الكارما والميلاد المتكرر
تقول النصوص إن بوذا في ليلة حصوله على التنوير اكتسب القدرةَ على تذكُّر حيواتِه السابقة. ويقال إنه لم يتذكَّر حياةً واحدةً أو اثنتين فحسب، بل تذكَّر عددًا هائلًا من الحيوات، بالإضافة إلى التفاصيل المتعلِّقة باسمه وطبقته ومهنته، وهكذا كانت الحال في كل حياة. وفي مَواطن أخرى يقول بوذا إنه استطاع تذكُّر «ما يعادل إحدى وتسعين فترةً من فترات حياته السابقة» (كتاب ماهايانا)، وإحدى هذه الفترات تساوي تقريبًا عُمر مجرة. وعلى الرغم من أن العقيدة البوذية تقول إن بداية عملية الولادة المتكررة، وكذلك نهايتها، لا يمكن معرفتها على وجه التحديد، فمن الواضح أن عدد مرات الولادة المتكررة للشخص هو عدد غير نهائي. وتُعرف عملية الولادة المتكررة باسم «سامسارا» أو «التجوال اللانهائي»، وهو مصطلح يوحي بالحركة المستمرة مثل جريان النهر. وكل الكائنات الحية جزء من هذه الحركة الدائرية المتكررة، وسوف تستمرُّ الولادة المتكررة لهذه الكائنات إلى أن يحصلوا على حالة النيرفانا.
لم تنشأ فكرة تناسُخ الأرواح مع البوذية، بل كانت موجودةً في الهند منذ عدة قرونٍ قبل عصر بوذا. وهذا المعتقد مألوف في كثيرٍ من الثقافات، وكان منتشرًا في الغرب قديمًا قبل أن يُنظر إليه باعتباره متعارضًا مع العقيدة المسيحية في حوالي القرن السادس. ورغم ذلك، فمعتقدات الهند المتعلِّقة بالولادة المتكرِّرة تتَّسم بطبيعةٍ مميزةٍ بسبب ارتباطها بمعتقد الكارما، وينص هذا المعتقد على أن ظروف الولادات المستقبلية تتحكَّم فيها الأفعالُ الأخلاقيةُ التي يقوم بها الشخص في حياته الحالية. وللكارما (بالبالية: «كامَّا») أهمية أساسية في المعتقد البوذي، ومن أجل فهْمها لا بد من استعراض مجموعةٍ من المفاهيم الوثيقة الصلة والمتعلِّقة بتصوُّر الكون والزمن.
الكون من المنظور البوذي
يقسم المعتقد البوذي الكونَ إلى قسمين: قسم الكون المادي، ويُعتبر وعاءً أو «حاوية» (بهاجانا)، وقسم «الكائنات» (ساتفا) أو أشكال الحياة المقيمة فيه. ويتكوَّن الكون المادي من تفاعُل العناصر الخمسة، وهي: الأرض والماء والنار والهواء والفضاء (أكاسا). والعنصر الأخير من هذه العناصر، أي عنصر الفضاء، يُعتبر عنصرًا مطلقًا، ويُنظر إليه في الفكر الهندي على أنه ليس مجرد غيابٍ للعناصر الأربعة الأخرى لكنه عنصر في حدِّ ذاته. ومن خلال التفاعُل بين العناصر الخمسة تتكون «أنظمة العالم» (وهو تقريبًا مرادف لمفهوم المجرة في وقتنا المعاصر)، تلك الأنظمة الموجودة في جميع الاتجاهات الستة للكون (الشمال والجنوب والشرق والغرب والأعلى والأسفل).
ويُعتقد أن أنظمة العالم تشهد دوراتِ تطوُّرٍ واضمحلالٍ تستمر لمليارات السنين؛ فهي تأتي إلى الوجود وتستمر لبعض الوقت، ثم تتحلل تدريجيًّا قبل أن تُدمَّر في كارثةٍ هائلة. وفي الوقت المناسب سوف تتطوَّر مرةً أخرى لإكمال دورةٍ كبيرةٍ تُعرف باسم «الفترة الكبرى». وبطبيعة الحال، الكائنات التي تسكن هذه الأكوان المادية تتأثَّر بهذه الأحداث، وبالفعل يوجد اعتقاد بأن الحالة الأخلاقية للسكان تُحدِّد مصير نظام العالم؛ فالعالم الذي يسكنه أشخاص جهلاء وأنانيون على سبيل المثال سوف ينهار بمعدلٍ أسرعَ من العالم الذي يسكنه سكَّان حكماء وفضلاء. إن فكرة أن الكائنات ليست مجرد رعاةٍ للطبيعة، بل تخلق الطبيعة إلى حدٍّ ما، لها انعكاسات مهمة على الفكر البوذي بشأن النظام البيئي.
سيكون واضحًا بالفعل أن الكون في البوذية يختلف في جوانبَ مهمةٍ عن الفكر الديني السائد في الغرب؛ فسِفْرُ التكوين يُصوِّر الخلْق كحدثٍ فريد، ويُعلِّمنا الكتاب المقدس أن العالم سوف ينتهي يوم القيامة. وبين هذين الحدثين انفتحت في الأبدية نافذة زمنية مؤقتة، وخلال هذه النافذة تحدث دراما مسرحية فريدة؛ دراما السقوط والخلاص. وهذه الدراما هي ما يُشكِّل «التاريخ» الذي يتكوَّن من مجموعة أحداثٍ خطيةٍ تقدُّميةٍ بوجهٍ عام. وفي هذه الدراما (النسخة العلمانية منها تستعيض عن الخلاص ﺑ «التقدم») تكون العلاقات الإنسانية هي دائمًا المحور. ولعلَّ أوضحَ مثال لهذا التصور هو الاعتقادُ الذي كان سائدًا في علم الكونيات قبل كوبرنيكوس الذي كان يضع الأرضَ في مركز الكون. على الجانب الآخر، ترى وجهةُ النظر الهندية أن مثل هذا التصوُّر عن العالم يتَّسم بالتمركُز حول الإنسان وبضيق الأفق؛ فالأرض ليست على الإطلاق المركزَ الذي يدور حوله الكون، والبشر ليسوا الممثلين الوحيدين على المسرح. علاوةً على ذلك، يرى المنظور الهندي الزمنَ دائريًّا وليس خطِّيًّا؛ فالتاريخ ليس له اتجاه أو غرض شامل، وقد تُكرَّر أنماط متشابهة من الأحداث نفسها مرات عديدة.
تخبرنا أسطورة الخلق المذكورة في خطبة «أجانيانيا سوتَّا» قصةً مختلفةً عن تلك المذكورة في سِفر التكوين، وتصف الأسطورة كيف أنه بعد تدمير أحد أنظمة العالم يُولَد تدريجيًّا سكان ذلك العالم في عالمٍ جديدٍ ناشئٍ آخذٍ في التطوُّر. في البداية، تكون أجسامهم شفافةً ولا يوجد فرق بين الجنسين، وعندما يصبح نسيج نظام العالم الجديد أكثر سُمكًا تنجذب إليه تلك الكائنات الشبيهة بالأرواح وتبدأ في استهلاكه مثل الطعام، وببطءٍ تصبح أجسادها أقلَّ أثيرية إلى أن تشبه الأجسامَ المادية الكبيرة التي لدينا الآن. وتؤدي المنافسة على الطعام إلى المشاجرات والنزاعات، وينتخب الناس مَلِكًا لحفظ السلام، وهذا الحدث يُمثِّل أصولَ الحياة الاجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه الأسطورة يمكن اعتبارها سخريةً من المجتمع البشري بقدر ما يمكن اعتبارها سردًا لقصة الخلْق، فإنها تُمثِّل تناقضًا مثيرًا مع سِفر التكوين، فبينما يُرجِع التراثُ اليهوديُّ المسيحيُّ سقوطَ الإنسان إلى التكبُّر والعصيان، تُرجِع البوذية أصلَ معاناة البشر إلى الرغبة.
العوالم الستة للميلاد الجديد
وأسهل طريقة لتَصوُّر هذا الترتيب هو التفكير في مبنًى إداريٍّ مكوَّنٍ من واحدٍ وثلاثين طابقًا. في الطابق السفلي يوجد الجحيم؛ مكان الشقاء الذي تُعاني فيه الكائنات نتائجَ أفعالهم الشريرة التي اقترفوها في الحيوات السابقة. وفي أثناء وجودهم في الجحيم يخضعون لأنواعٍ مختلفةٍ من العذاب — صُوِّر تصويرًا واضحًا في الرسوم الشعبية — مثل الغَلْيِ في الزيت أو تقطيع الأطراف. بَيْدَ أن الجحيم في البوذية (أو بالأحرى «أنواع الجحيم»؛ نظرًا لوجود العديد منها) يختلف عن الجحيم من المنظور المسيحي في أمرين؛ الاختلاف الأول هو أنه ليس مكانَ لعنٍ أبدي، ومن هذا الجانب يتشابه إلى حدٍّ كبير مع المطهر المسيحي، فهو مرحلة مؤقتة سوف يُحرَّر منها الشخص في النهاية. ويأتي التحرير عندما تنقضي الكارما الشريرة التي أرسلت الشخص إلى الجحيم. والاختلاف الثاني هو أنه في البوذية يوجد جحيم حارٌّ وجحيم بارد، وفي الجحيم البارد يكون العذاب بفعل التجميد بدلًا من الشَّيِّ.
وفوق الجحيم يوجد عالم الحيوانات. والميلاد من جديدٍ على هيئة حيوانٍ أمرٌ غير مرغوبٍ لأسبابٍ بديهية؛ فالحيوانات تحكمها الغريزة الوحشية وتفتقر إلى الملَكة العقلية اللازمة لفَهْم طبيعة موقفها، أو لفعل أمورٍ كثيرةٍ من أجل تحسين ذلك الموقف. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحيوانات تتعرض للقنص كي تكون طعامًا للإنسان أو لغيره من المفترسات. وفوق الحيوانات يوجد عالم الأشباح. وهؤلاء هم الأرواح التعيسة التي تحوم حول حوافِّ عالم البشر، ويمكن رؤيتها أحيانًا كأشكالٍ ظلالية. وعادةً ما تكون الأشباح بشرًا سابقين كوَّنوا ارتباطاتٍ قويةً تجعلهم محتجزين في الأرض. لقد استهلكتْهم رغباتهم التي لا يمكنهم إشباعها مطلقًا، ويظهرون في الرسوم الشعبية في صورة مخلوقاتٍ طيفيةٍ ذات مَعدةٍ كبيرةٍ وفمٍ صغيرٍ في رمزيةٍ إلى الجوع النَّهم الذي يفتقر دائمًا إلى الإشباع. أما المستوى الرابع فهو عالم الجبابرة، وهم سلالة من الكائنات الشيطانية المحاربة يقعون تحت رحمة نوازعهم العنيفة، فتُحفزهم شهوة السلطة ويسعَوْن دائمًا إلى الحروب التي لا يجدون فيها أي إشباع.
وفي المستوى الخامس يوجد عالم البشر. ويُعتبر الميلاد الجديد على هيئة بشرٍ أمرًا مرغوبًا للغاية وصعبَ المنال للغاية أيضًا؛ فعلى الرغم من وجود العديد من المستويات الأعلى التي يمكن أن يحدث الميلاد الجديد في ظلها، فمن المحتمل أن تُعيق هذه المستويات التقدُّم الروحي. فإذا وُلد المرء من جديدٍ على هيئة إلهٍ في جنةٍ مثاليةٍ، فمن الممكن أن ينزلق الإنسان بسهولةٍ إلى حياة الدعة ولا يُبصر الحاجة إلى السعي وراء النيرفانا. على النقيض من ذلك، يُذكِّر الوجود البشريَّ باستمرارٍ بمآسي الحياة (على سبيل المثال «العلامات الأربع» التي رآها بوذا مثل الهرم والمرض) بالإضافة إلى فرصة الوصول إلى حلٍّ دائمٍ لمشكلات الحياة؛ فالبشر لديهم العقل والإرادة الحرة، ويمكنهم استخدام هذه الملَكات لفَهْم الدارما وتطبيق تعاليم البوذية؛ ولذلك تُعتبر الحياة في هيئةٍ بشريةٍ «حلًّا وسطًا» يُقدِّم توازنًا مناسبًا بين النعيم والمعاناة.
أما الأدوار العليا الستة والعشرون من هذا المبنى (المستويات من ٦ إلى ٣١)، فهي مساكن أو منازل الآلهة (ديفا). والآلهة الدنيا هم أشخاص، نظرًا لأدائهم أعمالًا حسنة، ينعمون الآن بحالات وجود تتَّسم بالتناغم والنعيم. وتضم هذه الآلهة شخصياتٍ مهمةً من الآلهة الهندوسية مثل إندرا وبراهما، وقد أصبحا يلعبان الآن دورًا مهمًّا في النصوص البوذية، بالإضافة إلى آلهة «سماء الثلاثة والثلاثين»، وهي هيئة مكوَّنة من ثلاثة وثلاثين إلهًا يحكمهم ملكهم ساكَّا (بالسنسكريتية: شاكيا). وتسكن هذه الآلهة على قمة جبل ميرو الأسطوري وتشبه آلهة جبل الأوليمبوس. وتظهر هذه الآلهة على الأرض كثيرًا وتزور بوذا وتستمع إلى تعاليمه. وعلى قدرٍ من الأهمية أيضًا ديفات توسيتا، ويقال إن البددة المستقبليين يعيشون وسط هذه الديفات في انتظار آخر ميلاد جديد لهم على الأرض، ويشيع حاليًّا معتقد يقول إن هذا هو موطن البوذا القادم، ميتيا (بالسنسكريتية: مايتريا). وتوجد آلهة عليا عديدة، لكنها كائنات بعيدة ومتسامية لا تتدخَّل في شئون البشر إلا قليلًا. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الآلهة العليا خاضعة للكارما وتُولَد مجددًا في نهاية الأمر مثل أي شخصٍ آخر. والجنات الخمس العليا (المستويات من ٢٣ إلى ٢٧) تُعرف باسم «المساكن النقية»، ولا ينالها غير أولئك المعروفين باسم «غير العائدين». تلك كائنات على وشك اكتساب التنوير، وهي لن تُولَد من جديدٍ في هيئة بشر. أما المستويات العليا من الجنان فتزداد رفعتها، وتزيد فيها أعمار الآلهة في كل مرحلة، لتصل إلى مليارات السنوات بمقياس الزمن لدى البشر. إلا أن الزمن نسبيٌّ ومفهومه يختلف باختلاف الكائنات؛ فعمر البشر على سبيل المثال يبدو كيومٍ واحدٍ بالنسبة إلى الآلهة الموجودة في المستويات الدُّنيا.
عوالم الوجود الثلاثة
فكرة العوالم الستة والمستويات الإحدى والثلاثين تتداخل مع فكرةٍ أخرى تتمثَّل في أنَّ الكون مُقسَّم إلى ثلاثة عوالم. العالم الأدنى في تلك العوالم هو «عالم الرغبات الحسية» («كامافاكارا») الذي يشمل كلَّ المستويات حتى الجنة السادسة التي تعلو عالم البشر. والعالم التالي هو «عالم الشكل النقي» («روبافاكارا»)، وهو حالة روحانية علوية فيها تُدرِك الآلهة ويتواصل بعضها مع بعض من خلال نوعٍ من التخاطُر. ويمتدُّ هذا العالم حتى المستوى السابع والعشرين. وأعلى هذه العوالم هو «عالم اللاشكلية» («أروبافاكارا»)، وهو حالة روحانية مهيبة يكاد يستحيل وصفها، وبعيدة عن أي شكلٍ ونمطٍ توجد على أساسه الكائنات في صورة طاقةٍ ذهنيةٍ صافية.
والآلهة في المستويات الأربعة لعالم اللاشكلية تُدرِك الظواهرَ بأساليبَ تتزايد في غموضها تدريجيًّا؛ ففي المستوى الأدنى (المستوى ٢٨) تُدرِك الظواهر كفضاءٍ لا متناهٍ، وفي المستوى الثاني (المستوى ٢٩) تُدرِك الظواهر كوعيٍ لا متناهٍ، وفي المستوى الثالث (المستوى ٣٠) تُدرِك الظواهر كأنها «عدم»، أو فكرة أن الغموض الشديد لهذا النوع من الوجود يشبه اللاوجود. وأخيرًا، تتلاشى فكرة «العدم» وتظهر حالة ذهنية لا تُوصَف تُعرف باسم «حالة الإدراك واللاإدراك» (المستوى ٣١)؛ وهذه أعلى حالةٍ يمكن لأي شخصٍ أن يُولَد فيها من جديد. وإذا بدت أسماء الحالتين العلويتين مألوفةً، فإن السبب يرجع إلى أنهما تحملان نفس أسماء مراحل التأمُّل التي اكتسبها بوذا على يد مُعلِّمَيه. وقد وصل بوذا إلى هاتين الحالتين من خلال التأمُّل. وكما سنرى، فإن الأفكار البوذية المتعلِّقة بتصوُّر الكون تتطابق مع نظرية التأمل البوذية.
الكارما
في التصوُّر الكوني المذكور في السابق، تعمل الكارما بمنزلة المصعد الذي يحمل الناس من أحد الطوابق في أحد المباني إلى طابقٍ آخر؛ فالأفعال الحسنة تؤدِّي إلى حركةٍ صاعدة، والأفعال الخبيثة تؤدِّي إلى حركةٍ هابطة؛ فالكارما ليست نظام ثوابٍ وعقابٍ يُنفِّذه الرب، بل هي نوع من القوانين الطبيعية تشبه قانون الجاذبية. وعلى هذا النحو، الأفرادُ وحدهم هم من يصنعون حظهم الحسن أو السيئ. وفي الاستخدام الشعبي يُعتقد أن الكارما هي فقط الأمور الجيدة والأمور السيئة التي تحدث للأشخاص، وهذا تصوُّر يشبه إلى حدٍّ ما فكرة الحظ الجيد والحظ السيئ. أما المعنى الحرفي لكلمة كارما السنسكريتية فهو «الفعل»، لكن الكارما كمفهومٍ دينيٍّ لا ترتبط بأي نوعٍ من الأفعال فحسب، بل ترتبط بأفعالٍ ذات طبيعةٍ خاصة. إن أفعال الكارما هي أفعال «أخلاقية»، وقد حدَّد بوذا الكارما بالإشارة إلى الخيارات الأخلاقية والأفعال المترتبة عليها، فقال: «إن الاختيار («تشيتانا») أيها الرهبان هو ما أُطلق عليه كارما، إنه اختيار أحد الأفعال من خلال الجسم أو الكلام أو العقل» (كتاب أنجوتارا). وتختلف الأفعال الأخلاقية عن غيرها من الأفعال في أنها ذات نتائجَ مباشرةٍ ونتائجَ غيرِ مباشرة. ونرى النتيجة المباشرة في الأثر المباشر لهذه الأفعال الأخلاقية على الآخرين؛ فعلى سبيل المثال، عندما نَقتل أو نَسرق، يُحرَم أحدُ الأشخاص من حياته أو ممتلكاته. والنتيجة غير المباشرة تظهر في طريقة تأثير الأفعال الأخلاقية على فاعلها. ووفقًا للبوذية، يتمتع البشر بالإرادة الحرة، وعند ممارسة هذه الإرادة فإنهم يمارسون تقرير المصير. في الواقع، يخلق الأفراد أنفسهم من خلال خياراتهم الأخلاقية؛ فمن خلال اختيار أنواعٍ معينةٍ من الأشياء بحُريَّة وعلى نحوٍ متكرر، يشكِّل الفردُ شخصيتَه، ومن خلال تشكيل شخصيته يتشكَّل مصيره. وكما يقول المثل: «ازرع فعلًا تحصد عادة؛ ازرع عادةً تحصد شخصية؛ ازرع شخصيةً تحصد مصيرًا.»
تشرح البوذية هذه العملية في ضوء «السانكاراس» (بالسنسكريتية: سامسكاراس)، وهو مصطلحٌ صعبٌ يُترجَم عادةً بمعنى «التشكيلات الذهنية». و«السانكاراس» هي السمات والطباع الشخصية التي تكوَّنتْ عند اتخاذ الخيارات الأخلاقية («تشيتانا») وتنفيذها عمليًّا. ويمكن تشبيه العملية بعمل صانع الأواني الفخارية الذي يشكِّل الصلصال ويُكسبه شكلًا نهائيًّا؛ فالصلصال الطري هو شخصية المرء، وعندما نَتَّخذ خياراتٍ أخلاقيةً فإننا نُمسك أنفسَنا في أيدينا ونُشكِّل طبائعنا على نحوٍ جيدٍ أو سيئ. وليس من الصعب أن نرى حتى خلال حياةٍ واحدةٍ لأحد الأشخاص كيف تؤدِّي حتمًا مجموعةٌ معينةٌ من السلوكيات إلى نتائجَ محددة. وتُظهر الأعمال الأدبية الرائعة كيف أن القدَر الذي ينزل بالأبطال لا يكون محض مصادفة، بل يكون وليدَ عَيبٍ في شخصية الأبطال، ويقود هذا العيبُ إلى سلسلة من الأحداث المأساوية. ويشار إلى الآثار البعيدة للخيارات الكارمية باسم «النضج» (فيباكا) أو «الثمرة» (بالا) للفعل الكارمي. والاستعارة المجازية هنا تشبه الأمر بالزراعة؛ فالقيام بالأفعال الجيدة والسيئة يشبه زرع البذور التي سوف تثمر لاحقًا. فغَيرة عطيل وطموح ماكبث الجامح وتردُّد هاملت وشكُّه في ذاته ستعتبر من منظور البوذية «سانكاراس» (تشكيلات ذهنية)، وستكون النتيجة المأساوية في كلِّ حالةٍ هي «الثمرة» (بالا) المحتومة للخيارات التي دفعتِ السماتُ الشخصيةُ هؤلاء الأفرادَ لاختيارها.
ولا يشهد المرء كلَّ عواقب ما اقترفه في حياته التي قام فيها بهذه الأفعال؛ فالكارما التي تراكمتْ ولم يشهدها صاحبها تنتقل إلى الحياة التالية، أو ربما لحيواتٍ كثيرةٍ مستقبلية. ويختلف البوذيون حول كيفية حدوث ذلك تحديدًا، وأحد الاحتمالات يقول بأن القيام بالأفعال الجيدة يشبه شحن البطارية بطاقة الكارما، وتُحفظ هذه الطاقة بعد ذلك إلى وقتٍ مستقبلي. ويُعتقد أن الكارما تحدد جوانبَ معينةً أساسيةً متعلقةً بالميلاد التالي للشخص. وتشمل هذه الجوانب العائلة التي سيُولَد فيها، ومكانته الاجتماعية، ومظهره الخارجي، وبالطبع طبعه وشخصيته؛ لأن هذه الأمور يحملها معه من حياته السابقة. ويتبنَّى بعض البوذيين نظرةً قدَريةً ويرَوْن أن كل حظٍّ جيدٍ وسيئٍ يكون راجعًا إلى سببٍ متعلقٍ بالكارما. ورغم ذلك، فإن مبدأ الكارما لا يزعم أن كلَّ شيء يحدث للإنسان يكون محتومًا من قِبل الكارما؛ فكثير من الأمور التي تحدث في الحياة — مثل الفوز بورقة اليانصيب أو كسر الساق — من الممكن أن تكون مجرد مصادفة؛ فالكارما لا تُحدِّد بالضبط ما سيحدث أو كيف سيكون رد فعل أي شخصٍ تجاه ما يحدث؛ فالأفراد أحرار في مقاومة طبائعهم السابقة وتكوين أنماطٍ سلوكيةٍ جديدةٍ من شأنها أن تُوقِف دورة الميلاد المتكرر التي لا تنتهي.
إذنْ ما الذي يجعل الفعل جيدًا أو سيئًا؟ من تعريف بوذا الموضَّح أعلاه يمكن أن يُعد الأمر في الأساس مسألةَ نِيَّةٍ واختيار. وتصف البوذية مصادر التحفيز النفسي بأنها «جذور»، ويقال إنه توجد ثلاثة جذور خيرة وثلاثة جذور سيئة؛ فالأفعال التي يكون باعثها الطمع والكراهية والوهم هي أفعال سيئة («أكوسالا»، بالسنسكريتية: «أكوشالا»)، بينما الأفعال التي يكون باعثها عكس هذه الصفات — أي عدم التعلُّق والإحسان والفهم — تكون أفعالًا جيدة («كوسالا»، بالسنسكريتية: «كوشالا»). ورغم ذلك، فالمضي قدمًا نحو التنوير ليس مجردَ مسألة تحلٍّ بِنِيَّاتٍ طيبة؛ فالشر أحيانًا من الممكن أن يقترفه أناس يتصرَّفون من منطلق بواعثَ غايةٍ في النُّبل؛ ولذلك لا بد من التعبير عن النِّيَّات الطيبة في صورة أفعالٍ صحيحة، والأفعال الصحيحة في الأساس هي تلك التي لا تُسبِّب الضررَ للنفس أو للآخرين. أما الأفعال التي لا تُلبِّي هذين المطلبين فهي محظورة بموجب مجموعةٍ مختلفةٍ من القواعد التي سنقول عنها الكثير عند مناقشة الأخلاقيات.
الاستحقاق
يمكن أن تكون الكارما جيدة أو سيئة. ويُطلِق البوذيون على الكارما الجيدة اسم «الاستحقاق» («بونيانيا»، بالسنسكريتية: «بونيا»)، ويبذلون جهودًا كبيرة في الحصول عليها. ويُصوِّرها البعض كنوعٍ من رأس المال الروحي — مثل المال الموجود في حسابٍ بنكي — بموجبه يزيد الحساب ليُصبح وديعةً تحت حساب ميلادٍ سماويٍّ تالٍ. ومن أفضل الطرق التي يمكن للعوام كسْب الاستحقاق من خلالها دعمُ جماعة الرهبان. ويمكن فعل ذلك من خلال وضْع الطعام في أطباق الرهبان أثناء مرورهم في جولاتهم اليومية لجمع الصدقات، ومن خلال إعطاء ملابس للرهبان، ومن خلال الاستماع إلى الخطب وحضور الطقوس الدينية، ومن خلال التبرُّع بأموالٍ لصيانة الأديرة والمعابد، فضلًا عن أن الاستحقاق يمكن صنعه من خلال مباركة المتبرِّعين الآخرين والاحتفاء بكرَمهم. ويجعل بعض البوذيين تجميع الاستحقاق غايةً في حد ذاته، ويتمادَوْن إلى درجة حمْل دفترٍ لإحصاء مجموع «الحساب» الكارمي. وهذا الأمر يجعلهم يُغفلون حقيقةَ أن الاستحقاق يُكتسب باعتباره نتيجةً فرعيةً لفعْل الصواب؛ فَفِعْل الأفعال الجيدة لمجرد الحصول على كارما جيدةٍ سيكون فعلًا أنانيَّ النزعة، ولن يُكسِب صاحبَه الكثيرَ من الاستحقاقات.
في كثيرٍ من الثقافات البوذية يوجد معتقد «تحويل الاستحقاقات»، أو فكرة إمكانية مشاركة الكارما الجيدة مع الآخرين، تمامًا مثل المال. إن التبرع بالكارما الجيدة له نتيجة سعيدة؛ فبدلًا من استنزاف رصيد الكارما التابع لأحد الأشخاص، كما هي الحال مع المال، فإن هذا الرصيد يزداد نتيجةً لحافز المشاركة الكريم. وكلما زاد عطاء المرء زاد ما يحصل عليه! وليس معروفًا على نحوٍ مؤكَّدٍ إن كانت توجد مرجعيات في القوانين التشريعية البوذية تؤيد مثل هذا النوع من الأفكار أم لا. ورغم ذلك، فإن التحمُّس لمشاركة الاستحقاق الفردي للشخص في ضوء روح الكرم لَهُوَ أمر سليم من الناحية الكارمية؛ لأنه سيؤدي إلى تكوين شخصيةٍ كريمةٍ ومُحبةٍ للخير.
وجهة نظر غربية
في الغالب يجد الغربيون فكرة الكارما وفكرة الولادة من جديدٍ أمرًا مُحيرًا. ويرجع هذا، نوعًا ما، إلى الاختلاف الثقافي في الافتراضات السابقة المتعلقة بالزمن والتاريخ كما أشرنا في السابق؛ ففي ظل ثقافةٍ ترى الزمن يسير بطريقةٍ دائريةٍ تبدو فكرةُ الميلاد من جديدٍ فكرةً طبيعية. لكن إذا وُلد الأشخاص من جديدٍ فقد يعترض البعض قائلًا: «لماذا قليل من الأشخاص يتذكَّرون حيواتهم السابقة؟» يمكن أن يتمثَّل التفسير في جانبٍ منه في أن السمات الثقافية تُؤثِّر على التجارِب الفردية. وفي ظل غياب إطارٍ يؤمن بتناسُخ الأرواح قد لا تُلاحَظ ذكريات الحيوات السابقة أو لا يُعترَف بها. وقد يكون الأفراد غيرَ راغبين في تعريض أنفسهم لسخرية الآخرين إذا ما أفصحوا عن تلك الذكريات. وعندما يتحدَّث الأطفال عن هذه الذكريات عادةً يتجاهلها المعلمون والآباء بدعوى أنها نتيجة للخيال فائق النشاط. ورغم ذلك، تكثر الشهادات من قِبل أفرادٍ يزعمون تذكُّر حيواتهم السابقة، وكثير من هذه الشهادات من الصعب تفسيرها إلا إذا كانت الذكريات حقيقية. ومع ذلك، مثل هذه الذكريات نادرة، حتى في الثقافات التي ترى الميلاد من جديدٍ أمرًا مقبولًا. ولعل التفسير الممكن الذي قد تُقدِّمه البوذية هو أن تجربة الموت والميلاد من جديدٍ تمحو مثل هذه الذكريات من المستويات العليا للعقل، وأن تلك الذكريات يمكن استرجاعها فقط في حالات الوعي المتغيرة مثل ذلك النوع الذي يُستثار من خلال التأمُّل أو التنويم المغناطيسي.
ثَمَّةَ سؤال شائع آخر متعلق بالميلاد من جديد، وهو: «إذا كان الناس يُولَدون من جديد، فلماذا لا يتزايد عدد السكان على نحوٍ أسرع؟» مرةً أخرى نجد أن هذا السؤال ناشئ عن افتراضات تتمحور حول الإنسان. إن عالم البشر هو مجرد عالم من عوالم الميلاد من جديد، ونظرًا لأن الكائنات من الممكن أن تُولَد في أي عالمٍ من العوالم الستة، فَثَمَّةَ حركة دائمة فيما بين هذه العوالم. وتعتقد بعض المذاهب البوذية، وأشهرها تلك المذاهب الموجودة في التبت، أنه توجد حالة وسيطة تُمثِّل فاصلًا بين الحياتين، وخلالها تبقى روح المُتوفَّى لمدة تسعةٍ وأربعين يومًا قبل الميلاد من جديد. وخلال هذه الفترة تشهد الروح كل العوالم الستة للميلاد من جديدٍ قبل الانجذاب — كما لو كان جذبًا مغناطيسيًّا — إلى العالم الأنسب لحالتها الكارمية. رغم ذلك، ووفقًا لمذاهب أخرى، فإن الانتقال من حياةٍ إلى أخرى يكون فوريًّا، والموت يتبعه على الفور ميلاد في حياة جديدة.
هل من الضروري الإيمان بوجود العوالم الستة والجِنان والجحيم ليصبح المرء بوذيًّا؟ ليس بالضرورة؛ فعلى الرغم من أن معظم البوذيين يقبلون التعاليم التقليدية، فإنه من الممكن إعادة تفسيرها بطرقٍ مختلفة؛ فمثلًا من الممكن الإشارة إلى الأبعاد الأخرى للوجود، أو الأكوان الموازية أو مجرد الحالات الذهنية المختلفة. أما مناصرو «الحداثة البوذية»، التي سأقول عنها المزيد في الفصل الأخير، فيميلون إلى رفض عناصر «القرون الوسطى» التابعة لهذا النظام التقليدي، والاستعاضة عنها بأفكار أكثر تَوافقًا مع العصر الحديث. وقد يكون من الممكن أيضًا أن يصبح المرء بوذيًّا مع رفْض فكرة الميلاد من جديدٍ رفضًا تامًّا، على الرغم من أن ذلك سيكون على حساب اختزال البوذية في شيء مثل الإنسانية العلمية. إن الإيمان باستمرار الوجود البشري في شكلٍ أو آخرَ بعد الموت سيبدو مطلبًا قليل الأهمية بالنسبة إلى معظم تقاليد الفكر البوذي.
إذن، هل هدف البوذية هو الميلاد من جديدٍ في حالةٍ أوفر حظًّا؟ على الرغم من أنه من الناحية العملية يرغب كثير من البوذيين — كلٌّ من الرهبان والعوام — في هذا الأمر بشدة، فإنه ليس الحلَّ النهائي للمعاناة الذي تنشده البوذية؛ فبوذا لم يكن قانعًا بالنعيم المؤقت الذي حصل عليه من خلال الغشيات التي تعلَّمها على يد أستاذَيه، والوجود الروحاني الجليل الذي تستمتع به الآلهة ما هو إلا إطالة لهذه التجربة. وعاجلًا أم آجلًا فإن الكارما الجيدة التي تُسفر عن الميلاد السماوي سوف تقضي أجلها، وحتى الآلهة سوف تموت وتُولَد من جديد. إن طاقة الكارما محدودة وتنتهي في نهاية المطاف؛ فهي لا تختلف عن طاقة المركبة الفضائية في مدارٍ متلاشٍ.
إن حل مشكلة المعاناة لا تكمن في ميلادٍ جديدٍ أفضلَ من سابقه في عجلة التناسخ (سامسارا)، بل النيرفانا وحدها هي ما تُقدِّم حلًّا حاسمًا.