مقومات الحضارة الجديدة
يحتل النقد السلبي الجانب الأكبر من تفكير ماركيوز ويشغل العدد الأكبر من صفحات كتبه. وليس هذا بالأمر المستغرب؛ إذ إنه لا يقتصر على نقد نظام بعينه، بل إنه ينقد كل النماذج الموجودة، سواء منها الرأسمالية أو الاشتراكية كما هي قائمة بالفعل. وهو يرى أن «أحادية البعد» هي مرض العصر، أو هي المظهر الرئيسي لضحالة الإنسان وغفلته، وللانحراف والتشويه الذي طرأ على حياته، فالإنسان «ذو بعد واحد» في المجتمع الرأسمالي المتقدم، وفي التطبيقات الاشتراكية الكبرى في العالم المعاصر. إن البعد الواحد باختصار، هو سمة الحضارة الحديثة في أشد صورها تقدمًا واكتمالًا.
على أن ماركيوز لا يقف عند حد تشخيص أمراض الحضارة الحديثة، وإنما يعرض تصوره الإيجابي لحضارة أخرى تحقق للإنسان أبعاده المتعددة، وتكتمل فيها مقومات الحياة الحقة. وبطبيعة الحال فلا بد لبلوغ هدف كهذا من مراجعة شاملة للطريق الذي ظل الإنسان يسلكه حتى اليوم، وللأهداف التي ظل يبذل الجهد ويتحمل العناء من أجل تحقيقها؛ ذلك لأن الإنسان الحديث كان يُسلِّم بأمور معينة يظنها بدهية مع أنها قابلة للمناقشة، بل إنها ربما كانت أصل البلاء الذي يعيش فيه. ومعنى ذلك أن الحضارة الحديثة بأسرها تظن أن المبادئ التي تقوم عليها مطلقة، مع أنها في واقع الأمر مبادئ نسبية يمكن الخروج عليها، وربما كان خلاص الإنسان الحديث يكمن في قدرته على تجاوزها.
«إن الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الحديثة هي زيادة الإنتاجية والتقدم التكنولوجي.» وهذه أسس تُفرض مقدَّمًا دون مناقشة. وهي تتخطى الانقسامات الأيديولوجية، إذ إنها هي الغاية القصوى في كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي كما يعيشان بيننا اليوم، ويعتقد ماركيوز أن التشخيص الحقيقي لمرض العصر الحديث هو أن الإنسان يعيش فيه متلهفًا على الإنتاجية الزائدة، لاهثًا وراء الكشوف والاختراعات التكنولوجية المتجددة أبدًا، وبذلك يضع الوسائل موضع الغايات؛ ذلك لأن على الإنسان أن يدرك أن الإنتاج والتكنولوجيا مجرد وسائل. وعليه أن يتساءل: لأي غرض ينبغي أن أزيد من إنتاجي؟ وما هي الغاية التي سأستخدم من أجلها التجديدات التكنولوجية؟ ومع ذلك فإن هذه الأسئلة، على بساطتها، لا تُطرح في العصر الحديث، بل ينقاد الإنسان لرغبته العمياء في التفوق في سباق الإنتاج والاختراع وكأنه مسوق بقوة قدرية غامضة قد تؤدي به في النهاية إلى حتفه.
على أن من الضروري أن ننبه، بادئ ذي بدء، إلى أن ماركيوز لا يستهدف دعوة الإنسان الحديث إلى التنازل عن تقدمه الاقتصادي والتكنولوجي؛ فهو لا ينتمي إلى ذلك النمط من المفكرين الذين ينادون بالعودة إلى عصور ما قبل الصناعة وما قبل التكنولوجيا، ويتصورون أن سعادة الإنسان الحقيقية إنما تكون في العودة إلى الارتباط المباشر بالطبيعة البريئة، بل إن المجتمع الإنساني الذي يحلم ببلوغه يفترض وجود مستوى عالٍ إلى أبعد حد من القدرة الإنتاجية ومن التقدم التكنولوجي. ولكن المهم في الأمر أنه يدعو إلى وضع هذه الاعتبارات الاقتصادية والفنية حيث ينبغي أن تكون؛ أعني بوصفها وسائل تخدم غايات تعلو عليها — غايات لم تصل إليها، ولا يمكن أن تصل إليها، الإنسانية الحالية المكتفية بعالم الوسائل. فهدفه هو أن يتجاوز الإنتاج والتكنولوجيا مع احتفاظه بهما؛ أعني البحث عن حضارة جديدة تستوعب الحضارة القديمة في داخلها، دون أن تلغيها، بحيث تكون العلاقة بين القديم والجديد علاقة جدلية بالمعنى الهيجلي؛ فالجديد يُلغي القديم لأنه يتجاوزه ولكنه في الوقت ذاته يحتفظ به لأنه يشتمل عليه بوصفه جانبًا من جوانبه. أو لنقل، من زاوية أخرى، إن العلاقة بين المجتمع القائم على الإنتاجية والمجتمع الذي ينشده ماركيوز — والذي سنوضح تفاصيله بعد قليل — أشبه بالعلاقة بين هندسة إقليدس والهندسة اللاإقليدية؛ فالأخيرة لا تلغي الأولى، ولكنها تدرك نسبيتها، وتجعلها مجرد حالة خاصة منطبقة على مجال معين، وتضيف إليها إمكانات جديدة لم تكن تخطر على بال أنصار النسق القديم.
(أ) من ماركس إلى فرويد
كانت وسيلة ماركيوز لرسم معالم المجتمع الجديد هي أن يعيد تفسير أفكار فرويد على نحوٍ يتيح تعويض ما يفتقر إليه الفكر الماركسي، أو التوفيق بين تعاليم فرويد، وبين آراء ماركس الشاب مع مزجهما معًا بعناصر من نيتشه، بحيث يصبح المركَّب الناتج ملائمًا لروح العصر الحاضر.
ذلك لأن ماركس — في ظروف عصره الخاصة — قد ربط بين تقدم الإنسانية وبين العمل، بحيث أصبح من الأمور المسلَّم بها فيما بعد أن حضارة الإنسان المعاصر في صميمها حضارة عمل، وأن الإنسان — في أحسن الظروف — لا يستطيع أن يحيا حياة أفضل إلا بقدر ما يبذل في عمله من جهد. ولقد كانت نتيجة ذلك أن تركز الاهتمام على القيم العقلية التي تتيح ترشيد العمل في سبيل الوصول إلى إنتاج أوفر، وعلى القيم الأخلاقية التي تسمح بتحقيق توزيع عادل لثروة المجتمع. وخلال ذلك كله نسيت قيمة «السعادة» التي ترتبط أساسًا بحياة الإنسان البيولوجية، وأغفلت مشاعر الإنسان الحسية وحاجاته الحيوية، وتركز الاهتمام على الحاجات العقلية والاقتصادية فحسب. وعلى الرغم من أن ماركس قد أشار إلى عناصر أساسية يستحيل بدونها أن تحقق الإنسانية تقدمًا حقيقيًّا، فإن عنصر «الغريزة» وتحقيق الرغبات الحيوية كان مفتقدًا تمامًا في كتاباته، إذا استثنينا بعض الإشارات غير الواضحة في كتابات الشباب.
«إن الإنسان بحاجة إلى ثورة جديدة تتجاوز نطاق الثورة الاجتماعية، ثورة تعيد إليه قيمة السعادة الحيوية وترد إليه وعيه بالغريزة وإحساسه بالجمال. مثل هذه الثورة لا نستطيع أن نسترشد فيها بتعاليم ماركس (وإن كانت هذه التعاليم تقدِّم في الواقع الأساس الذي لا يمكن تحقيقها بدونه)، بل ينبغي علينا أن نلجأ، من أجل استيضاح معالمها، إلى فرويد.»
في هذه الكتابات عرض فرويد فكرة «الإيروس» بوصفه الطاقة التي تكمن في أصل كل حضارة. وذلك لأن نمو الفرد؛ أي انتقاله من الأنانية إلى الغيرية، وكذلك نمو الإنسانية، يفترض مقدمًا عامل الحب، سواء في صورته الجنسية المباشرة، أو صورته المتسامية المحوَّرة. فنمو الفرد يتحقق حين يعمل الطفل حسابًا للواقع وينظم سلوكه على أساسه، بعد أن كان يبحث عن إشباعه المباشر ثم إدراك ما يضعه العالم أمام هذا الإشباع المباشر من عقبات. ونمو المجتمع يتم بإعلاء مماثل للطاقة التي لا تستطيع التعبير عن نفسها مباشرة، بل تتخذ لنفسها تعبيرات غير مباشرة، تتمثل في المبادئ الأخلاقية والدينية، وفي التعبير الفني والأدبي.
ومعنى ذلك أن الحضارة تفرض على الإنسان ألوانًا من القهر، وأنواعًا من التحريمات؛ أي أن التحضُّر هو في أساسه تغيير لطبيعة الإنسان الأصلية، وطرح لمبدأ اللذة المباشرة في سبيل الخضوع للأمر الواقع. وكلما ازدادت الحضارة نموًّا، انتصر «مبدأ الواقع» على «مبدأ اللذة» وازداد التحكم في الغرائز الطبيعية عن طريق النُّظم والقوانين، ومع ذلك فإن مبدأ اللذة لا يختفي تمامًا، وإنما يظل يُفصح عن نفسه في صور غير مباشرة يحاول فيها التخلص من سيطرة مبدأ الواقع؛ كالحلم والخَلق الفني والخيال، وهي صور ينبثق فيها المكبوت ويفصح عن نفسه. والمهم في الأمر أن الكبت هو الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء تقدُّمه الحضاري. وهكذا يظل الإنسان يعمل وينتج، بدلًا من أن يستجيب لدوافعه الطبيعية، ولا سيما الجنس، ما دامت الموارد لا تكفي لإعاشة أفراد المجتمع بلا عمل؛ فالإيروس إذا تُرك وحده يمنع الإنسان من العمل، ويحرم المجتمع من وسائل العيش، ومن هنا كان لا بدَّ من طرحه جانبًا، والتركيز على الإنتاج والعمل. أي أن الإيروس عاجز عن إقامة الحضارة؛ ولذلك كان من الواجب إنكاره إذا أراد المجتمع أن يقيم لنفسه حضارة مرتكزة على الجهد والعمل.
إن المجتمع، في رأي فرويد، يحتاج إلى الكبت لكي يبني حضارته، وهذا رأي لا يملك ماركيوز إلا أن يوافق عليه، وما أظن أن أحدًا يستطيع أن يجادل في الفكرة القائلة إن مجرد تكوين مجتمع يعني تنازل الأفراد عن قدر من حاجاتهم ورغباتهم المباشرة في سبيل مبدأ أعم منهم. ولو أمعنا الفكر قليلًا لتبيَّن لنا أن نظرية العقد الاجتماعي، بل نظريات الفلاسفة القدماء — وعلى رأسهم أفلاطون — في تكوين المجتمع، تنطوي على رأي موازٍ لرأى فرويد هذا، ولكن على المستوى الاجتماعي بدلًا من المستوى النفسي. ولكن فرويد لا يكتفي بذلك، بل يؤمن بأن عكس القضية السابقة صحيح أيضًا؛ أي بأنه لا حضارة بدون كبت أو قمع، وبأن من المستحيل قيام حضارة بلا كبت. وهذا ما يعترض عليه ماركيوز.
ذلك لأن قضية فرويد تظل صحيحةً صحة نسبية؛ أي أنها تسري على المجتمعات التي كان ضيق الإنتاج فيها يحتِّم تعبئة كل الموارد من أجل العمل، ويحتم بالتالي تجاهل الإيروس. ولكن مجتمعنا الحالي تظهر فيه، لأول مرة، بوادر تدل على إمكان الاستغناء عن القمع، وإقامة حضارة لا ترتكز على الكبت، تكون هي الحضارة «المطلقة» الوحيدة التي يمكن تصورها؛ ذلك لأن المجتمع الصناعي الحالي أصبح قادرًا على تحقيق قدر هائل من الوفرة، وأصبح من الممكن، عن طريق التقدم التكنولوجي الهائل، وانتشار الآلية الذاتية (الأوتومية)، أن يتوافر الأساس المادي الذي يُتيح انتقال المجتمع إلى شكل جديد للحضارة لا يعود فيه العمل الشاق ضروريًّا، بل يتفرغ فيه الإنسان لتحقيق طبيعته الحيوية، فالآلات أصبحت قادرة على أن تسير بذاتها، مع حد أدنى من التدخل الإنساني، وأن تنتج في الوقت ذاته بوفرة لم يكن يحلم بها الإنسان في أي عهد مضى. وعن طريق هذا التحوُّل التكنولوجي الحاسم، يستطيع الإنسان أن يتحرر من الاغتراب الذي يعانيه في العمل المادي الشاق، وأن يُكرِّس إنتاجه الوفير لصالح قواه الإنسانية، ويحقق ذاته لأول مرة في تاريخه الطويل.
ولعل العامل الحاسم الذي يساعد على إحداث هذا التغيير، هو أن القمع قد أصبح في عصرنا الحاضر، قمعًا إراديًّا من صنع الإنسان. فعلى حين أن الضرورة الطبيعية، التي تتمثل في ندرة الموارد وعدم كفايتها لتلبية الحاجات، كانت فيما مضى تحتِّم القمع وتجعله أمرًا لا مفرَّ منه لتنظيم المجتمع؛ فإن الوفرة التي حققها المجتمع الحديث جعلته غير مدفوع إلى ممارسة القمع بحكم الضرورة الطبيعية، بل إن أصل القمع الحالي إنساني بحت، وبعبارة أخرى فإن العوامل الاجتماعية والسياسية — لا العوامل الطبيعية — هي التي تؤدي إلى القمع السائد الآن، وهي تدفع المجتمع إلى تطبيق أساليب معينة في توزيع ثروته، تحتم سيطرة البعض على البعض الآخر.
وإذا كنا نعلم، من تجاربنا الراهنة، أن القمع الذي يمارسه الإنسان شر من القمع الذي تحتمه الضرورة الطبيعية، فينبغي أن ندرك، مع ذلك، أن هذا التغيير يعطينا على الأقل أملًا في المستقبل. ذلك لأن ما يمارسه الإنسان بإرادته، يستطيع الإنسان أيضًا أن يتخلص منه بإرادته. فنحن اليوم في مرحلة تاريخية لم تعد توجد فيها أية عقبات طبيعية في وجه القضاء على الكبت، وكل ما نعانيه عقبات من صنع الإنسان، ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتجاوزها، وأن ينتقل إلى المرحلة العليا للتطور الاجتماعي، أعني المجتمع القائم على تحقيق الرغبات الحقيقية للإنسان، وإشباع حاجته إلى الحب والسلام، وإحلال «الإيروس» محل حضارة العمل الشاق والصناعة والإنتاجية العمياء.
(ب) حضارة الإيروس
على الرغم من أن ماركيوز يبدو كما لو كان يتجاوز ماركس، الذي ظل تفكيره محصورًا في نطاق مبدأ العمل والعدالة، ليستمد مقومات حضارة المستقبل من فرويد، الذي استطاع أن يجعل لمبدأ اللذة والسعادة مكانة رئيسية في تفكيره، فإنه في واقع الأمر يتخطاهما معًا؛ لأنه يضيف إليهما عناصر تنتمي إلى صميم عصرنا الذي يتميز بتطورات لم يستطع كل من المفكرَين الكبيرَين أن يتنبأ بها تنبؤًا دقيقًا.
لقد أصبح في استطاعة الإنسان، لأول مرة، أن يحيا حياة خلت من الكبت، ويقف عن غرائز الحياة موقف الإيجاب المطلق. وعلى حين أن الإيروس والحضارة كانا منفصلَين، بل متضادَين عند فرويد، فإن ظروف المجتمع الحالي تتيح، في رأي ماركيوز، الجمع بينهما من أجل إقامة حياة إنسانية مكتملة العناصر، يتحقق فيها التوافق التام بين مختلف جوانب الطبيعة البشرية.
وأهم ما يتصف به تفكيره في هذه المرحلة هو تأكيده أن الحديث عن الحضارة الجديدة لم يعد من قبيل التفكير اليوتوبي، الذي يتعلق بمشروعات اجتماعية يستحيل تحقيقها موضوعيًّا. بل إن ظروف عالم اليوم، التي تجعل الانتقال أمرًا ممكنًا من الوجهة العملية، تضع حدًّا لليوتوبيا، وتجعل التفكير في عالم الغد خارجًا عن نطاق الأحلام، بل تجعله أكثر واقعية من أي تفكير يقتصر على حدود المجتمع القائم بالفعل.
فما هي إذن خصائص حضارة الإيروس هذه؟
أول ما يطرأ على الذهن، حين تصادفه كلمة «إيروس» هو الجنس. فمثل هذه الحضارة لا بد أن تكون لها نظرة مختلفة كل الاختلاف إلى الجنس، نابعة من تخلصها من الكبت بصورة نهائية؛ فهي تعطي الجنس أبعاده الكاملة في إطار من انعدام الكبت. وربما توهم المرء مما قلناه أن الحضارة الحالية تتجاهل الجنس نتيجة لإصرارها على القمع والكبت، ولكن حقيقة الأمر عكس ذلك. ففي هذا المجتمع الذي يستهدف الربح من كل شيء، ويبتذل كل شيء — حتى أقوى عواطف الإنسان وألصقها به — يتخذ الجنس صبغة السلعة التي تنتج بالجملة، وتُباع وتُشترى في السوق. وتقوم وسائل الدعاية بدور كبير في تضخيم صور نمطية للجنس والتهليل لها وفرضها على أذواق الناس فرضًا. وتتسع أبعاد الجنس إلى حد مخيف، ويتدخل في كل جوانب حياة الإنسان ولكنه يظل مع ذلك مقيدًا محصورًا في إطار يحدده المجتمع منذ البداية، حتى لا يصبح حرًّا طليقًا.
هذا الجو أبعد ما يكون عن التسامي، الذي يفترض فرويد أنه ملازم للكبت. فالجنس ينحط ويُبتذل، وينتشر على أوسع نطاق، ولكن في إطار من الكبت الشديد ودون أن يصحبه إشباع حقيقي أو متعة حقيقية. إنه أبعد ما يكون عن طبيعته الأصلية التلقائية، فكل شيء فيه مخطط مدروس، يستهدف إغراق الإنسان بالصور والتعبيرات والإيماءات الجنسية التي تحفل بها الصحف وأفلام السينما، ولكن دون إشباع مطالبه منه. ولو شئنا الدقة لقلنا إن ما يُقدَّم إلى الإنسان ليس هو الجنس ذاته، بل هو بديل عنه، هو خيالات وأوهام تحل محله وتزيد من طابع الكبت المسيطر على نظرة المجتمع إلى الجنس. هذا النفاق ذو الوجه المزدوج الذي لا يمكن أن يعد حرمانًا ولا إشباعًا، لا بد أن ينتهي في حضارة الإيروس، لكي يحل محله انطلاق وتحرر لقوى الإنسان الطبيعية، وعلى رأسها الجنس.
ويؤكد ماركيوز أهمية الاستمتاع بالوقت الحر؛ أي بما نسميه الآن وقت الفراغ، في المجتمع الجديد. فعلى حين أن المجتمع الحالي يسيء استغلال هذا الوقت لخدمة أغراضه الاستهلاكية الخاصة، ولنشر القيم التي تدعم النظام القائم، فإن مجتمع المستقبل يجعل لهذا الوقت أهمية قصوى، نظرًا إلى ضآلة الوقت الذي سيقضيه الإنسان في عمله، وإلى أن هذا العمل ذاته يتخذ طابعًا أشبه باللعب. ففي الوقت الحر تتاح للإنسان فرصة حقيقية لكي يستعيد ذاته، ويحقق التوافق مع نفسه ومع الآخرين، بل إن النشاط الذي يمارسه الإنسان في هذا الوقت سيصبح هو الغاية، على حين أن نشاطه في العمل سيصبح مجرد وسيلة. وأهم عناصر شغل هذا الوقت الحر هي الاستمتاع بالقيم الجمالية، التي هي — في نظر ماركيوز — الشرط الأساسي لاكتمال شخصية الإنسان.
هذه القيم الجديدة تدور كلها حول محور واحد، هو المحور الجمالي. فالحب والسلام والهدوء والتوافق، كل هذه وسائل لتحقيق أعظم قدر من المتعة الجمالية للإنسان. وتصوُّر الإيروس ذاته؛ أي القوة الحيوية لدى الإنسان، يرتبط أوثق الارتباط بالنظرة الجمالية إلى الحياة. وفي هذا الجانب الحاسم من تفكير ماركيوز كان تأثره واضحًا كل الوضوح بماركس الشاب (إلى جانب العنصر الفرويدي بطبيعة الحال)؛ فالسعي إلى مجتمع تصبح فيه الحاجات المادية للإنسان ميسرة، وتقل فيه مشقة العمل إلى أدنى حد، هو خطوة لا بد أن يتبعها غاية عُليا، هي اهتداء الإنسان إلى ذاته من خلال القيم الجمالية؛ أي أن النشاط الجمالي سيصبح في هذه الحالة هو التعبير الحقيقي، الحر، عن ماهية الإنسان.
وهكذا يظهر ماركيوز هنا على أنه مفكر آخر من دعاة «العودة إلى الطبيعة»، ومن أنصار رد اعتبار الحب والخيال والعاطفة إزاء طغيان العقل. والفارق الوحيد بين دعوته إلى اتخاذ القيم الجمالية هدفًا أسمى للحياة الخالية من الكبت، وبين دعوة أنصار العودة إلى الطبيعة التقليديين، هو أن هؤلاء الأخيرين يحلمون بالطبيعة البسيطة الساذجة، والبدائية في بعض الأحيان، على حين أن نزعة ماركيوز الطبيعية ملائمة لعصر التكنولوجيا الرفيعة. والواقع أن نزعات العودة إلى الطبيعة كانت، في كل العصور، رد فعل ساخطًا على المجتمع القائم، وكانت تتشكل وفقًا لطبيعة هذا المجتمع. ومن هنا فإن هذه النزعة قد اتخذت عند ماركيوز شكلًا جماليًّا حسيًّا، يقوم على أساس الوفرة التي يحققها مجتمع شيوعي (بالمعنى العام)، يسوده شعار «من كل حسب قدراته، ولكل حسب حاجته». ووسيلة استعادة الوحدة الأصلية المفقودة بين الطبيعة والإنسان، هي سيادة مبدأ اللذة، وسيطرة القيم الجمالية.
ومن الواضح أن ماركيوز يجعل للفن، في نظرته العامة إلى الجديد، دورًا أساسيًّا، بل إن الثورة التي يدعو إليها قد لا تكون في صميمها إلا ثورة جمالية. مثل هذه المكانة الخاصة التي يحتلها الفن في تفكيره، تجعله جديرًا بوقفة نعرض فيها، بإيجاز، لتصوره العام للفن.
(ﺟ) الفن والثورة
ولو طبقنا ذلك الحكم على الفنون الخاصة لظهرت لنا طبيعتها النافية أو الرافضة بوضوح. ففي الفن المسرحي يتحطم التوحيد بين المشاهد وبين العالم، وتقوم مسافة تسمح باستعادة الحقيقة الأصلية للعالم، ويهتز مركز الأشياء اليومية من حيث هي أشياء مسلِّم بها، ويتهيأ الجو لتصور العالم من خلال روح السلب التي يتعين بعد ذلك تجاوزها. وفي الشعر يتحدث الشاعر، في كثير من الأحيان، عن تلك الأشياء الغائبة التي تجوس مع ذلك العالم وتسري فيه. وهكذا فإن الشاعر، إذ يجعل الغائب حاضرًا، يمارس نوعًا من نفي النفي، شأنه شأن الفكر في مساره، ويهيئ الطريق بدوره «للرفض الأعظم». هذه الاتجاهات تتجلى بوجه خاص عند رامبو، وفي الدادية والسيريالية، وهي اتجاهات أصبح الأدب فيها يرفض ذلك التركيب اللغوي الذي ظل طوال التاريخ يربط بين اللغة الفنية واللغة العادية. وبذلك يعمل الشعر على تقويض العالم وخلق تجربة جديدة، غير مألوفة، تؤدي إلى إقامة علاقة جديدة بين الإنسان والطبيعة.
ومع ذلك فإن آراء ماركيوز عن الفن بوصفه قوة ثورية رافضة للنظام القائم، تنطوي على قدر مفرط من التعميم، وتتعرض لكل ما يتعرض له التعميم السريع من انتقادات. ذلك لأن ما يسمى بخروج الفن عن القوانين القائمة، هو نوع من المغالطة التي تستغل الخلط، في استخدام لفظ «القوانين»، بين القوانين السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية من جانب، وقوانين الإدراك أو رؤية العالم من جانب آخر، فالأولى قوانين متغيرة يمكن التمرد عليها عندما تكون ظالمة، أما الثانية فهي مشتركة بين البشر، لها قدر كبير من الثبات الذي تتسم به قوانين علم النفس عامة، وتظل صحيحة في ظل أي نظام، وأي وضع اجتماعي. فإذا كان الفن يخرج عن القوانين بمعناها الثاني؛ لأنه يمنحنا رؤية غير عادية، وإدراكًا غير مألوف، للعالم، فإن هذا لا يجعل منه على الإطلاق قوة تثور ضد القوانين بمعناها السياسي أو الاجتماعي.
ومثل هذا يصدق على الربط بين استخدام لغة غير اللغة العادية في الشعر، وبين الثورة على الوضع القائم. فليس ثمة علاقة على الإطلاق، في رأينا، بين «اللغة العادية» وبين الأوضاع الراهنة، ومن المستحيل أن يوصف الأديب الذي يقبل التعبير بهذه اللغة العادية بأنه يؤيد النظام القائم لهذا السبب. والواقع أن رفض اللغة العادية هو أمر لا يتيسَّر إلا لفئة محدودة جدًّا من الأدباء أو الشعراء ومن القرَّاء الذين يمكنهم فهم لغتهم الجديدة؛ فهو في أساسه ظاهرة أرستقراطية، بينما الثورة بطبيعتها ظاهرة جماهيرية تحتاج إلى وسيلة للتفاهم مع الجموع الغفيرة من البشر. ومن هنا ففي وسعنا أن نقول إن الشاعر عندما يبتدع لنفسه لغة جديدة (قد تكون لها قيمتها الكبرى من الوجهة الجمالية الخالصة) يتخذ موقفًا انعزاليًّا يتنافى، موضوعيًّا، مع الروح الثورية. وفي استطاعته، لو شاء أن يكون ثوريًّا بالمعنى الاجتماعي، أن يتخذ موقف الرفض في إطار اللغة اليومية ذاتها، وفي هذه الحالة سيكون رفضه ديالكتيكيًّا يكتشف عناصر السلب الكامنة في هذا العالم من داخله، على حين أن الرفض القائم على التباعد، وعلى خلق لغة مستقلة، هو رفض غير ديالتيكي.
والواقع أن الصورة التي يقدمها ماركيوز لعالم المستقبل المرتكز على قيم الحب والجمال متناقضة في أكثر من جانب؛ ذلك لأن اتخاذ قيم الحب والجمال غايات قصوى لكل نشاط إنساني في هذا العالم سيجعل بعض الناس على الأقل، ممن ليست لديهم ميول جمالية، أو ممن لا يكترثون كثيرًا بالحب، يعيشون في المجتمع الجديد بلا هدف. وإذا كان من الصعب تصور أشخاص لا يهتمون بالحب (من أن أمثال هؤلاء الأشخاص موجودون بالفعل)، فإن من المشاهد فعلًا أن هناك فئة غير قليلة من الناس لا يعني الفن بالنسبة إليها شيئًا مذكورًا، والأرجح أنه سيكون هناك أشخاص كهؤلاء حتى في المجتمع الذي يوفر لأفراده أعظم قدر من الثقافة الجمالية. ومعنى ذلك أن الهدف الذي يضعه ماركيوز للحياة في المجتمع الجديد لا يمكن أن يكون هدفًا شاملًا.
ومن جهة أخرى فإن المجتمع الجديد مبني، باعتراف ماركيوز نفسه، على أساس استمرار الاتجاهات الحالية في التقدم التكنولوجي والآلية الذاتية (الأتمتة)، وازدياد هذه الاتجاهات تقدمًا. على أن في استطاعتنا منذ الآن أن نرى النتائج التي أفضت إليها هذه الاتجاهات في مجال الفن المعاصر، الذي أصبح مغرقًا في التجريد، وفي الابتعاد عن إرضاء الحاجات الوجدانية للإنسان؛ لذلك فإن من المتوقع أن تستمر هذه التيارات الفنية في مجتمع المستقبل، وفي هذه الحالة يصعب جدًّا أن نتصور كيف يمكن أن يكون مثل هذا الفن التجريدي البحت هدفًا أسمى لنشاط الإنسان. فهل الموسيقى الإلكترونية مثلًا (وهي وليدة العصر الإلكتروني) فن يمكنه أن يسهم في استعادة إنسانية الإنسان؟ وهل هي التي ستلبي حاجاته الجمالية؟ لا جدال في أنه سيظل هناك تناقض حاد بين الأساس المادي لحياة المجتمع، وهو أساس يفترض فيه زيادة التصنيع والتكنولوجيا تقدمًا، وبين مطلب إرضاء الحاجات الوجدانية والانفعالية الحقيقية للإنسان، وهو المطلب الذي يراد من الفن تحقيقه في مثل هذا المجتمع.