بوذا
وُلد بوذا في منخفضات تيراي بالقرب من سفح جبال الهيمالايا داخل حدود ما يُعرَف اليوم بدولة نيبال. وكان شعبه يُعرف باسم شعب ساكيا؛ ولهذا السبب يشار أحيانًا إلى بوذا باسم «ساكياموني» أو «حكيم شعب ساكيا». وكان معروفًا لدى أتباعه باسم «باجوات» أو «السيد». وكلمة «بوذا» ليست اسمًا لشخصه، بل لقبٌ شرفيٌّ يعني «المتيقظ». وعلى الرغم من أنه — تحرِّيًا للدقة — يمكن استخدام اللقب للإشارة فقط إلى الشخص بعد أن يبلغ مرحلة التنوير، فإنني سوف أستخدمه للإشارة إلى بوذا في الجزء المبكر من حياته أيضًا. أما اسم بوذا كما أشرنا في السابق فهو سيدهاتا جوتاما (بالسنسكريتية: سيدهارتا جوتاما).
الفترة المتعارَف عليها باعتبارها فترةً ممثِّلةً لحياة بوذا هي ما بين ٥٦٦ و٤٨٦ قبل الميلاد، على الرغم من أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن وفاة بوذا على الأرجح كانت في وقتٍ قريبٍ من عام ٤١٠ قبل الميلاد (الترتيب الزمني في هذه الفترة يكون دقيقًا فقط في نطاق عشر سنوات). وترجِّح المصادر التقليدية أن بوذا وعائلته ينتمون إلى الطبقة الثانية من الطبقات الهندية الأربع — أي طبقة المحاربين الأرستقراطية المعروفة باسم الخطيين (بالسنسكريتية: الكشاتريون)، على الرغم من عدم وجود دليل على وجود النظام الطبقي بين شعب ساكيا.
أما الإشارات المتعلقة بالمكانة الملكية لوالد بوذا، سودهودانا، ومظاهر العظمة والأبهة في بلاطه الملكي، كما ترويها نصوص لاحقة على وجه الخصوص، فهي من باب المبالغة على الأرجح. ورغم ذلك، فإن كَون بوذا من النبلاء سببه حُكم مولده، وكذلك مكانته الرفيعة تُعد من الموضوعات الشائعة في الفن البوذي والأدب البوذي، كما أن خلفيته الأرستقراطية — على الرغم من أنها قد لا تكون على القدر الرفيع الذي تُصوِّره لنا المصادر — قد ساعدته بلا شك في ترْك انطباعٍ مقبولٍ لدى ممالك شمال شرق الهند التي زارها باعتباره معلِّمًا متجولًا.
قدرٌ معينٌ من المعلومات المتعلقة بحياة بوذا محفوظ في قانون بالي (انظر مربع النص)، لكن لم توجد أي محاولة لجمع هذه التفاصيل معًا في عملٍ سرديٍّ متواصلٍ إلا بعد خمسمائة عامٍ من وفاة بوذا. وفي السابق، أي خلال قرنين من رحيل بوذا، بدأت سِيَر جزئية عن حياته في الظهور، ويرى البعض أن هذا الأمر زاد من فضول الناس ورغبتهم في معرفة حياة ذلك الرجل المُميَّز. وأشهر السِّيَر التي تناولت حياة بوذا وأكثرها أناقةً هي قصيدة ملحمية معروفة باسم «بوداكاريتا» أي «أفعال بوذا»، وأُلفت تلك القصيدة في القرن الأول بعد الميلاد على يد الأديب البوذي الشهير «أشفجهوشا». وفي ذلك الوقت أُضيفتْ إلى السِّيَر غير المكتملة المكتوبة في السابق تفاصيلُ مثيرةٌ على نحوٍ أصبح من الصعب فيه الفصل بين الحقيقة والأسطورة. وربما ألهمت هذه السِّيَر السردية لحياة بوذا صُنْعَ صور لبوذا لم تكن موجودة حتى حلول القرن الثاني من الميلاد تقريبًا. وقبل ذلك كان يتم تمثيل بوذا في الرسوم من خلال الرموز فقط، كأنْ يُرمز إليه بشجرةٍ أو عجلةٍ أو مظلَّةٍ، إما بسبب التبجيل وإما لصعوبة إعطاء تعبيرٍ جماليٍّ لحالة السمو التي اكتسبها. وبعد فترةٍ بدأ الفنانون في تجسيد صورة بوذا في الحجر أو في غيره من المواد، وأصبحت هذه الصور التجسيدية نقطةَ تركيزِ الممارسات الدينية لدى العامة.
حياة بوذا
تتسم المعلومات المتعلقة بحياة بوذا التي تتناولها المصادر الأوَّلية بالتناثر وعدم الاكتمال؛ فعندما كان بوذا يُلقي تعاليمه حول موضوعٍ ما، كان يتذكَّر جزءًا من حياته الأولى ثم يبدأ في سرده. وبعض هذه السِّيَر مذكور بالتفصيل، والبعض الآخر يغلب عليه الغموض، فضلًا عن أن الترتيب الزمني لتلك الأحاديث لا يكون واضحًا دائمًا. ولمثل هذه الأسباب فإن مهمة وضع سِيرة حياتية لبوذا معتمدة على المصادر الموجودة ليست بالمهمة السهلة. علاوةً على ذلك، فإن مفهوم السيرة الحياتية هو اختراع غربي حديث نسبيًّا، ولم تكن السيرة الحياتية نوعًا أدبيًّا موجودًا في الهند القديمة. وقد أعاقت صعوبات مماثِلة محاولاتِ تقديم سِيَرٍ حياتيةٍ للشخصيات الدينية القديمة الأخرى مثل المسيح، ومن غير المحتمل أن يحظى السعي وراء تقديم «السيرة التاريخية لبوذا» بنجاح أكبر. وما يزيد الأمر تعقيدًا هو إيمان البوذيين بتناسُخ الأرواح؛ ومن ثَمَّ فإن تقديم سيرة حياتية كاملة لبوذا يستلزم تضمين حيواته السابقة! وعلى الرغم من عدم وجود سردٍ متواترٍ قديمٍ لحياة بوذا، فإنه يوجد اتفاق على الترتيب الزمني التقريبي لبعض المحطات المهمة في حياته المهنية. وباختصار، فإن الحقائق المتعلقة بحياته هي كالتالي: تزوج وهو في السادسة عشرة من فتاة تُدعى ياشودار، أنجبت له فيما بعدُ صبيًّا يُدعى راهولا (يعني «القيد»)، وبعد فترةٍ قصيرةٍ من ميلاد ابنه، ترك بوذا المنزل في سِنِّ التاسعة والعشرين للبحث عن المعرفة الدينية، وبلغ مرحلة التنوير في سِنِّ الخامسة والثلاثين. وقضى الخمس والأربعين سنةً المتبقية من حياته في إعطاء التعاليم الدينية، وتُوفِّي في سِنِّ الثمانين. ويُركِّز البوذيون عادةً على أحداثٍ رئيسيةٍ معينةٍ في الحياة المهنية لبوذا باعتبارها الأهم، ويحتفون بها بعدة طرق في الأدب والأسطورة والطقوس والحج للأماكن التي حدثت فيها. والأحداث الأربعة الأهم في حياة بوذا هي: ميلاده، وتنويره، وأول خطبة ألقاها، ووفاته.
النصوص الأولى
تعاليم بوذا مسجلة في مجموعاتٍ مختلفةٍ من النصوص تُعرف باسم «القوانين». وهذه النصوص مأخوذة من تقليدٍ شفهيٍّ يعود إلى زمن بوذا، وحُفظت عن طريق الإنشاد الجماعي. النسخة الوحيدة من هذه القوانين القديمة التي ظلت محفوظةً بلا تحريفٍ هي قانون بالي، وترجع تسميتها إلى اللغة البالية المكتوبة بها، وهي لغة عامية قريبة من اللغة السنسكريتية التي تَحدَّث بها بوذا. دُوِّن قانون بالي كتابةً في سريلانكا في حوالي منتصف القرن الأول قبل الميلاد، ويتكوَّن من ثلاثة أجزاءٍ أو ثلاث «سلال» (بالسنسكريتية: بيتاكا)، وهي: (١) الأجزاء (سوتا بيتاكا) أو خطب بوذا المقسَّمة إلى خمسة أقسامٍ معروفة باسم «نيكايا». (٢) لائحة قواعد الرهبنة (فينايا بيتاكا) التي تضم قواعد الانضباط في حياة الرهبنة. (٣) الأطروحات الفلسفية (أبهيداما بيتاكا)، وهي تكملة متأخرة نسبيًّا للأعمال الفلسفية. يُفترض غالبًا أن لكل دين نصًّا مقدسًا واحدًا خاصًّا به، لكن هذا لا ينطبق على البوذية. إن قانون بالي يمثِّل مرجعيةً لمدرسة التيرافادا فقط. أما المدارس البوذية الأخرى فقد جُمعت قوانينها التشريعية الخاصة بلغاتٍ مختلفةٍ، وغالبًا ما تنطوي على اختلافٍ كبيرٍ في المحتوى.
ميلاد بوذا
قليلة هي التفاصيل التي يُقدِّمها قانون بالي عن طفولة بوذا، لكن الانطباع الذي تركه هو أنه عاش حياة مترفة داخل جدران قصور والده الثلاثة، التي كان كلُّ قصرٍ منها مخصصًا لأحد الفصول الثلاثة في السنة الهندية. كان بوذا الشابُّ يرتدي أفخر الثياب، ويتعطَّر بالعطور، ويحاط بالموسيقيين والخدم الذين يُلبُّون كلَّ احتياجاته. وعلى الرغم من أن تلك الظروف يُظن أنها قد تُسفر عن «طفل مدلَّل» من الطراز الأصلي، فإن شخصية بوذا يبدو أنها لم تتأثر تأثُّرًا مفرطًا. ويُوصف بوذا بأنه كان طفلًا سابقًا لسِنِّه يتصرَّف كالكبار، لكنه كان يُراعي مشاعر الآخرين، فضلًا عن تَمتُّعه بذكاءٍ حادٍّ وقوًى روحانيةٍ كامنة.
العلامات الأربع
على الرغم من أن حياة القصر كانت مريحةً، فإنها لم تكن مُرضيةً، وحنَّ بوذا إلى أسلوب حياةٍ أعمق وأكثر إشباعًا من الناحية الروحية. وتُمثِّل الأساطير الأخيرة هذا السخط من خلال قصةٍ يقوم فيها بوذا بأربع زيارات خارج القصر وهو في عربة. لقد كان والده المُفرِط في حمايته يخشى باستمرارٍ أن يترك ابنُه البيتَ ليُحقِّق مصيره باعتباره معلِّمًا دينيًّا كما تُنُبِّئَ له في حلم مايا؛ فجهَّز الشوارع لتعج بالأشخاص الأصحاء المبتسمين كي لا ينزعج سيدهاتا من أي منظرٍ بغيض، وأخلاها من المسنين والعجزة، لكن المصادفة — أو تَدخُّل الآلهة، كما تقول مصادر لاحقة — جعلتْ بوذا يقابل رجلًا مسنًّا، فأمر بوذا قائدَ العربة بالعودة على الفور إلى القصر، وفي القصر تفكَّر في معنى أن يصبح الإنسان عجوزًا. وفي رحلته الثانية قابل رجلًا مريضًا، وفي الرحلة الثالثة رأى جثةً محمولةً إلى أرضِ حرقِ الجثث. وهذه التجارب جعلتْه يدرك في المقام الأول الطبيعةَ الزائلة للوجود البشري، وعلم أنه حتى جدران القصر لا يمكنها أن تمنع المعاناة والموت. وفي رحلته الرابعة خارج القصر قابل بوذا ناسكًا متسولًا (سامانا)، وورد على فكره أنه نفسه يمكن أن يسلك طريقًا روحانيًّا لحل مشكلات الطبيعة البشرية. وفي تلك الليلة قرَّر ترك القصر، وألقى نظرة أخيرة على زوجته وطفله النائمَين، وتركهما ليصبح ناسكًا متسولًا لا مأوى له.
هذه القصة البسيطة المؤثِّرة من غير المحتمل أن تكون حقيقية بالمعنى الحرفي؛ فمن الصعب تصديق أن بوذا كان بالسذاجة التي تُصوِّره بها القصة، أو أن زهده في حياة القصر كان أقرب إلى المفاجأة. وقد يكون من المفيد على نحوٍ أكبر لو قرأنا القصة باعتبارها أمثولةً تُمثِّل فيها حياةُ القصر دعةَ العيش وخداعَ الذات، وتُمثِّل فيها رؤية العلامات الأربع بدايةَ إدراك طبيعة الحياة البشرية. لو كان بوذا حيًّا في عصرنا هذا لرأى العلامات الأربع في كلِّ مكانٍ حوله؛ فكلُّ رجلٍ مسنٍّ وكلُّ مستشفًى وكلُّ جنازةٍ ستُظهر قِصرَ وهشاشةَ الحياة، بينما ستكون كلُّ كنيسةٍ وكلُّ رجلِ دينٍ إثباتًا لفكرة أن الحلَّ الديني لهذه المشكلات من الممكن إيجادُه. ويبدو أن الأمثولة توضِّح أنه على الرغم من وجود تلك العلامات في كلِّ مكان، فإن معظم الناس — مثل بوذا الشاب — يبنون حواجز عقلية (جدران القصر) لحجب تلك الحقائق البغيضة. وحتى في هذه الحالة، ستمر أوقاتٌ تفرض فيها تلك الحقائقُ غيرُ المرغوبة نفسَها علينا بطريقةٍ من المستحيل تجاهُلها، مثل حالات المرض أو الوفاة، مثلما حدث عندما خرج بوذا في عربته.
الزهد والتقشف
بعد أن أفاق بوذا من دَعة العيش، قرَّر على الفور أن يدير ظهره لحياته العائلية وأن يذهب بحثًا عن المعرفة الروحية. ولم يكن هذا القرار غيرَ مسبوقٍ في الهند؛ فحركة سامانا — ثقافة مضادة مكوَّنة من نُسَّاكٍ متسولين لا مأوى لهم — كانت متأصِّلة في وقت بوذا. وكثير من الناس كانوا قد اتَّخذوا قراراتٍ مماثلةً بأن يزهدوا في العالم، وأصبح بوذا عضوًا في فرق الشحاذين والفلاسفة المتجولين.
كان المعلم الأول لبوذا رجلًا يُدعى آلارا كالاما، وعلَّمه طريقةَ تأملٍ تضع المرء في حالة غشيَةٍ عميقة. وكان بوذا تلميذًا نجيبًا، وسرعان ما أتقن القدرة على الدخول في حالة استغراقٍ تسمَّى «مجال العدمية» والاستمرار فيها. وعندما أتقن بوذا هذا الأسلوب بسرعةٍ وبدقةٍ عرض عليه آلارا أن يشترك معه في قيادة المجموعة، ورفض بوذا طلبه؛ فعلى الرغم من أن التجربة اتَّسمت بالسكينة والمتعة، فإنها لم تكن الحلَّ الدائمَ الذي كان يسعى إليه؛ إذ إن المرء يخرج من هذه الحالة في النهاية ويعود إلى الوعي اليقِظ العادي، ولا تزال مشكلاته الأساسية المتمثِّلة في الميلاد والمرض والهرم والموت قائمة.
واستمرَّ بوذا في سعيه ودرس بعد ذلك على يد مُعلِّم آخر اسمه أوداكا رامابوتا. وعلَّم أوداكا بوذا أسلوبًا أكثر تعقيدًا يسمح لممارِسه بالدخول في مجال «لا هو واعٍ ولا هو غير واعٍ»، وهي حالة ذهنية أكثر تساميًا يبدو فيها الوعي نفسه كأنه اختفى تقريبًا. كان أوداكا منبهرًا للغاية بتلميذه لدرجة أنه عرض أن يكون من أتباع بوذا، لكن بوذا رفض؛ لأنه شعر أن القدرة على الوصول لحالات الوعي الصوفية كانت جيدة وقيِّمة إلى حدٍّ ما، لكنها لم تكن الهدفَ الذي يسعى إليه.
وبعد تجارِب التأمُّل هذه وجَّه بوذا انتباهه إلى أساليب من نوعٍ مختلف. وتضمَّنت هذه الأساليب التقشُّف الشديد، وكان الهدفُ من ذلك هو كبحَ الشهوات والعواطف. في البداية مارس بوذا تمرينًا للتحكُّم في التنفُّس، وتضمَّن هذا التمرينُ كتمَ النفَس لمدةٍ أطول وأطول من الوقت. وبدلًا من اكتساب المعرفة الروحية كان كلُّ ما جناه من هذا التمرين هو الصداع المؤلم. وترك بوذا هذا الأسلوب وجرَّب طريقةً أخرى تضمَّنت تقليل استهلاكه من الطعام إلى جرعات قليلة، تُعادل فقط ملعقةً من حساء الفول يوميًّا. ولم يمرَّ وقت طويل حتى أصابه الهزال وأصبح عاجزًا عن الجلوس وظهره منتصب، وبدأ شعره في السقوط. وأصبح واضحًا له أن هذا النوع من إهلاك الذات لا يُسفر عن نتائج أيضًا؛ فتركه. ورغم ذلك فإن جهود بوذا لم تذهب هباءً تمامًا؛ فتجربته علَّمتْه أن التطرُّف بأي نوعٍ كان لا طائلَ من ورائه. إن حياته في السابق، التي كانت مغموسةً في الملذات، لم تكن مرضيةً، والأمر نفسه ينطبق على السنوات الست التي جرَّب فيها التأمُّل من خلال التقشُّف. وأدرك بوذا أن الطريق الأكثر جدوى هو «الطريق الوسطي» بين هذين النقيضين المتطرفين. ومن هذا المنطلق سيكون نمط الحياة الأكثر ملاءمة هو الاعتدال، فلا حرمان من الشهوات ولا انغماس مفرطًا فيها.
التنوير
انطلاقًا من هذا المبدأ، عاد بوذا إلى تناول الطعام ورجع إلى ممارسة التأمل. وقد أحرز تقدمًا سريعًا، وفي أثناء ليلةٍ من الليالي التي كان فيها جالسًا تحت شجرةٍ كبيرة، عُرفت فيما بعد بشجرة بوذا (شجرة التين المقدَّسة)، اكتسب حالةَ اليقظة الكاملة التي كان يسعى إليها. خلال الثُّلث الأول من الليل، اكتسب القدرةَ على النظر إلى حيواته السابقة، وتذكَّرها بتفاصيلها الكاملة. وفي الثُّلث الثاني من الليل، اكتسب نوعًا من البصيرة مكَّنه من رؤية موت وميلاد كل أنواع الموجودات في الكون على حسب أفعالهم الجيدة والسيئة. وخلال الثُّلث الأخير من الليل، اكتسب معرفةَ أنه تخلَّص من مدنِّسات الروح وأنه استأصل الشهوةَ والجهلَ للأبد. لقد «فعل كل ما يلزم فعله»، لقد وصل للنيرفانا ووضع نهايةً لإعادة الميلاد، تمامًا مثلما تنبَّأ عندما وُلد.
يُعرف المكان الذي حصل فيه بوذا على التنوير باسم بود جايا، وظل بوذا في ذلك المكان لمدة سبعة أسابيع يفكِّر في مستقبله. وتساءل عن وجوب أن يصبح معلمًا دينيًّا لكن أثناه عن ذلك صعوبة توصيل الإدراك العميق الذي اكتسبه للآخرين. ولفترةٍ من الوقت مالَ إلى حياة الانزواء والعزلة، لكن بعد طلبٍ من أحد الآلهة (تزخر البوذية بعددٍ هائلٍ من الآلهة التي تُشبه إلى حدٍّ ما الملائكةَ في المسيحية) تأثَّر من باب الشفقة وقرَّر نشْر تعاليمه — الدارما (بالباليَّة: «الداما») — للعالم. وعندما أدرك من خلال قدراته الروحية أن معلمَيْه السابقَين قد ماتا، ذهب بوذا إلى بيناريس على نهر الجانج، حيث علم أنه سيجد في هذا المكان مجموعةً من خمسة زملاء سابقين أداروا ظهورهم له في السابق عندما رفض طريق التقشف.
الخطبة الأولى والحياة المهنية باعتباره معلمًا
بعد أن وصل بوذا إلى حديقةٍ مخصصةٍ للأيائل الملكية قريبةٍ من بيناريس، وبعد بعض التردُّد المبدئي، رحَّب به زملاؤه السابقون الذين سرعان ما أدركوا التحوُّلَ الذي حدث له. وأعلن بوذا نفسَه «تاتاجاتا» (أي «الشخص الذي وصل إلى الحقيقة») وألقى أُولى خطبه، وهذا حدث عظيم في البوذية. والخطبة الأولى محفوظة في صورة نصٍّ دينيٍّ (سوتَّا) يسمَّى «إدارة عجلة الدارما». وتحتوي هذه الخطبة على التعاليم الأساسية للبوذية موضوعةً في شكل صيغةٍ تُعرف باسم الحقائق الأربع النبيلة، التي سنناقشها بمزيدٍ من التفصيل في الفصل الرابع. والعجلة رمز مهم في البوذية، وتُستخدم غالبًا لتمثيل الدارما. وكانت الخطبة الأولى هي الحدثَ الذي أعطى الدفع المبدئي لعجلة الدارما؛ تلك العجلة التي سوف تدور للأمام بلا توقُّفٍ مع انتشار البوذية في أنحاء آسيا.
عند سماع الخطبة الأولى أدرك الحقيقةَ على الفور أحدُ أعضاء الجمهور، وأصبح «على الطريق» أو شخصًا حقَّق الدرجة الأولى من الفهم الروحاني. ومع شرح بوذا لتعاليمه على نحوٍ موسَّعٍ حقَّق النُّسَّاك الأربعة المتبقُّون هذه الحالةَ أيضًا. وأصبح النُّسَّاك الخمسة حَوَارِيِّيه ومُنحوا صفةَ الرهبنة («بيكو») خلال مراسمَ بسيطةٍ. وعند سماع الخطبة الثانية لبوذا، اكتسب النُّسَّاك الخمسة التنويرَ الكامل. وعُرف كلُّ واحد من هؤلاء الخمسة وآخرون على شاكلتهم باسم آرهات (القديسين) ولم يُعرفوا باسم البُددة؛ لأن لفظة البُد (بوذا) تقتصر فقط على الشخص الذي اكتشف طريقَ التنوير بنفسه وليس من خلال السماع عنه من شخصٍ آخر.
سرعان ما انتشرَتِ التعاليم، وخلال وقتٍ قصيرٍ اكتسب التنويرَ عددٌ كبيرٌ من الأشخاص. وتحكي النصوص الأولى عن مجموعةٍ من قديسين (آرهات) يصل عددهم إلى ستين قديسًا، وقد كلَّف بوذا هؤلاء بالذهاب باعتبارهم مُبشِّرين ونشْر تعاليم البوذية إشفاقًا على العالم. وبعد خمس سنوات عندما تكوَّنتْ مجموعة الرهبان، أقنعوا بوذا بتأسيس مجموعةٍ مماثلةٍ من أجل الراهبات. وعلى الرغم من تردُّد بوذا في البداية — لأن الرهبنة نفسَها كانت تطورًا جديدًا، وتأسيس جماعةٍ للراهبات كان شيئًا غيرَ مسبوق — فإنه وافق في النهاية. ولم تتوسَّع جماعة الراهبات بالقدر نفسه الذي شهدتْه جماعة الرهبان، وعلى العموم، في الوقت الحاضر تمجد «سانجا» جماعة الرهبان في الأساس.
هناك ندرة في تفاصيل السيرة الحياتية لبوذا في النصف الثاني من حياته. ورغم ذلك، من الواضح أنه قضى وقته في السفر سَيرًا على الأقدام، متجولًا في المدن والقرى في شمال شرق الهند، مخاطبًا أنواعًا عديدة من الأشخاص من خلفياتٍ دينيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ مختلفة. وغطَّت رحلات بوذا منطقةً بلغ طولُها ١٥٠ ميلًا، وبلغ عرضُها ٢٥٠ ميلًا؛ أي منطقة أصغر إلى حدٍّ ما من أيرلندا أو ولاية بنسلفانيا. وغالبًا ما يُصوَّر بوذا وهو يخاطب الجمهور في الموضوع الذي يُلقي فيه تعاليمه ويُجيب عن الأسئلة وينخرط في مناقشات مع أشخاصٍ من مختلِف المستويات. كان أسلوبه يتَّسم دائمًا باللُّطف والهدوء، وكثيرٌ من أتباعه المذكورين في النصوص الدينية يشهدون على قدرته على الإقناع وجاذبية شخصيته. وفي بعض الأحيان يُصوَّر بوذا وهو يصنع المعجزات؛ تلك القدرة التي تعود إلى القوى الروحية التي اكتسبها من خلال ممارسة التأمُّل. ومع ازدياد شعبيته وتزايُد عدد أتباعه، أُسست مراكزُ سكنيةٌ يمكن للرهبان المكوث فيها لجزءٍ من العام، ولا سيما في موسم المطر الذي يصعب فيه السفر. وغالبًا ما كان الملوك أو المناصرون الأثرياء هم مَن يتبرَّعون لجماعة الرهبان بمساكنِ الإقامة، وتحوَّلت تلك المساكن فيما بعدُ إلى مؤسساتٍ دائمةٍ تُعرف باسم «فيهارا» أو الأديرة.
وفاة بوذا
يُقدِّم أحد النصوص المهمة التي تحمل عنوان «خطبة الرحيل الكبير» سردًا للأحداث في الشهور القليلة السابقة على وفاة بوذا. وفي ذلك الوقت كان بوذا قد ناهز الثمانين من عمره وتدهورتْ صحته، لكنه استمر في ترحاله سيرًا على الأقدام مثلما فعل طوال حياته، معتمدًا على قدراته العقلية في كبْح آثار الوهن الذي انتابه. وفي هذه المرحلة ظهرَتِ الحاجة إلى اتخاذ عدة قراراتٍ مهمةٍ تَمثَّلتْ في التساؤلات التالية: هل سيُعيِّن خليفةً له؟ مَن سيقود الجماعةَ بعد رحيله؟ وفي حوارٍ مع أناندا، ابن عمه وخادمه الشخصي المخلص، قال بوذا إنه لا توجد حاجة لخليفةٍ له لأنه لم يَعتبر نفسَه قط «قائد» الجماعة. وبدلًا من ذلك، يجب أن تبقى تعاليم الدارما هي الدليلَ بعد رحيله، ويجب أن يتمسَّك الرهبان بها بقوة، وأن يتمسَّكوا كذلك بمجموعة قواعد «فينايا» التي أرساها لإدارة حياة الرهبان. علاوةً على ذلك، نصح كلَّ شخصٍ بأن يفكِّر بنفسه في الأمور المتعلقة بالعقيدة، وأن يقارن وجهاتِ النظرِ والآراءَ بالنصوص المقدَّسة قبل أن يُقرِّر قَبولها أو رفضها. واتباعًا لنصيحة بوذا، لم يَظهر مطلقًا مصدرُ سلطةٍ مركزيٌّ في البوذية فيما يتعلق بأمور العقيدة، ولا توجد مؤسسة أو هيئة مخوَّلة بإعلان مبادئَ أو معتقداتٍ للدين ككلٍّ.
تُوفِّي بوذا في بلدة صغيرة اسمها كوشينارا، مستلقيًا على جنبه الأيمن بين شجرتَي تين، وتقول النصوص المقدسة إن هاتين الشجرتين أزهرتا في غير موسمهما على نحوٍ خارقٍ للعادة. وعلى الرغم من أنه يقال غالبًا إن بوذا مات بسبب تسمم الطعام بعد تناول وجبة لحم خنزير قدَّمها له أحد أتباعه من العوام، فإنه من الواضح من خلال الرواية المذكورة في «خطبة الرحيل الكبير» أن الوفاة حدثتْ في وقتٍ لاحق، ومن الواضح أنها كانت لأسبابٍ طبيعية. وأعطى بوذا توجيهاتٍ بأن تُحرَق جثته وأن تُعامَل مثل رفات ملك عظيم (شاكَّفاتِّي)، وذلك بأن تُحفظ في ضريحٍ مقدَّس على شكل جرسٍ يُعرف باسم «ستوبا» (بالباليَّة: «توبا») بحيث يمكن استخدام هذا النُّصب كمكانٍ لتقديم العطايا والتعبُّد. وقبل وقتٍ قليلٍ من وفاته، جمع بوذا الرهبان ومنحهم فرصةً لطرْح أسئلةٍ أخيرة. ولم يطرح أيٌّ منهم أيَّ سؤال، وهذا يشير إلى أنه في ذلك الوقت كانتْ كلُّ تعاليمه مشروحةً بالكامل ومفهومةً على نحوٍ جيدٍ بين أتباعه. وبعد ذلك نطق بوذا كلماتِه الأخيرةَ فقال: «الفناء متأصِّل في كل شيء؛ فاحرص على أن تسعى جاهدًا بذهنٍ صافٍ (للوصول إلى النيرفانا).» وبعدها في سكينةٍ وهدوءٍ مرَّ بمستوياتٍ عديدةٍ من الغشية التأملية (جاهانا) قبل أن يدخل النيرفانا النهائية.