام بين الفرد والمجتمع، تُناظر ما نجده في المجتمعات البدائية؛ حيث لا يكون للفرد أي بُعد سوى البُعد الاجتماعي. وهكذا يدور التاريخ دورة كاملة من التوحد إلى التمايز ثم التوحد مرة أخرى، ولكن على مستوى أعلى. ولا جدال في أن فقدان البعد الذهني الباطن يعني ضياع القدرة على معارضة النظام القائم، واستخدام ملكة الرفض والنفي والنقد، التي هي الملكة الأصلية للعقل البشري. وبذلك يُبتلع الإنسان بأكمله في عملية الإنتاج التي تستهدف أولًا وأخيرًا دعم المصالح القائمة وزيادة فعاليتها.
إن المنتجات ذاتها، ووسائل الإعلام الجبارة، والسلع المخصصة للمسكن والملبس والمأكل وأدوات الترفيه البارعة، تحمل معها اتجاهات وعادات مفروضة مقدمًا، وتؤدي إلى استجابات ذهنية وانفعالية تربط المستهلك بالمنتج وبالمجتمع ككل. فالمنتجات تسيطر وتبث عقيدة معينة، وتبعث وعيًا زائفًا لا يدرك أحد زيفه. وبانتشار نفع هذه المنتجات بين طبقات اجتماعية أوسع، تصبح عقيدتها أسلوبًا في الحياة لا مجرد دعاية، ويحارب أسلوب الحياة هذا كل دعوة إلى التغيير الاجتماعي، ونتيجة لانعدام أفكار التغيير، يصبح الفكر والسلوك ذا بعد واحد، ترفض فيه الأفكار والأماني التي تتجاوز نطاق ما هو موجود.
في مجتمع كهذا يطرأ تغيير أساسي على طبيعة كل من الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع: الطبقة الرأسمالية، والطبقة العمالية ولا تعود أي منهما تحمل ملامح التحليل التقليدي للطبقات الاجتماعية كما شاع في القرن التاسع عشر، على يد ماركس بوجه خاص.
فالطبقة الرأسمالية: تقليديًّا، طبقة ليبرالية بطبيعتها تزدهر في ظلها الحريات البورجوازية المعروفة: حرية الرأي، والكلام، والتجمع، وتكوين الأحزاب والمعارضة … إلخ، وتلك هي المزايا التي جعلت المرحلة الرأسمالية تمثل تقدمًا كبيرًا بالقياس إلى المرحلة الإقطاعية السابقة عليها. غير أن هذه المزايا، في المجتمع الرأسمالي المتقدم تلغي نفسها بنفسها، بل تتحول إلى عيوب. فالتعددية، التي تتمثل في وجود كثرة من الآراء والاتجاهات والأحزاب، تتحول بالتدريج إلى واحدية، ولا يبقى منها في النهاية إلا مظهرها الخارجي، فيكون هناك مثلًا حزبان — أو أكثر — ولكن المواقف في نهاية الأمر واحدة، والعناصر المشتركة غالبة على عناصر الاختلاف؛ لأن الكل مهما اختلفوا في التفاصيل الشكلية — متفقون على محاربة أي تغيير حقيقي يُراد إدخاله على المجتمع.
فماذا يكون إذن موقف مجتمع كهذا من مبدأ «التسامح» الذي هو مبدأ أساسي في الرأسمالية التقليدية؟ إن هذا المجتمع يظل يقبل المبدأ ذاته، ولكنه يحوله ببراعة شديدة إلى سلاح للمحافظة على كيانه والقضاء على كل معارضة حقيقية. وقد تتبع ماركيوز عملية التحويل والتزييف هذه ببراعة في المقال الذي ألفه في كتاب مشترك يحمل عنوان «نقد التسامح الخالص»، فأكد أن التسامح المطلق الذي يسمح فيه لكل رأي بالتعبير عن نفسه، بحيث يتساوى الحق والباطل، والصحيح والمزيف، والبنَّاء والهدام، والتقدمي والرجعي، هو سلاح يخدم الرأسمالية ولا يلحق بها أي ضرر. ففي ظل هذه المساواة المطلقة تضيع قضية التقدم الإنساني وتزيف، ويتميع الموقف العام للمجتمع إزاء ضروب الاختيار العديدة التي يتعين عليه أن يتخذ قرارًا بينها.
أما الطبقة العمالية فإن التغيير الذي يطرأ عليها، في المجتمع الرأسمالي المتقدم، أخطر بكثير. فالمفروض، حسب النظرية الماركسية التقليدية، أن هذه الطبقة تزداد فقرًا على الدوام كلما ازداد الإنتاج الرأسمالي واشتدت المنافسة بين المنتجين؛ إذ إن القيمة الفائضة تنقص ولا بد أن يأتي هذا النقص على حساب العمال، لا على حساب أصحاب الأعمال. وهكذا يشتد التناقض بين الرأسماليين الذين يزدادون قوة وسيطرة وثراء، والعمال الذين يزدادون فقرًا وسخطًا على أوضاعهم. ويؤدي هذا التناقض إلى ظهور وعي طبقي لدى العمال، يدفعهم إلى تنظيم أنفسهم سياسيًّا، حتى يصل هذا الوعي، في حالة وجود تنظيم سياسي محكم، إلى مستوى العلو على الذات؛ أعني أن الطبقة العمالية لا تكتفي بالعمل من أجل إصلاح أوضاعها الطبقية الخاصة، بل تنظر إلى نفسها على أنها ضمير الإنسانية كلها، وعلى أنها الطبقة القادرة على تخليص البشرية من مظاهر الظلم والشقاء.
فإذا أضفنا إلى ذلك قدرة التكنولوجيا الحديثة على الإنتاج الوفير، الذي يعود جزء منه إلى العمال في صورة مستوى معيشة مرتفع يساعد بدوره على دعم النظام الرأسمالي؛ لأن مظهر ارتفاع مستوى المعيشة هو أن يشتري العمال منتجات المجتمع الرأسمالي ويكونوا أداة من أدوات تصريفها — أمكننا عندئذٍ أن نفهم كيف أن العمال أصبحوا، في المجتمع الصناعي المتقدم، وسيلة لدعم النظام القائم، وأصبحت عملية الإنتاج، التي ترفع مستوى معيشتهم، هي نفسها العملية التي تعمل على زيادة اندماجهم في هذا النظام، وبالتالي على زيادة خضوعهم له. وبالاختصار، فقد أصبحت للعمال في مثل هذا المجتمع مصلحة في بقاء النظام وازدهاره، ومن ثم فقد تم — بطريقة سلمية بحتة — تقليم أظافرهم الثورية، والقضاء على روح التمرد والثورة فيهم.
هذا على المستوى الواعي، أما على المستوى غير الواعي، فإن هذه التكنولوجيا الحديثة ذاتها تسهم في إنتاج نوع خاص من الثقافة يعمل بدوره على توطيد أركان النظام القائم، إذ ينشر بين الطبقة العاملة قيم الرضوخ والاستسلام، ويقدم إليهم في أوقات فراغهم ترويحًا سطحيًّا تتغلغل فيه المعاني التخديرية التي يريد النظام أن يبثها في النفوس، مما يترتب عليه إضعاف موقف الرفض أو السلب لدى العامل، بحيث يختفي نهائيًّا عن الطبقة العاملة مظهرها القديم الذي كانت تعد فيه «النقيض الحي» للمجتمع القائم.
(ب) نقد المجتمع السوفيتي
يكشف تحليل ماركيوز للمجتمع الرأسمالي، بوضوح، عن اعتقاده باستحالة حدوث تغيير ثوري في هذا المجتمع على يد القوى الراهنة التي تسيطر على هذا المجتمع. وهكذا كُتب على الإنسان العامل في هذا المجتمع أن يظل عبدًا راضيًا، مرتاحًا، يعمل — بوعي أو بلا وعي — على إحكام سيطرة القائمين باستعباده.
ولقد كانت التجربة السوفيتية، في العقد الثاني من هذا القرن، مبعث الأمل لدى الكثيرين في أن يظهر نظام آخر تختفي فيه نهائيًّا مظاهر الاستغلال، وتزول فيه أساليب السيطرة المادية والمعنوية على الإنسان، وتتحقق فيه — لأول مرة — حرية حقيقية للبشر، ولكن ماركيوز يعتقد أن هذه التجربة لم تحقق شيئًا من هذه الأهداف وإنها، على العكس مما تدَّعي، قد تنكَّرت للمبادئ الأصلية التي قامت من أجل وضعها موضع التنفيذ.
ومن الجدير بالملاحظة أن ماركيوز، في نقده للتجربة السوفيتية، يحرص على أن يؤكد أنه لا ينقد التجربة الاشتراكية في ذاتها؛ لأنه يعتقد أنه اشتراكي على طريقته الخاصة، بل إنه لا يوجِّه هجومه إلى الماركسية، وإنما يهاجم شكلًا معينًا من أشكالها، هو الماركسية السوفيتية على التخصيص (باعتبارها أقدم التجارب الاشتراكية وأشدها رسوخًا، وبوصفها القوة الكبرى المقابلة للرأسمالية المتقدمة كما تتمثل في الولايات المتحدة)؛ ذلك لأن لدى ماركيوز تفسيره الخاص للماركسية، الذي يؤمن بأن التطبيق السوفيتي قد أدى إلى تشويهه. ومن هنا كنا نجد في كتاباته، ولا سيما كتاب «الماركسية السوفيتية» ميلًا إلى المقارنة الدائمة بين التجربة الأمريكية والتجربة السوفيتية، وإصرارًا على تأكيد وجود أوجه شبه قوية بين النظامين، على الرغم مما بينهما من تضاد ظاهري، ومحاولة ملحة لإثبات أن «الجنة السوفيتية» ليست على الإطلاق أفضل من «الجحيم الأمريكي الرأسمالي» بل إنها تتضمن كل عناصر القمع والاستبداد والتحكم في الإنسان، التي ينطوي عليها المجتمع الرأسمالي (مضافًا إليها — بالطبع — أن الاستبداد في حالة هذا المجتمع الأخير يمارس في إطار ظاهري مخفف من الحريات الليبرالية، ومن خلال إغراق الطبقة الثورية المحتملة في النعم الاستهلاكية التي يفتقر إليها، في معظم الأحيان، من يعيشون في ظل النظام السوفيتي).
إن النظام السوفيتي كان يستهدف من الثورة إعادة تشكيل المجتمع وفقًا لمقتضيات العقل، وإزالة التناقض بين الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج (وهو طابع لا بد منه لأن عملية الإنتاج تفترض بطبيعتها اشتراك صاحب العمل بآلاته والعامل بقوته والمجتمع بأسره في انتفاعه من الناتج) والطابع الفردي لملكية الثروة — وتلك هي الأهداف الفعلية للنظرية الماركسية في صورتها الأصلية. ولكن الذي حدث بالفعل هو أن النظام السوفيتي أخذ يتباعد بالتدريج عن التعاليم الماركسية، حتى أصبح نظامًا قائمًا بذاته، ينبغي أن يُحكم عليه بمعزل عن النظرية الأصلية التي ظهر في ظلها. ومع ذلك فقد ظل يستخدم الصيغ الماركسية التقليدية كشعارات سحرية يخلب بها ألباب المواطنين، ويخدر بها عقولهم حتى تنتشر بينهم روح المسايرة والرضوخ، وهي نفس الروح المميزة لإنسان المجتمع الرأسمالي المتقدم.
ولقد وقع النظام السوفيتي في فخ السعي إلى التفوق الإنتاجي، فكانت النتيجة أن تكررت فيه نفس الأخطاء التي تولدت عن هذا السعي في المجتمع الرأسمالي؛ فالهدف الذي يتجه إليه المجتمع السوفيتي، بكل قواه، هو تجاوز معدلاته الإنتاجية باستمرار حتى يلحق بالغرب ثم يتفوق عليه، وحين تصبح الزيادة الإنتاجية غاية قصوى، يتحول الإنسان ذاته إلى مجرد أداة لتحقيق الهدف الأسمى، وتخضع جميع الاعتبارات الإنسانية لتنفيذ التخطيط الشامل. ومن الضروري أن يؤدي استهداف الزيادة الإنتاجية إلى وضع نظام إداري يتسلط على كافة جوانب الحياة، فهنا تصبح السيطرة لكبار رجال الإدارة؛ أي البيروقراطيين، ولكبار الفنيين المختصين في العمليات الإنتاجية؛ أي «التكنوقراطيين» ويضيع الإنسان نفسه ويغترب بين هؤلاء وأولئك.
فالفرد العامل، الذي ينتج مباشرة، تقوم بينه وبين السلطة حوائل وحواجز، تتمثل في مجموعات كبيرة من المديرين والفنيين الذين يملكون زمام السيطرة على كل الأمور، بحيث يتحول هذا العامل إلى وسيلة في يد قوى أعلى منه — كما هي الحال في النظام الرأسمالي — لا إلى غاية في ذاته، كما كان المأمول في الماركسية الأصلية.
إن العامل في ظل الرأسمالية يغترب حين يعجز عن الاهتداء إلى ذاته، وإلى الهدف من عمله، في ظل قوًى لا شخصية مجهولة، هي قوة رأس المال، وتقلبات «السوق»، والمضاربات، وكلها قوًى تؤدي إلى تحويل حصيلة عمله في طرق ومسالك لا يعرف عنها شيئًا، وإلى التصرف فيها على نحو لا دخل لإرادته فيه. ومثل هذا يحدث في النظام السوفيتي، وإن اختلف نوع القوى التي تسبب هذا الاغتراب. فأساس الاغتراب في هذه الحالة هو «الخطة» التي تشكل بدورها عاملًا لا شخصيًّا مجهولًا ينبغي أن يخضع له كل فرد في المجتمع وإن لم يكن يستطيع أن يحدد نوع الالتزامات التي ستفرضها عليه، أو أن يتنبأ بما ستلقيه عليه من مسئوليات. إن الخطة نوع من التنظيم الأعلى الذي يفرض على كل فرد، ويمارس على الجميع نوعًا من الإرهاب غير المنظور. وهي أقوى الوسائل التي يستخدمها البيروقراطيون الاقتصاديون والسياسيون في السيطرة على المجتمع، والحيلولة دون اشتراك الأفراد مباشرة في تنظيم إنتاجهم بصورة تكفل لهم الشعور عن وعي بثمرة جهدهم.
وهكذا يسهم التخطيط الشامل في زيادة سلطان الترشيد التكنولوجي، ويشكل بدوره سلاحًا من أسلحة الإرهاب والقضاء على تلقائية الفرد، ويتقارب النظام السوفيتي مع الرأسمالية المتقدمة في خلق إنسان ذي بعد واحد، هو البعد الذي تحتاج إليه الخطة، والذي يسهم في تحقيق المعدلات الإنتاجية المطلوبة، دون اعتبار لأي عامل آخر.
بل إن الصراع بين النظامين السائدين في البلدين الكبيرين: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، هو ذاته عامل يؤدي إلى تثبيت الأوضاع غير الإنسانية في كلا النظامين. فالمفروض أن هذا الصراع جزء من الديالكتيك التاريخي الذي يؤدي، في نهاية الأمر، إلى إزالة التناقض بين النظامين لصالح تقدم الإنسانية، بحيث لا يحتفظ من النظامين إلا بما يسهم في خلق أوضاع أفضل. ولكن الذي يحدث بالفعل عكس ذلك.
فالاتحاد السوفيتي يعجز عن المواءمة بين الأساس الأيديولوجي النظري لسياسته، وبين الواقع الفعلي الذي يظهر بمزيد من الوضوح يومًا بعد يوم. فهو؛ على المستوى النظري، لا يزال ينظر إلى البروليتاريا على أنها طبقة واحدة ينبغي أن تتحد كلها، بغض النظر عن أية اختلافات في المستوى الاقتصادي، للقضاء على استغلال النظام الرأسمالي. وفي مقابل هذه النظرة «الدولية» إلى الطبقة العمالية، يشهد الواقع بحدوث تحول أساسي في البروليتاريا، جعل جزءًا كبيرًا منها يتحول إلى فئة غير ثورية مندمجة في النظام الرأسمالي المستغل على نحوٍ يوحي بوجود اتحاد في المصالح بين العمال وبين بقاء النظام القائم. وهكذا طرأ على فكرة «التناقض» بين العمال والرأسماليين تغير أساسي، لم تعترف به الأيديولوجية السوفيتية نظريًّا. ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن الممارسة السياسية للاتحاد السوفيتي، بوصفه دولة (لا بوصفه نظامًا يطبق أيديولوجية معينة) تضطره إلى الاعتراف — ولو بصفة جزئية — بهذا الواقع القائم، وبأن الصراع الدولي ليس صراعًا بين طبقتين متناقضتين يتخطى حواجز السياسية القومية، وإنما هو إلى حد معين على الأقل، صراع بين «دول» لها مصالح متكاملة محددة.