البوذية والأفيال
ذات مرَّةٍ روى بوذا قصة العميان والفيل (كتاب أودانا). قال إن أحد الملوك السابقين لمدينة سافاتي أمرَ بجمْع كل رعاياه العميان وتقسيمِهم إلى مجموعات. وبعد ذلك أُخذت كلُّ مجموعةٍ إلى أحد الأفيال ووُضعتْ أمام جزءٍ معينٍ من أجزاء جسم ذلك الحيوان — كالرأس والخرطوم والأرجل والذيل، وهكذا. وفيما بعد طلب الملك من كل مجموعةٍ أن تَصِفَ طبيعة ذلك الحيوان. فأما الذين لمسوا رأس الفيل فوصفوه بأنه جرَّة ماء، وأما الذين لمسوا أذنَي الفيل فشبَّهوه بمروحة ذَرِّ الغِلال، وأما أولئك الذين لمسوا قدم الفيل فقالوا إنه يُشبه العمود، وأما الذين لمسوا نابه فأصرُّوا على أن الفيل يُشبه الوتد. وأخذت تلك المجموعات تتناقش فيما بينها وتُصر كلُّ مجموعةٍ على أن تعريفها هو الصحيح وأن الآخرين مخطئون.
إن دراسة البوذية على مدار القرن الماضي أو نحو ذلك كانت تشبه مقابلة الرجال العميان بالفيل من عدة نواحٍ؛ فطلبة البوذية اعتادوا التمسُّك بجزءٍ صغيرٍ من منهج البوذية، وافترضوا أن استنتاجاتهم عن المنهج بأكمله صحيحة. وفي أغلب الأحيان كانت الأجزاء التي تمسَّكوا بها تشبه إلى حدٍّ ما أنياب الفيل — فهي جزء بارز، لكنه لا يُمثِّل الحيوان ككلٍّ. ونتيجةً لذلك، انتشرت تعميمات كثيرة خاطئة ومتسرِّعة عن البوذية تصفها بأنها على سبيل المثال «سلبية»، و«منقطعة عن مُتَع الدنيا»، و«متشائمة»، وغير ذلك. وعلى الرغم من أن هذا الميلَ إلى المبالغة في التعميم أصبح الآن أقلَّ شيوعًا، فإنه ما زال موجودًا في التراث القديم الذي يميل مؤلِّفوه إلى تضخيم سماتٍ معينةٍ في تعاليم البوذية، أو افتراض أن السمات التي كانت حقيقيةً عن البوذية في إحدى الثقافات أو الفترات التاريخية تنطبق صِحتها في كل مكانٍ آخر.
ومن ثَمَّ فإن أول درسٍ مستفادٍ من قصة العميان هو أن البوذية موضوع كبير ومعقَّد، ويجب أن نحذر من التعميمات المستندة إلى أساس معرفة جزءٍ معين. وبصفةٍ خاصة، فإن العبارات التي تبدأ بقول: «يعتقد البوذيون …» أو «تُعلِّم البوذية …» يجب أن تُعامل بحذر. ونحتاج إلى إضفاء صفاتٍ معينةٍ على تلك الجُمل من خلال التساؤل عن «هُوِيَّة» البوذيين المشار إليهم، و«المنهج» البوذي المتَّبَع، و«المذهب» أو الطائفة التي ينتمون إليها … وهكذا، قبل أن تصبح تلك العباراتُ ذاتَ قيمة. وقد يذهب بعض الدارسين إلى أبعدَ من ذلك ويزعمون أن الظاهرة العابرة للثقافات المعروفة لدى الغرب باسم «البوذية» (أصبحت كلمة «البوذية» مألوفة في الاستخدام الغربي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر) ليست كيانًا واحدًا على الإطلاق، وإنما هي مجموعة من المناهج الفرعية. وفي هذه الحالة، ربما يجب التحدُّث عن «أنواع من البوذية» وليس عن «بوذية واحدة». ورغم ذلك، لعلَّ أفضل تفسير لميل هؤلاء الأكاديميين إلى «تفكيك» البوذية على هذا النحو هو أنه ردُّ فعل لميل القدماء إلى «بَيان جوهر» البوذية؛ أي افتراض أن البوذية كيان موحَّد متماثل مهما اختلف المكان. أما الحل الوسط هنا فهو اعتبار أن البوذية تُشبه الفيل الموجود في القصة؛ فهي مجموعة غريبة من أجزاءٍ مستبعدةٍ إلى حدٍّ ما، لكنها أيضًا تمتلك جسمًا أساسيًّا ترتبط به تلك الأجزاء.
أما الدرس الثاني الذي يمكن تَعلُّمه من هذه القصة — وهو درس أقلُّ وضوحًا لكنه ليس أقلَّ أهمية — فيتمثل في وجود أنواعٍ كثيرةٍ للعمى؛ فلقد أوضحَتِ تجارِبُ الإدراك البصري أن العقل يؤثِّر كثيرًا على ما نراه. وإلى حدٍّ كبيرٍ يرى البشر ما يتوقَّعون رؤيته — أو ما يرغبون في رؤيته — ويحجبون الأشياء التي لا تتفق مع نموذج الواقع الموجود في مُخيِّلتهم. وفي الثقافات المختلفة يُربَّى الأطفال على الرؤية والفهم بطرقٍ مختلفة، ولهذا السبب في أغلب الأحيان تبدو تقاليد الآخرين مثيرةً أو غريبةً في عيون الغرباء عن ثقافةٍ ما، بينما تبدو طبيعيةً للغاية في عيون أبناء هذه الثقافة. وعند التعامل مع الثقافات الأخرى، ربما نتخيل وجودَ معتقداتنا وقِيَمنا في تلك الثقافات ثم «نكتشف» في مصدرها صحة ذلك على نحوٍ يثير الدهشة. وبهذه الطريقة أصبحت البوذية هي بالضبط ما نأمل (أو نخشى) أن تكون عليه. حتى الخبراء من الناس ليسوا محصَّنين ضد النظر للوراء و«إضفاء» افتراضاتهم الخاصة على البيانات. كثير من الباحثين الغربيين فسَّروا البوذية بطرقٍ تحمل بصمات معتقداتهم وتَنشئتهم على نحوٍ واضحٍ أكثر مما تحمل بصمات البوذية نفسها.
وبالإضافة إلى ميل الأفراد إلى إضفاء تصوُّراتهم الخاصة على الثقافة الجديدة على نحوٍ يؤدِّي إلى إحداث تأثيراتٍ ذاتيةِ الطابع مختلفةِ الأشكال على تلك الثقافة، ثَمَّة خطر آخر؛ ألا وهو التنميط الثقافي الذي يظهر عند أي لقاءٍ مع «الآخر». وقد لفت الكُتَّاب المعاصرون، أمثال إدوارد سعيد، الانتباهَ إلى ميل الغرب في فنِّه وأدبه إلى تكوين «شرق» يكون انعكاسًا لظِلِّه أكثر من كونه تصويرًا دقيقًا للحقيقة الواقعية. ولسنا في حاجةٍ إلى قَبول نظرية المؤامرة المعقَّدة التي يُقدِّمها سعيد، والتي تقضي بأن الغرب قَوْلَبَ الشرقَ فكريًّا كتمهيدٍ لاستعماره سياسيًّا، كي نُدرِك أننا عند الشروع في دراسة الثقافات الأخرى لا يمكننا إلا أن نتأثَّر بالتوجُّهات والافتراضات المتبقية في ثقافتنا؛ تلك التوجُّهات والافتراضات التي نكاد نكون غيرَ مدركين وجودَها. وفيما يتعلق بدراسة البوذية، يجب حينئذٍ الانتباهُ إلى خطر «العمى الثقافي»، وسوء الفهم الذي يمكن أن ينجم عن افتراض أن التصنيفات والمفاهيم الغربية تنطبق على الثقافات والحضارات الأخرى.
هل البوذية دين؟
تواجهنا مشكلات كهذه بمجرد أن نحاول تحديد ماهية البوذية. هل هي دين؟ هل هي فلسفة؟ هل هي أسلوب حياة؟ هل هي نظام أخلاقي؟ ليس من السهل تصنيف البوذية تحت أي اسم من تلك الأسماء؛ إذ تُمثِّل البوذية تحديًا يجعلنا نعيد النظر في بعض هذه الأسماء المذكورة؛ فعلى سبيل المثال، ما المقصود ﺑ «الدين»؟ سيقول معظم الناس إن الدين معتقَد مرتبط بالإيمان بالرَّبِّ. والرَّبُّ بدوره يُفهم على أنه كائن أسمى خَلَقَ العالمَ والمخلوقاتِ الموجودةَ به. علاوةً على ذلك، يهتمُّ الرَّبُّ عن كثبٍ (أو ظل يهتم إلى الآن على أقلِّ تقدير) بمسيرة التاريخ البشري، من خلال إقامة المواثيق الإلهية، والإعلان عن إرادته بشتى الطرق، وبالتدخُّل عن طريق المعجزة في الأوقات الحرجة.
إذا كان الإيمان بالرَّبِّ على هذا النحو هو جوهر الدين، فمِن ثَمَّ لا يمكن أن تكون البوذية دينًا؛ فالبوذية لا تحمل هذا المعتقَد، بل على العكس تُنكر وجود إلهٍ خالق. وفي ضوء التصنيفات الغربية المتاحة، فإن هذا الأمر يجعل البوذية «إلحادية». ورغم ذلك، فإن إحدى مشكلات هذا التصنيف تتمثَّل في أن البوذية تعترف بوجود كائناتٍ خارقةٍ للطبيعة مثل الآلهة والأرواح. والمشكلة الأخرى هي أن البوذية لا تحمل الكثيرَ من السمات المشتركة مع الأيديولوجيات الإلحادية الأخرى كالماركسية على سبيل المثال. ومن هذا المنطلق، ربما يكون التصنيف على أساس «الألوهية» و«الإلحادية» غيرَ مناسب في هذا الصدد. واقترح البعضُ الحاجةَ إلى تصنيفٍ جديدٍ — ألا وهو دين «لا إلهي» — كي تَدخل البوذية تحت مظلة الأديان. وثَمَّةَ احتمال آخر، ألا وهو أنَّ تعريفنا الأصلي للدين هو ببساطةٍ تعريفٌ ضيق الأفق. فهل يمكن ألَّا تكون فكرةُ الإله الخالق، التي تُعد سمةً أساسيةً في أحد الأديان — أو في مجموعةٍ من الأديان — هي السمةَ المميزةَ الحاسمةَ في كل الأديان؟ وعلى الرغم من أن هذه الفكرة محورية على نحوٍ مؤكَّدٍ للديانات «الإبراهيمية» أو الأديان «السامية»؛ أي اليهودية والمسيحية والإسلام، فربما توجد أنظمة عقائدية أخرى — مثل الكونفوشيوسية والطاوية — تشبه الدين الغربي في نواحٍ كثيرةٍ لكنها تفتقر إلى هذا المُكوِّن.
الأبعاد السبعة للدين
منذ أن بدأ جديًّا مجال الأديان المقارَنة بعد الحرب العالمية الثانية، مثَّلَتِ البوذية لُغزًا للدارسين الذين حاولوا تقديم تعريفٍ مقبولٍ لهذا الموضوع. وكان من أنجح أساليب التعامل مع هذه المشكلة ذلك الأسلوبُ الذي تبنَّاه نينيان سمارت الذي حلَّل ظاهرة الدين إلى سبعة أبعادٍ رئيسيةٍ بدلًا من تقديم تعريفٍ للموضوع؛ وبذلك يمكن القول بأن الأديان لديها بُعْد عملي وطقسي، وبُعد تجريبي وعاطفي، وبُعْد سردي أو أسطوري، وبُعْد عقائدي وفلسفي، وبُعْد أخلاقي وتشريعي، وبُعْد اجتماعي ومؤسسي، وبُعْد مادي. وما يَلفت النظر في هذا الأسلوب هو أنه لا يختصر الدين في أيٍّ من هذه المبادئ أو المعتقدات، أو يزعم أن كلَّ المؤمنين بالأديان لديهم قاسم مشترك؛ فالبيانات المأخوذة من مختلِف الثقافات والفترات التاريخية توضح أنه في العموم لا يوجد بينها قاسم مشترك. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أنه توجد مجموعة من الأشياء التي تُشكِّل مجتمِعةً الظاهرةَ التي نُسميها «الدين»؛ فما وضْع البوذية فيما يتعلق بتلك الأبعاد السبعة؟ إن تحليل البوذية من خلال كل بعدٍ من هذه الأبعاد تباعًا سوف يميزنا عن الرجال العميان؛ إذ سنتمكَّن من استكشاف سبعة أجزاءٍ من الفيل بدلًا من جزءٍ واحدٍ فقط.
البُعد العملي والطقسي
البُعد العملي والطقسي أقلُّ وضوحًا في البوذية منه في الأديان التي تربطها علاقةٌ قوية بالأسرار المقدَّسة مثل اليهودية أو المسيحية الأرثوذكسية. وليس للرهبان البوذيين دور كهنوتي — فهم ليسوا وسطاء بين الرَّبِّ والبشر — كما أن ترسيمَهم رهبانًا لا يمنحهم أيَّ قوًى خارقةٍ ولا أيَّ سلطةٍ. ورغم ذلك، تشتمل البوذية على طقوسٍ ومراسمَ ذاتِ طبيعةٍ عامةٍ وخاصةٍ أيضًا، وكثير من تلك الطقوس يتعلق بحياة الرهبان؛ فطقوس الانضمام إلى الرهبان تتم عندما يصبح الشخص راهبًا (فيُحلَق رأسه على سبيل المثال)، وتوجد طقوس دورية مثل التدريب الجماعي على قواعد الرهبنة (الباتيموكا) في أيام البدر والهلال في كل شهر. ومن الطقوس السنوية المهمة مهرجان «كاتينا» الذي يُقدِّم العامة فيه موادَّ جديدةً لصُنع الحبال بعد أن ينتهيَ الرهبان من اعتكافهم خلال موسم المطر. يعد المعبد المحلي جزءًا من مجتمعٍ حيٍّ، ويلعب الرهبان دورًا في الرفاهة الاجتماعية، واقتصاد المجتمع المحلي وسياسته. وعلى الرغم من أن العقيدة البوذية تَمقُت الطقوس الأخرى المتعلقة بدورة الحياة، فإن هذه الطقوس من الناحية العملية أصبحت مقبولةً؛ وبذلك فإن طقوس الحماية والتعبُّد في المعابد أو في الأماكن المقدَّسة أصبحت جزءًا من تقاليد ما قبل الولادة وما بعد الولادة في كل أنحاء العالم البوذي. وبالمثل فإن البركات البوذية أو وجود الرهبان البوذيين قد يُضفي طابعًا بوذيًّا على الطقوس التقليدية والحديثة لدورة الحياة، بدايةً من تَعلُّم قراءة الأبجدية حتى التخرُّج في التعليم الثانوي أو الجامعة. وفي تايلاند، يُعدُّ الترسيم كراهبٍ من طقوس البلوغ لدى الذكور، وعادةً تسبق بركاتُ دير الرهبان حفلاتِ الزفاف. وفي كل مكانٍ آخر، ولا سيما في العصور الحديثة، أصبح الرهبان والرموز البوذية يلعبون دورًا أكبر في مراسم الزواج. وقد يصبح أيضًا التقاعد من الحياة الصاخبة بؤرةَ اهتمام الطقوس البوذية إذا تزامن ذلك، كما يحدث عادةً، مع الترسيم كراهبٍ أو تَبنِّي الوصايا الثماني أو الوصايا العشر.
دين بغير رب؟
بعض الدارسين نَفَوْا أن تكون البوذية دينًا؛ لأن البوذيين لا يؤمنون بوجود كائنٍ أعلى أو روح شخصية. لكن هل هذا حُكْم قائم على تعريفٍ ضيق الأفق لمفهوم «الدين»؟ وفقًا لنينان سمارت، فالأديان لديها «الأبعاد السبعة» التالية. وإذا صحَّت وجهة نظر سمارت، فسيبدو تصنيف البوذية كدينٍ مبرَّرًا.
(١) البُعد العملي والطقسي.
(٢) البُعد التجريبي والعاطفي.
(٣) البُعد السردي والأسطوري.
(٤) البُعد العقائدي والفلسفي.
(٥) البُعد الأخلاقي والتشريعي.
(٦) البُعد الاجتماعي والمؤسسي.
(٧) البُعد المادي.
توجد اختلافات كبيرة بين الطقوس في المذاهب البوذية المختلفة، وقد تضافر عامل تأثير التقاليد المحلية مع طلب العوام من البوذيين (وفيهم هؤلاء الموجودون في الغرب) وأدَّيا إلى ظهور طقوس جديدة (مثل طقس الزواج) لتُوازيَ تلك الموجودة في الأديان الأخرى. ويبدو أن التأثير متبادَل بين الطرفين؛ فهناك دلائل على أن طقوسًا بوذيةً معينةً، مثل طقس «ميزوكو كويو» الذي يتم في اليابان عقب الإجهاض، أصبحت جزءًا من بعض الطقوس الغربية.
البُعد التجريبي والعاطفي
البُعد التجريبي والعاطفي للبوذية — البوذية بوصفها تجربةً حياتيةً — هو أمر بالغ الأهمية. إن تجربة بوذا الشخصية في التنوير هي أساس المنهج البوذي بالكامل. وفي أغلب الأحيان يستحضر تجربته الخاصة ليستشهد بها على معتقداته، ويقول إن التعاليم غير المدعومة بتجربةٍ شخصيةٍ هي تعاليم قليلة القيمة. ويشتمل تنوير بوذا على بُعدٍ عاطفيٍّ أيضًا يتَّخذ صورة الشفقة الشديدة على الآخرين، وهذا هو ما حفَّزه على نشْر تعاليمه المسمَّاة دارما. ونظرًا لشفقته على البشر بسبب معاناتهم، فقد قضى بوذا جزءًا كبيرًا من حياته في نشر تعاليمَ أدرك أنها كانت «صعبة الاستيعاب وصعبة الفهم وغامضة بحيث لا يدركها إلا الحكماء.» كي يفيد قليلًا من البشر «في عيونهم قليل من التراب لكنهم يعيشون في ضياعٍ بسبب عدم الاستماع إلى تعاليم دارما» (كتاب ماهايانا).
يُشكِّل البُعد التجريبي أهميةً بالغة في البوذية؛ لأن البوذية تَعتبر الحياة الدينية في جوهرها مسارًا لتحويل الذات؛ فالتمارين الروحانية مثل التأمُّل تُولِّد حالاتِ وعيٍ متغيرةً يمكن أن تُعجِّل من التطوُّر الروحي. وفيما يتعلق بأهمية التأمل، فمن الممكن تشبيهه بالصلاة في المسيحية، على الرغم من أنه عادةً ما يكون لكلٍّ من الصلاة المسيحية والتأمُّل البوذي أهدافٌ مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، عندما يتأمَّل البوذيون فَهُم لا يطلبون تلبية أمنيَّاتهم من الرَّبِّ، بل يحاولون الحصول على الحكمة والشفقة.
إن هذا التأكيد على البُعد التجريبي الداخلي للممارسة الدينية يربط البوذية بالتقاليد الصوفية للهند القديمة مثل اليوجا. وفي اليوجا تُستخدم تمارينُ كثيرةٌ — مثل السيطرة على الوضعية والتنفُّس — من أجْل كسْب السيطرة على الجسم والعقل واستخدام قواهما الكامنة. وسنرى في الفصل التالي أن بوذا جرَّب بعض هذه الطرق بنفسه. وهذه الأساليب ليست مقتصرة على الهند فحسب، بل موجودة في أجزاءٍ أخرى من العالم. وتوجد شواهد حاليًّا على عودة الاهتمام بالبُعد الصوفي في المسيحية، وهو تطوُّر نابع إلى حدٍّ ما من الاهتمام المعاصر بالروحانية الهندية.
البُعد السردي والأسطوري
كما هي الحال مع الأديان الأخرى، فَلِلْبوذية نَصيبٌ من الأساطير والحكايات. و«الأسطورة» في هذا الصدد لا يُقصد بها شيء مزيف، بل الأساطير هي القصص التي تتَّسمُ بقوةٍ مثيرةٍ نظرًا لقدرتها على العمل على عدة مستوياتٍ في الوقت نفسه. وهذه الأساطير لها محتوًى سرديٌّ، لكنَّ لها أيضًا — كما الأمثولة — محتوًى مجازيًّا يمكن فهمه وتفسيره على عدة أوجه؛ فعلى سبيل المثال، اعتقد فرويد أن أسطورة أوديب — الذي قتل أباه وتزوَّج أمه — تحتوي على حقائقَ عالميةٍ مهمةٍ عن الجنس لدى البشر وعن العقل اللاواعي. وفي بعض الأحيان يكون من الصعب معرفة إن كان محتوى الأسطورة يجب أن يُفهم بمعناه الظاهري أم لا. وأولئك الذين يؤمنون بالحقيقة الحرفية للكتاب المقدَّس سوف يميلون إلى قراءة قصة الخلق في سِفر التكوين على أنها سرْد حقيقي للطريقة التي بدأ بها العالم. وقد يفضِّل آخرون النسخةَ العلمية للأحداث مع التسليم بأن سِفر التكوين يكشف حقيقةً عميقةً عن العلاقة بين الرَّبِّ والكون. والبوذية القديمة لها «أسطورة خلْق» خاصة بها مذكورة في خطب «أجانيانيا»، ويوجد الكثير من السِّيَر الشائعة مثل قصص «جاتاكا»، وهي مجموعة من الحكايات الأخلاقية عن الحيوات السابقة لبوذا. وفي بعض هذه الحكايات تكون الشخصيات من الحيوانات، لكن ليس على غرار خرافات إيسوب، وفي النهاية يكشف بوذا أنه كان الشخصية الرئيسية في حياةٍ سابقة.
كثير من الوقائع المثيرة التي تحتوي على الخوارق يُثري التراث البوذي، وقد أصبحَت تلك الوقائع أكثرَ مبالغةً وتكلُّفًا مع مرور القرون. حتى في المصادر القديمة تظهر الآلهة والأرواح في كثيرٍ من الأحيان. وعادةً ما يتم تصوير تلك الآلهة والأرواح في الفن والأدب البوذي على أنها تُشكِّل جزءًا من الجمهور في بعض الوقائع المهمة في حياة بوذا. وتروي إحدى القصص المثيرة كيف تَعارك بوذا قبل تنويره مع مارا، الشرير، وحقق نصرًا كبيرًا عليه وفرَّق جيوشه. وتوجد أيضًا بعض القصص والوقائع المتسلسلة البعيدة عن الإثارة التي تروي تاريخ البوذية في ثقافات مختلفة، لكن تلك القصص والوقائع تحتوي أيضًا على سمات خيالية.
البُعد العقائدي والفلسفي
لا يستخدم البوذيون في آسيا مصطلح «البوذية» لوصف دينهم، ويشيرون إليه إما باسم «دارما» (وتعني «القانون») وإما باسم «بوذا ساسانا» (وتعني «تعاليم بوذا»). وربما لا يروق للبعض منهم استخدام مصطلح «العقيدة» لوصف مفاهيمهم، من منطلق أن هذا المصطلح له إيحاءات مرتبطة بالدين الغربي. ورغم ذلك، إذا كان ما نفهمه من كلمة «عقيدة» هو الصياغة المنهجية للتعاليم الدينية في شكل متماسك من الناحية الفكرية، فلن يبدوَ من قبيل المبالغة استخدامُ هذا المصطلح في البوذية. والتعاليم العقائدية الأساسية محفوظة في مجموعةٍ من القضايا المترابطة معروفة باسم الحقائق الأربع النبيلة، التي كوَّنها المؤسس بوذا. وعادةً ما تكون مهمة دراسة تلك المعتقدات وتوضيحها وتفسيرها مسئوليةَ صفوةٍ مثقفةٍ ومتعلِّمة. وفي البوذية تكون مسئولية الحفاظ على النصوص وتفسيراتها ملقاةً على عاتق مجموعةٍ من الرهبان تُسمَّى «سانجا». بَيْدَ أن الرهبان ليسوا جميعًا فلاسفة؛ ففي التقليد البوذي يوجد أشخاص شعروا أن التجربة الصوفية — تلك المكتسَبة من خلال التأمُّل — كانت الطريق لتحرُّرٍ مؤكَّدٍ على نحوٍ أكبر من طريق حفظ النصوص. على الرغم من ذلك، وعلى مدار القرون، استثمرت البوذية جهدًا فكريًّا هائلًا في الدراسة العقائدية، ويمكن رؤية ذلك من خلال النصوص والأطروحات المطوَّلة المحفوظة في كثيرٍ من اللغات الآسيوية. ونسبة قليلة جدًّا فقط من هذا التراث هي ما تمت ترجمتها، على الرغم من أن كثيرًا من النصوص ذات الأهمية البالغة متاحٌ الآن باللغة الإنجليزية أو بغيرها من اللغات الأوروبية.
البُعد الأخلاقي والتشريعي
تحظى البوذية باحترامٍ واسعِ النطاق بوصفها واحدةً من الديانات ذات الأخلاقيات العالية. ويُعد المبدأ الأساسي في الأخلاقيات البوذية هو عدم الإيذاء المعروف باسم («أهيمسا»)، ويتجلَّى هذا المبدأ في احترام الحياة؛ ذلك الاحترام الذي تُشتَهَر به البوذية. تحض التعاليم البوذية على احترام كل المخلوقات الحية، سواءٌ البشر أم الحيوانات، وتَعتبر التدمير العمدي للحياة خطأً فادحًا. وقد أدَّت هذه الفلسفة إلى أن أصبح كثير من البوذيين (لكن ليس جميعهم بالتأكيد) نباتيين، وتبنَّوْا مبدأ السلام باعتباره أسلوبًا للحياة. ويلعب مبدأ عدم الإيذاء دورًا إيجابيًّا في شكل فضيلةٍ أخرى من الفضائل البوذية الرئيسية، وهي الشفقة، كما أن الاهتمام بتخفيف المعاناة دفع البوذيين من العوام والرهبان إلى تأسيس المستشفيات، ودور الرعاية، والمدارس، والمؤسسات الخيرية.
النصوص الأولى للبوذية تُدين العنفَ بقوة، واستخدامُ القوة لدعم أهداف الدين — في شكل حروبٍ صليبيةٍ أو «جهادٍ» على سبيل المثال — يبدو أمرًا غير مفهوم على الإطلاق بالنسبة إليهم. وهذا لا يعني القولَ بأن السجل التاريخي للبوذية ناصع لا تشوبه شائبة؛ حيث توجد فترات من التاريخ الآسيوي استُغلتْ فيها البوذية لأغراضٍ سياسيةٍ، واستُخدمتْ لتبرير الحملات العسكرية. ورغم ذلك، كانت تلك الحوادث أقلَّ من أن تُقارن بالحروب الصليبية والحروب الدينية في العصور الوسطى وأوائل عصر الحداثة في أوروبا. وفي القرن العشرين تبنَّى البوذيون في التبت سياسةَ المقاومة السلمية لغزو أراضيهم من قِبل الصينيين في عام ١٩٥٠، وبعد هذا الغزو قُدِّر عدد الذين تُوُفُّوا من سكان التبت بنحو مليون، فضلًا عن تدمير ستة آلاف دير. كما نشأت أيضًا في اليابان حركة قوية داعية إلى السلام في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
الأبعاد الخمسة التي ذكرناها حتى الآن كلها ذات طبيعة مجردة، والبعدان الأخيران متعلقان بالدين وتجسيده في شكله الاجتماعي والمادي.
البُعد الاجتماعي والمؤسسي
عرَّف ألفريد نورث وايتهيد الدينَ بأنه «ما يفعله المرء في عزلته.» لكن الدين أكثر من مجرد تجربة شخصية داخلية (في ضوء إطارنا الحالي، يمكننا أن نرى أن هذا التعريف يُركِّز كثيرًا على البُعد التجريبي). وفي العادة يشعر أتباع الدين بأنهم جزء من جماعة، وفي الغالب يَرَوْنَ أن لذلك أهميةً سياسيةً ودينيةً أيضًا، كما هي الحال في مفهوم «العالم المسيحي» في العصور الوسطى. وهذه النظرة واضحة جليَّة في الإسلام أيضًا، الذي يرى أن الشريعة تتحكَّم في كلِّ مناحي الحياة العامة والخاصة.
النواة الاجتماعية للبوذية هي جماعة الرهبان والراهبات («سانجا») التي أسسها بوذا. وعلى الرغم من أن الجماعة البوذية هي المؤسسة الاجتماعية المحورية، فإن البوذية ليست دينًا مقتصرًا على الرهبان؛ فالمصادر القديمة تُقدِّم تصنيفًا اجتماعيًّا للبوذية يفيد بأنها: «الجماعة الرباعية» التي تتكوَّن من الرهبان والراهبات والتلاميذ المتدينين من عوام البوذيين من الرجال والنساء (ويُطلَق عليهم «أباساكا/أباسيكا»). وما يَلفت النظر في هذا الصدد هو الشمولية والاعتماد المتبادَل بين الأفراد، سواءٌ بين الذكور والإناث أم بين العوام والرهبان. وعلى الرغم من وجود فارقٍ واضحٍ بين حياة الرهبنة والحياة العلمانية في كثيرٍ من مناحي العالم البوذي، فلقد وُجدت محاولات لتشويش أو إزالة الحواجز بين الحياتين، وقد لاقى هذا الميل أكبر قدرٍ من النجاح في اليابان.
يمكن أن يتخذ النظام الاجتماعي لأحد الأديان أشكالًا عدة، بدايةً من مجموعاتٍ صغيرةٍ يقودها معلمون وصولًا إلى مؤسساتٍ ذات هيكلٍ هرميِّ التسلسُل يضم ملايينَ من الأتباع. وتوجد في البوذية عدة تنويعاتٍ تنظيمية. وفي الأساس كان بوذا معلمًا متجولًا جذب الأتباع من خلال جاذبية شخصيته. ومع تزايُد أعداد هؤلاء الأتباع تكوَّنت بنية مؤسسية أساسية في شكل جماعةٍ من الرهبان لها قواعد وضوابط. ورغم ذلك، فقد أعلن بوذا أنه لا يَعتبر نفسه قائدَ هذه الجماعة، ورفض تعيين خليفةٍ عند وفاته، وبدلًا من ذلك، شجَّع أتباعه على العيش وفقًا لتعاليمه (الدارما) ووفقًا لحُكم الرهبنة، وأن يكونوا «مصابيح (أو جُزرًا) بعضهم لبعض» (كتاب ديجا). وعلى الرغم من أن بلدانًا عديدة لديها سلطات دينية، فإن البوذية لم يكن لديها قط زعيم منفرد، ولم يكن لديها منصب مركزي يُماثل منصب البابا في المسيحية. ونظرًا لغياب السلطة المركزية، كلما نشبت الخلافات على أمور العقيدة أو الممارسة، مالت البوذية إلى الانقسام بسهولة. وتتحدَّث سجلات البوذية عن ثمانيَ عشْرةَ طائفةً وُجدت خلال قرنين بعد وفاة بوذا، وقد ظهر عدد أكبر من تلك المذاهب منذ ذلك الحين.
الطوائف والمذاهب البوذية
على مدار القرون تكوَّنت العديد من الطوائف والمذاهب البوذية. ويوجد فرق كبير بين البوذية المحافظة الموجودة في جنوب آسيا في بلدانٍ مثل سريلانكا وبورما وتايلاند، وبين مذاهب الشمال المجدِّدة في العقيدة الموجودة في التبت وآسيا الوسطى والصين واليابان. في جنوب آسيا يشيع مذهب التيرافادا، ويعنى هذا الاسم «التعاليم الملزمة» أو «التعاليم الأصلية»، على الرغم من أن الترجمة الشائعة له هي «عقيدة الأقدمين». ويُعتبر هذا المذهب نفسه حاضنًا للتعاليم القديمة الأصلية التي تعود إلى بوذا نفسه. أما مذاهب شمال آسيا فتنتمي إلى حركة تُعرف باسم ماهايانا، وتعني «العربة الكبرى». ويُعرِّف الأفراد البوذيون أنفسَهم باعتبارهم تابعين لإحدى هاتين «العائلتين»، على النحو الذي يُعرِّف به المسلمون أنفسَهم باعتبارهم إما سنة وإما شيعة، أو على النحو الذي يُعرِّف به مسيحيُّو الغرب أنفسَهم باعتبارهم إما بروتستانتيين وإما كاثوليكيين.
وفيما يتعلق بالنظام الاجتماعي، يبدو أن بوذا قد فضَّل النظام الجمهوري من النوع المستخدَم بين أتباعه. وشجَّع الرهبان على عقد «اجتماعات كاملة ومتكررة» (كتاب ديجا) واتخاذ القرارات بالإجماع. ويختلف النظام الاجتماعي في البوذية من ثقافةٍ إلى أخرى، وقد أظهرتِ البوذية قدرًا عاليًا من المرونة في التكيُّف مع تقاليد الثقافات الأصلية التي احتكَّت بها. ومع انتشار البوذية في الغرب، فإن من المتوقَّع أن تتطوَّر الأشكال الديمقراطية للنظام الاجتماعي؛ لأن الجماعات البوذية تُطوِّر نظمًا اجتماعية تناسب احتياجاتها.
البُعد المادي
البُعد السابع والأخير مشتق إلى حدٍّ كبيرٍ من البُعد الاجتماعي؛ فالبعد المادي يشمل الأشياءَ التي تتجسَّد فيها روح الدين، مثل: الكنائس والمعابد والأعمال الفنية والتماثيل والمواقع المباركة والأماكن المقدسة مثل أماكن الحج. وفي الهند، كثيرٌ من الأماكن المرتبطة بحياة بوذا أصبح مراكز حج مهمة، مثل مكان مولده ومكان تنويره، والحديقة التي ألقى فيها أُولى خُطبه. وفي أماكنَ أخرى في آسيا توجد مواقع بوذية عديدة ذات أهمية أثرية وتاريخية وأسطورية. وتشمل هذه الأماكن المنحوتات الصخرية العملاقة، مثل تلك الموجودة في بولوناروا في سريلانكا، وباميان في أفغانستان، ويون كانج في الصين. أما الأثر الأكثر شيوعًا وتذكيرًا بالبوذية فهو «ستوبا» واسع الانتشار، وهو أثر على شكل قبة، لكنه تحت تأثير أساليب العمارة في شرق آسيا تَحوَّل إلى مبنى الباجودا. وتحتل النصوص من الآثار الأخرى أهميةً بارزة في البوذية؛ فالنصوص الدينية تُعامَل بقدرٍ هائلٍ من الاحترام نظرًا لأنها تضم تعاليم بوذا وتُجسِّد حكمته. ويعتبر نسخ أو إلقاء أو حفظ هذه النصوص نشاطًا دينيًّا، وكذلك عملية ترجمة تلك النصوص إلى لغات أخرى.
ملخص
يمكننا أن نرى مما سبق أن الدين عبارة عن ظاهرةٍ معقدةٍ لا يمكن أن يوفِّيَها حقَّها تعريفٌ على غرار تلك التعريفات الموجودة في القواميس، ولا سيما عندما يكون ذلك التعريف نابعًا تمامًا من التجربة الدينية للغرب. رغم ذلك، وبمجرد أن نبدأ في التفكير في الدين باعتباره كيانًا له أبعاد متعددة، فإنه يصبح من السهل رؤية كيف أن البوذية — على الرغم من سماتها الغريبة والمميزة — تأخذ مكانها وسط عائلة الأديان العالمية. وبالعودة إلى سؤالنا الأصلي، يمكننا أيضًا أن نرى لماذا كان من غير المناسب تعريف البوذية على أنها مجرد فلسفةٍ أو أسلوبِ حياةٍ أو نظامٍ أخلاقي؛ فهي تضم كلَّ هذه الأمور، وفي بعض الأحيان يبدو أنها تُقدِّم نفسها بإحدى هذه الطرق. ومع ذلك، يعتمد الأمر إلى حدٍّ كبيرٍ على المنظور الذي تُرى منه البوذية وعلى مقدار تجاهل بقية أبعادها الأخرى. فإذا أراد أحد الأشخاص رؤية البوذية باعتبارها فلسفةً عقلانيةً خاليةً من الخرافات الدينية، فعندها — من خلال التركيز على البُعد العقائدي والفلسفي — يمكن فَهْمُها بهذه الطريقة. وإذا أراد شخص أن يراها في جوهرها سعيًا للتجربة الصوفية — من خلال جعْل البُعد التجريبي بُعدًا محوريًّا لها — يصبح هذا ممكنًا. وأخيرًا، الشخص الذي يريد رؤية البوذية باعتبارها مجموعةً من القيم الأخلاقية الإنسانية سوف يجد أيضًا مبررًا لهذه النظرة من خلال إعطاء الأولوية للبُعد الأخلاقي والتشريعي.
الثقافة المادية
على الرغم من أن البوذية يمكن دراستها من خلال الأبعاد السبعة المذكورة في هذا الفصل كلها؛ فقد اعتمد الباحثون الغربيون الأوائل اعتمادًا يكاد يكون حصريًّا على النصوص البوذية في استقاء المعلومات، ومالوا إلى التأكيد على البُعد العقائدي أكثر من بقية الأبعاد. وحتى العصور الحديثة كان البُعد المادي بصفةٍ خاصةٍ مهمَلًا إلى حدٍّ كبير؛ مما أعطى انطباعًا عن البوذية مشوَّهًا ومنزوعًا من سياقه. وقد أوضح الباحثون أن هذا التوجُّه ربما يكون متأثرًا بالنزعة البروتستانتية التي تهتم كثيرًا بالنصوص باعتبارها موضع «الدين الحقيقي» وما تبع هذه النزعة من عدم تقديرٍ للمقتنيات الدينية والممارسات الشعبية. وعلى الرغم من أن دراسة النصوص الدينية ما زالت مهمة، فإن باحثي البوذية يُحوِّلون اهتمامَهم اليومَ على نحوٍ متزايدٍ إلى المقتنيات المادية ودورها في الممارسة الدينية. وتشمل هذه المقتنيات: النقوش، والعملات المعدنية، والصور، والرموز، وأدوات الطقوس، والمسابح، والتمائم، والأضرحة، وصناديق الذخائر الدينية، وملابس الطقوس، وشهادات الترسيم، والسجلات، ومحفوظات الأديرة مثل إيصالات التبرعات وإقرارات التركات. إن مثل هذا النوع من المقتنيات والسلع يشيع وجوده في الحياة الدينية ويلعب دورًا مهمًّا في بناء الهُوية البوذية. وفي أغلب الأحيان تخبرنا هذه المقتنيات عن الممارسات والمعتقدات البوذية الحقيقية على نحوٍ أكبر مما تخبرنا به الروايات المحفوظة في النصوص الدينية.
لقد ذكرتُ تلك التفسيرات المحددة للبوذية لأنها التفسيرات التي لاقت رواجًا لدى الغرب خلال القرن الأخير. وعلى الرغم من أن تلك التفسيرات ليست غير مشروعة بالكلية، فإنها تعاني من النقصان، وتُمثِّل عادةً ردَّ فعلٍ تجاه أحد جوانب النقص الملحوظة في الدين لدى الغرب. وإذا ركَّزنا فقط على أحد هذه الجوانب في البوذية، فإننا بهذه الطريقة سنرتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبه العميان عندما أمسكوا جزءًا واحدًا فقط من الفيل.
بعد أن استنتجنا أن البوذية دين من الأديان، مهمتنا في الفصول التالية استعراض بعض أبعادها بمزيدٍ من التفصيل. والأبعاد التي ستحظى بالقدر الأكبر من الاهتمام في هذا الكتاب هي: البُعد العقائدي والبُعد التجريبي والبُعد الأخلاقي، على الرغم من أنه سيشار إلى الجوانب الأخرى في المواضع المناسبة. ورغم ذلك يجب أولًا أن نتعرَّف على حياة مؤسس البوذية سيدهاتا جوتاما.