الحقائق الأربع النبيلة
الهدف النهائي للبوذية هو وضع نهايةٍ للمعاناة والميلاد المتكرِّر. وقد قال بوذا: «في كلٍّ من الماضي والحاضر أطرح هذا فقط: المعاناة وإنهاء المعاناة.» وعلى الرغم من أن هذا التصوُّر سلبي، فإن الهدف له جانب إيجابي أيضًا؛ لأن الطريقة التي يضع بها المرء نهايةً للمعاناة تتمثَّل في إطلاق قدرة البشر على تحقيق الخير والسعادة؛ فالشخص الذي يُحقِّق حالةً كاملةً من تحقيق الذات يقال عنه إنه اكتسب النيرفانا. والنيرفانا هي «الخير الأسمى» بالنسبة إلى البوذية؛ فهي الخير النهائي والأعلى. إنها مفهوم وتجربة في آنٍ واحد؛ فالنيرفانا باعتبارها مفهومًا تُقدِّم رؤيةً خاصة لتحقيق الإنسان ذاتَه وتعطي إطارًا وشكلًا للحياة المثالية. أما النيرفانا باعتبارها تجربةً فهي تتجسَّد مع مرور الوقت في الشخص الذي يسعى إليها.
يجب أن يكون واضحًا سببُ الرغبة في الحصول على النيرفانا، لكن كيف يمكن الحصول عليها؟ إن النقاش الذي طُرح في الفصول السابقة يشير إلى جزءٍ من الإجابة؛ فنحن نعلم أن البوذية تهتم اهتمامًا بالغًا بالحياة الفاضلة؛ ومن ثَمَّ فإن الحياة الأخلاقية ستبدو مَطلبًا أوليًّا للحصول على النيرفانا. ورغم ذلك، يرفض بعض الأكاديميين هذه الفكرة. ويقول هؤلاء إن الاستحقاقات المتراكمة من خلال فعل الأفعال الخيرة تعترض طريق الوصول إلى النيرفانا. ويوضِّحون أن الأفعال الخيرة تُنتج الكارما، والكارما تربط المرء بدائرة الميلاد المتكرر. ويستنتجون قائلين: إذنْ، فالأمر يتمثَّل في أنه لا بد من تجاوُز الكارما — وغيرها من الاعتبارات الأخلاقية الأخرى — للحصول على النيرفانا. وثَمَّةَ مشكلتان في هذا الرأي؛ أما المشكلة الأولى فتتمثل في تفسير سبب حض النصوص باستمرارٍ على فعْل الأفعال الخيرة إذا كانت الأفعال الأخلاقية تعيق الوصول إلى النيرفانا. وأما المشكلة الثانية فتتمثل في صعوبة تفسير سبب استمرار الأشخاص الذين اكتسبوا التنوير، مثل بوذا، في عيش حياةٍ أخلاقيةٍ نموذجية.
قد يكمن حل هذه المشكلات في الفكرة القائلة بأن عيش حياةٍ مثاليةٍ هو مجرد جزءٍ من نموذج الكمال البشري الذي تُمثِّله النيرفانا. من ثَمَّ، وبينما تُمثِّل الفضيلة («سيلا»، بالسنسكريتية: «شيلا») مكونًا أساسيًّا في هذا النموذج، فإنها غير مكتملة في حدِّ ذاتها، وتحتاج إلى إكمالها بشيءٍ آخر. والمكون الآخر المطلوب هو الحكمة («بانيانيا»، بالسنسكريتية: «برانجانيا»). و«الحكمة» في البوذية تعني الفَهم الفلسفي العميق للحالة البشرية. وتتطلب فهمًا لطبيعة الواقع من النوع الذي يأتي من خلال التأمُّل الطويل والتفكير العميق؛ فهي نوع من «المعرفة الروحية»، أو الفهم المباشر للحقيقة، الذي يزداد عمقًا مع الوقت ويصل في النهاية إلى تمام النضج في اليقظة الكاملة التي شهدها بوذا.
ومن هذا المنطلق، فإن النيرفانا هي مزيج من الفضيلة والحكمة. ويمكن التعبير عن العلاقة بينهما بلُغةٍ فلسفيةٍ من خلال القول بأن الفضيلة والحكمة كلتيهما شرط «ضروري» للنيرفانا، لكن كل واحدةٍ منهما على حدة «غير كافية»، وفقط عند تقديم الاثنين معًا توجد الشروط الضرورية والكافية للنيرفانا. ويُشبِّههما أحد النصوص القديمة باليدين اللتين تغسل كلٌّ منهما الأخرى وتُطهرها، ويوضِّح النص جيدًا أن الشخص المفتقِر إلى إحدى يديه هو شخص غير كاملٍ وغير محقِّقٍ لذاته (كتاب ديجا).
بعد أن علمنا أن الحكمة هي نظير أساسي للفضيلة، ما الذي يجب أن يعلمه المرء كي يحظى بالتنوير؟ الحقيقة التي يجب معرفتها هي بالضرورة تلك التي أدركها بوذا في ليلة تنويره، ثم أعلن عنها في خطبته الأولى التي ألقاها في حديقة الأيائل بالقرب من بيناريس. وتشير هذه الخطبة إلى أربع أطروحاتٍ مترابطةٍ تُعرف باسم الحقائق الأربع النبيلة. وتؤكد هذه الحقائق على أن: (١) الحياة معاناة. (٢) المعاناة سببها الشهوة. (٣) المعاناة من الممكن أن تنتهي. (٤) يوجد طريق يقود إلى نهاية المعاناة. وأحيانًا يُستخدم تشبيه مجازي متعلق بالطب لتوضيح العلاقة بين تلك الحقائق، ويُشبَّه بوذا بالطبيب الذي وجد علاجًا لأمراض الحياة؛ فأولًا: يشخِّص المرض، وثانيًا: يشرح سببه، وثالثًا: يقرر وجود علاج، ورابعًا: يبدأ في العلاج.
(١) حقيقة المعاناة (دوكها)
ما هي، أيها الرهبان، الحقيقة النبيلة للمعاناة؟ الميلاد معاناة، المرض معاناة، الهَرم معاناة، الموت معاناة، الألم، والحزن، والأسى، والحسرة، واليأس معاناة، التعلق بالأمور البغيضة معاناة، عدم التعلق بالأمور الطيبة معاناة، عدم الحصول على ما يرغبه المرء معاناة؛ باختصار، العوامل الخمسة المكوِّنة لحياة الفرد معاناة.
يفتتح الطبيب النفسي الأمريكي إم سكوت بيك كتابه الأكثر بيعًا «الطريق الأقل ارتيادًا» بهذه الجملة: «الحياة صعبة!» ويشير إلى الحقيقة النبيلة الأولى فيضيف قائلًا: «هذه حقيقة كبيرة، واحدة من كُبرى الحقائق.» وهذه الحقيقة المعروفة في البوذية باسم «حقيقة المعاناة» هي حجر الأساس في تعاليم البوذية. وتنص حقيقة المعاناة على أن تلك المعاناة («دوكها»، بالسنسكريتية: «دوهكا») هي جزء أساسي من الحياة، وتُشخَّص الحالة البشرية بأنها في الأساس حالة «عدم راحة». وتشير إلى معاناةٍ متعددة الأنواع، بدايةً من التجارب البدنية أو البيولوجية مثل الميلاد والمرض والهَرم والموت. وعلى الرغم من أن تلك الأمور تتضمَّن في الغالب ألمًا بدنيًّا، فإن المشكلة الأعمق هي حتمية الميلاد «المتكرر» والمرض والهَرم والموت في حياةٍ بعد أخرى، بالنسبة إلى المرء وإلى أحبائه. والبشر عاجزون عن مواجهة تلك الحقائق، فعلى الرغم من التقدُّم في العلوم الطبية لا يزالون عرضةً للمرض والحوادث بسبب طبيعتهم البدنية. وبالإضافة إلى الألم البدني، تشير حقيقة المعاناة إلى أنواع الضيق العاطفي والنفسي مثل «الحزن والأسى والحسرة واليأس». وتلك الأمور في بعض الأحيان من الممكن أن تُمثِّل مشكلاتٍ أصعب في حلها من المعاناة البدنية؛ فقليلةٌ هي الحيوات الخالية من الحزن والأسى، وثَمَّ الكثير من الحالات النفسية العضال، مثل الاكتئاب المزمن، التي لا يمكن الشفاء منها على نحوٍ تام.
بخلاف أمثلة المعاناة الواضحة، تشير حقيقة المعاناة إلى نوعٍ من المعاناة خفيٍّ إلى حدٍّ كبيرٍ يمكن أن نطلق عليه «وجودي»، ويُلحظ هذا في عبارة: «عدم الحصول على ما يرغبه المرء معاناة.» فنوع المعاناة المتصوَّر هنا هو الإحباط وخيبة الأمل والتحرُّر من الوهم الذي نشهده عندما تفشل الحياة في أن تكون عند توقعاتنا ولا تسير الأمور كما نرغب. بوذا لم يكن متشائمًا على نحوٍ مَرَضيٍّ كما أنه علم بالتأكيد من تجربته الشخصية باعتباره أميرًا شابًّا أن الحياة يمكن أن تكون بها لحظات سعيدة. رغم ذلك فالمشكلة هي أن الأوقات الجميلة لا تدوم، وعاجلًا أو آجلًا سوف تتلاشى، أو يمل المرء من الأمور التي بَدَت في السابق جديدة ومليئة بالوعود. وفي هذا السياق فإن كلمة «دوكها» لها معنًى أكثر تجريدًا وشمولية؛ فهي تُلمِّح إلى أنه حتى عندما لا تكون الحياةُ مؤلمةً فإنها من الممكن أن تكون غير مُرضِية وغير مُشبِعة. وفي هذا السياق وغيره من السياقات توضح كلمة «عدم الرضا» معنى كلمة «دوكها» على نحوٍ أفضل من كلمة «معاناة».
وقربَ نهاية هذا التصوُّر، تشير حقيقة المعاناة إلى السبب الذي يَحُول دائمًا دون أن تكون الحياة مُرضِيةً تمامًا. إن جملة «العوامل الخمسة المكونة لحياة الفرد معاناة» هي إشارة لأحد التعاليم التي شرحها بوذا في الخطبة الثانية (كتاب «فينايا») الذي يُحلِّل الطبيعة البشرية إلى خمسة عوامل، هي: الجسد المادي («روبا»)، والأحاسيس والمشاعر («فيدانا»)، والمعارف («سانيانيا»)، والسمات الشخصية والطبائع («سانكارا»)، والوعي أو الحس («فينيانيانا»). ولا حاجة للدخول في تفاصيل كل عامل من العوامل الخمسة على حدة؛ نظرًا لأن الفكرة المهمة هنا ليست العواملَ المذكورةَ والعواملَ غيرَ المذكورة في هذه القائمة. وعلى وجه التحديد، لم يذكر هذا المعتقد الروح أو النفس؛ فهي مفهومة أنها جوهر روحاني خالد ولا يتغير. ومن خلال تبنِّي هذا الموقف، فصل بوذا نفسه عن التقليد الديني الهندي المحافظ المعروف باسم البراهمانية، الذي يزعم أن كل شخص يمتلك روحًا خالدةً («أتمان») تكون جزءًا من مطلقٍ ميتافيزيقيٍّ — أو متطابقةً معه — يُعرف باسم «براهمان» (نوع من الآلهة ليس له صفات بشرية).
قال بوذا إنه لم يستطِعْ إيجاد أي أدلةٍ على وجود الروح البشرية («أتمان») ولا نظيرتها الكونية («براهمان»). وبدلًا من ذلك سلك نهجًا عمليًّا وتجريبيًّا، أكثر قربًا لعلم النفس منه إلى علم اللاهوت. وأوضح أن الطبيعة البشرية تتكوَّن من خمسة عوامل مثلما تتكون السيارة من العجلات وناقل الحركة والمحرِّك والمِقْوَد والهيكل. بطبيعة الحال، وعلى عكس العلم، اعتقد أن الهوية الأخلاقية للشخص — ما يمكن أن نُطلِق عليه «الحمض النووي الروحي» للفرد — تبقى بعد الموت وتُولَد من جديد. وعلى الرغم من أن بوذا قال إن العوامل الخمسة المكوِّنة للفرد كلها معاناة، فإنه كان يوضِّح أن الطبيعة البشرية لا يمكنها تقديم أساسٍ للسعادة الدائمة؛ لأن مبدأ العوامل الخمسة يوضِّح أن الفرد ليس له جوهر حقيقي. ونظرًا لأن البشر يتشكَّلون من هذه المكونات الخمسة التي تتغير باستمرار، فإنه لا مفرَّ من أن المعاناة سوف تظهر عاجلًا أو آجلًا، تمامًا مثلما ستتعرض السيارة في نهاية المطاف إلى التهالُك والتعطُّل؛ ولذلك فإن المعاناة متأصِّلة في صميم تكويننا.
إن محتوى حقيقة المعاناة مأخوذ إلى حدٍّ ما من رؤية بوذا لأول ثلاث علاماتٍ من العلامات الأربع — الرجل العجوز والرجل المريض والجثة — وإدراكه أن الحياةَ تعجُّ بمختلِف أشكال المعاناة والتعاسة. وكثير ممن يتعرَّفون على البوذية يجدون أن هذا التقييم للحالة البشرية تقييم متشائم. ويميل البوذيون في الرد على ذلك قائلين إن دينهم ليس متشائمًا ولا متفائلًا، بل واقعيٌّ، وإن حقيقة المعاناة تُقدِّم ببساطةٍ حقائق الحياة بطريقةٍ موضوعية. وإذا بدا هذا التقييمُ متشائمًا، فهذا راجع إلى الميل المتأصِّل لدى البشر الذي يدفعهم إلى تجنُّب الحقائق الكريهة «والنظر إلى الجانب المشرق». ولا شك أن هذا هو السبب الذي جعل بوذا يلاحظ أن حقيقةَ المعاناة كانت صعبةَ الفهم للغاية؛ فالأمر أشبه باعتراف المرء بإصابته بمرضٍ خطير؛ فهذا أمر لا يرغب أحد في الاعتراف به. ورغم ذلك، ما لم يعترف المرء بمرضه، لا يمكن أن يكون هناك أمل في العلاج.
أما بعد الإقرار بأن الحياة معاناة، فكيف تنشأ هذه المعاناة؟ تفسر الحقيقة النبيلة الثانية — حقيقة النشأة («سامودايا») — أن المعاناة تنشأ من الشهوة أو «التعطش» («تانها»، بالسنسكريتية: «ترسنا»)؛ فالشهوة تُذْكي المعاناةَ بالطريقة نفسها التي يُذْكي بها الخشبُ النارَ. وفي استعارةٍ بليغةٍ في خطبة النار (كتاب ساميوتا) قال بوذا إن التجربة البشرية كلها «مشتعلة» بالرغبة. والنار تشبيه مناسب للرغبة؛ لأنها تستهلك ما تتغذَّى عليه دون أن تشبع؛ فهي تنتشر سريعًا وتتعلق بأشياء جديدة، وتحرق بألم الشهوة التي لا تَشبع.
إن الرغبة، في شكل الإدمان القوي للحياة والتجارِب الممتعة التي تُقدِّمها، هي سبب الميلاد المتكرِّر. فإذا كانت العوامل الخمسة للفرد تُشبه السيارةَ، فإن الشهوة ستكون الوقودَ الذي يدفعها إلى الأمام. وعلى الرغم من أن الميلاد الجديد يُعتقد أنه يحدث عادةً من حياةٍ إلى أخرى، فإنه يحدث أيضًا من لحظةٍ إلى أخرى، فيقال إن الشخص يُولَد من جديدٍ من ثانيةٍ إلى أخرى مع تغيُّر وتفاعُل العوامل الخمسة للفرد، بسبب التعطش للتجارِب الممتعة. إنَّ استمرار انتقال الفرد من حياةٍ إلى حياةٍ تاليةٍ هو مجرد نتيجة زخم الرغبة المتراكمة.
(٢) حقيقة نشأة المعاناة (سامودايا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة نشأة المعاناة؛ إنها ذاك التعطُّش أو تلك الشهوة («تانها») التي تؤدي إلى الميلاد المتكرِّر، إنها الشهوة المرتبطة بالمتعة الحسية التي تسعى إلى الملذات الجديدة تارةً هنا وتارة هناك في شكل: (١) التعطش للمتعة الحسية. (٢) التعطش للوجود. (٣) التعطش للاوجود.
تنص حقيقة النشأة على أن الشهوة أو التعطش يظهر في ثلاثة أشكالٍ أساسية؛ أولها: التعطش للمتعة الحسية. وتتخذ هذه المتعة شكل التعطش للإشباع من خلال أشياء تُدرَك بالحواس، مثل الرغبة في الاستمتاع بمذاقاتٍ وأحاسيسَ وروائحَ ومناظرَ وأصواتٍ جميلةٍ. وثانيها: التعطش للوجود. ويشير هذا التعطش إلى رغبة «الوجود» الغريزية العميقة التي تقودنا إلى حيواتٍ جديدةٍ وتجارِبَ جديدة. أما الشكل الثالث الذي تظهر فيه الشهوة نفسها فهو الرغبة، ليس في الامتلاك ولكن في التدمير. وهذا هو الجانب المظلم للشهوة، الذي يظهر في الميل إلى نفْي وإنكار ورفْض الأمور غير الجميلة وغير المرغوبة. والرغبة في التدمير يمكن أن تؤدِّيَ أيضًا إلى سلوكياتٍ تتَّسم برفض الذات. إن انخفاض التقدير الذاتي وأفكارًا من قبيل «أنا لست جيدًا» أو «أنا فاشل»، يُعدَّان تجسيدًا لهذا الموقف العقلي عند توجيهه نحو الذات. أما في الحالات المتطرفة، فمن الممكن أن يؤدِّيَ إلى سلوكياتٍ مؤذيةٍ جسديًّا مثل الانتحار. إن هذا النوع من التقشُّف المادي الذي رفضه بوذا في نهاية المطاف يمكن أن نرى فيه أيضًا تعبيرًا لهذا الميل نحو رفْض الذات.
إذنْ، هل يعني هذا أن كلَّ أنواع الرغبة خاطئة؟ يجب أن نتوخَّى الحذر قبل التوصُّل إلى هذا الاستنتاج. فعلى الرغم من أن كلمة «الرغبة» تُستخدم غالبًا كترجمةٍ لكلمة «تانها»، فإن هذه الكلمة تحمل نطاقًا من المعاني أكثر اتساعًا. إن كلمة «تانها» أكثر تحديدًا في معناها من كلمة الرغبة؛ فهي تُعبِّر عن الرغبة التي أصبحت منحرفةً إلى حدٍّ ما، وعادةً ما يحدث ذلك عندما تصبح الرغبة مفرطة أو موجَّهة في الاتجاه الخاطئ. وعادةً ما يكون هدف تلك الرغبة هو الإثارةَ والمتعةَ الحسية. رغم ذلك، ليست كل الرغبات من هذا النوع؛ فالمصادر البوذية تتحدَّث كثيرًا عن الرغبة على نحوٍ أكثر إيجابيةٍ باستخدام مصطلح «تشاندا»؛ فامتلاك أهدافٍ إيجابيةٍ لنفسك وللآخرين (مثل بلوغ النيرفانا) والرغبة في ضرورة أن ينعم الآخرون بالسعادة، وتَمنِّي أن تترك العالم مكانًا أفضل حالًا مما وجدتَه عليه؛ كلها أمثلة للرغبات الإيجابية والأخلاقية التي لا تُعد رغبةً من نوع «تانها».
وفي حين تكون الرغبات الخاطئة مقيَّدة ومكبَّلة، تكون الرغبات الصحيحة معزَّزة ومحرَّرة. ويمكننا استخدام التدخين باعتباره مثالًا لتوضيح الفرق. إن رغبة المدخن الشرِه في المزيد من السجائر تندرج تحت فئة «تانها»؛ لأنها لا تهدف إلى شيء أكثر من مجرد إشباعٍ قصير الأجل. ومثل هذه الرغبة القهرية والمقيدة والدورية لا يؤدِّي إلا إلى تدخين السيجارة التالية (وإلى اعتلال الصحة باعتباره أثرًا جانبيًّا لذلك). أما رغبة المدخن الشرِه في الإقلاع عن التدخين، فستكون رغبة محمودة؛ لأنها ستكسر هذه الوتيرة الدورية للعادة القهرية السيئة وستعزِّز الصحة والسلامة.
في حقيقة النشأة، تُمثِّل «تانها» «أصول الشرِّ الثلاثة» المذكورة سابقًا، وهي الطمع والكراهية والوهم. وتُصوَّر هذه الأصول في الرسوم البوذية في صورة ديكٍ وخنزيرٍ وثعبانٍ يطارد بعضها بعضًا في دائرةٍ صغيرةٍ في مركز «عجلة الحياة» الموضحة في الفصل الثالث، وكلٌّ منها ذيله في فم الآخر. ونظرًا لأن الشهوة لا تؤدِّي إلا إلى إثارة شهوةٍ أخرى، تستمر دورة الميلاد المتكرر، ويُولَد الأفراد مرارًا وتكرارًا. أما عن كيفية حدوث ذلك، فهذا مشروح بالتفصيل في أحد التعاليم المعروفة باسم «النشأة المعتمدة» («باتيكَّا ساموبَّادا»، بالسنسكريتية: «براتيتيا ساموتبادا»). ويوضح هذا المعتقد كيف أن الشهوة والجهل يؤديان إلى الميلاد من جديدٍ في سلسلةٍ مكونةٍ من اثنتي عشرة مرحلة. بدلًا من مناقشة هذه المراحل الاثنتي عشرة بالتفصيل، الأهم بالنسبة إلى أهدافنا الحالية هو فهم المبدأ الأساسي الذي لا ينطبق فحسب على علم النفس البشري، بل ينطبق على الواقع إلى حدٍّ كبير.
يمكن تلخيص أساس هذا المعتقد بأنه الزعم القائل بأن لكل نتيجة سببًا؛ أي إن كلَّ شيء يأتي إلى الوجود ينشأ معتمدًا على شيء آخر (أو على عددٍ من الأشياء الأخرى). وفي ضوء وجهة النظر تلك، فإن كل الظواهر تنشأ كجزءٍ من سلسلةٍ سببية، ولا شيء يوجد بنفسه ولأجْل نفسه على نحوٍ مستقلٍّ؛ ولذلك، فالكون لا يُنظر إليه باعتباره مجموعةَ أشياء ثابتة إلى حدٍّ ما، بل باعتباره شبكةً نَشِطةً تتكوَّن من الأسباب والنتائج المترابطة. علاوةً على ذلك، ومثلما يمكن تحليل الإنسان إلى العوامل الفردية الخمسة دون أن يتبقى منه شيء، يمكن بالمثل تحليل كل الظواهر إلى أجزائها المكونة دون أن نجد أي شيء «جوهري» في تلك الأجزاء. ويقال إن كل شيء يأتي إلى الوجود يحمل ثلاث خصائص أو «علامات»، هي: عدم الإشباع («دوكها»)، وعدم الديمومة («أنيكَّا»)، وغياب الجوهر الذاتي («أناتَّا»). والأشياء غير مُرضِية لأنها غير دائمة (ومن ثَمَّ فهي غير ثابتةٍ ولا يُعتمد عليها)؛ وهي غير دائمةٍ لأنها تفتقر إلى الطبيعة الذاتية المستقلة عن العملية السببية الكونية.
يمكن ملاحظة أن الكون في المنظور البوذي يتسم في الأساس بالتغيُّر الدوري، ويتمثَّل هذا من الناحية النفسية في عملية الشهوة والإشباع اللانهائية. أما من ناحية الأشخاص، فيتمثَّل ذلك في تعاقب الموت والميلاد من جديد. وأما من ناحية الكون، فيتمثل ذلك في خلْق المجرات وتدميرها. والسبب وراء كل ذلك هو مبدأ السبب والنتيجة الموضَّح في معتقد النشأة المعتمدة، وقد تطوَّرت تداعياته على نحوٍ أعمق فيما بعدُ في البوذية المتأخرة.
الحقيقة النبيلة الثالثة هي حقيقة الإيقاف («نيرودا»). وتقول هذه الحقيقة إنه عند التخلِّي عن الشهوة تتوقَّف المعاناة وتُكتسب النيرفانا. وكما ورد في قصة حياة بوذا، تتخذ النيرفانا شكلين؛ الشكل الأول يحدث خلال الحياة، والشكل الثاني يحدث عند الممات. لقد اكتسب بوذا ما يُطلَق عليه «النيرفانا في هذه الحياة» عندما كان جالسًا أسفل الشجرة في سن الخامسة والثلاثين. وفي سن الثمانين رحل إلى «النيرفانا النهائية» التي لا يمكن أن يُولَد منها من جديد.
المعنى الحرفي لكلمة «نيرفانا» هو «الإطفاء» أو «الإخماد»، مثلما ينطفئ لهب الشمعة. لكن ما هو الشيء الذي «ينطفئ»؟ هل هو روح المرء أم كبرياؤه أم هُويته؟ لا يمكن أن تكون الروح هي ما ينطفئ؛ لأن البوذية تُنكر وجود مثل هذا الشيء من الأساس. ولا يمكن أن يكون غرور الشخص أو إحساسه بهويته هو ما يختفي، على الرغم من أن النيرفانا تتضمَّن بالتأكيد حالةَ تغييرٍ جذريةً للوعي خاليةً من هوس «أنا كذا وأمتلك كذا». أما ما ينطفئ في واقع الأمر، فهو ثالوث نيران الطمع والكراهية والوهم الذي يؤدِّي إلى الميلاد المتكرِّر. وبالفعل، فإن أبسط تعريفٍ للنيرفانا في هذه الحياة هو «نهاية الطمع والكراهية والوهم» (كتاب ساميوتا). من الواضح أن النيرفانا في هذه الحياة عبارة عن واقعٍ نفسيٍّ وأخلاقي؛ فهي حالة تحوُّلٍ للشخصية تتَّسم بالسلام والسعادة الروحانية العميقة والشفقة والوعي الدقيق والفطِن. أما الحالات والمشاعر الذهنية السلبية مثل الشك والقلق والتوتر والخوف، فتختفي من الذهن الذي حظي بالتنوير. والقديسون في كثيرٍ من الثقافات الدينية يُظهرون بعض هذه الصفات أو كلها، كما أن الأشخاص العاديين يمتلكونها أيضًا إلى حدٍّ ما، لكنهم لم يكتسبوها على نحوٍ كامل. بَيْدَ أن الشخص الذي حظي بالتنوير، مثل بوذا أو الآرهات، يمتلكها كلها على نحوٍ كامل.
(٣) حقيقة الإيقاف (نيرودا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة إيقاف المعاناة. إنه الإيقاف الكلي لتلك الشهوة («تانها»)، الانسحاب منها، نبذها، رفضها، التحرر منها، عدم التعلق بها.
ما الذي يحدث للمرء عند الممات؟ فيما يتعلق بالنيرفانا النهائية فإنها تثير مشكلات الفهم؛ فعندما تنطفئ جذوة الشهوة، ويتوقَّف الميلاد المتكرِّر، لا يُولَد الشخص الذي حظي بالتنوير من جديد؟ إذنْ، ما الذي يحدث له؟ لا يوجد جواب واضح لهذا السؤال في المصادر الأولى. قال بوذا إن التساؤل عن مكان «الشخص الذي حظي بالتنوير» بعد الممات يُشبه التساؤل عن المكان الذي يذهب إليه اللهب بعد انطفائه. بالطبع لم «يذهب» اللهب إلى أي مكان؛ كل ما في الأمر أن عملية الاحتراق توقَّفت. إن إزالة الشهوة والجهل تشبه إزالة الأكسجين والوقود اللذين يحتاجهما اللهب كي يشتعل. ورغم ذلك، يجب ألا تؤخذ صورة انطفاء اللهب باعتبارها إشارةً إلى أن النيرفانا النهائية هي الفناء؛ فالمصادر توضح تمامًا أن هذا الاستنتاج سيكون خاطئًا، وكذلك الحال بالنسبة إلى استنتاج أن النيرفانا هي الوجود الأبدي للروح البشرية.
نهى بوذا عن التكهُّن بطبيعة النيرفانا، وبدلًا من ذلك أكَّد على الحاجة إلى السعْي وراء اكتسابها. وشبَّه مَن يطرح أسئلةً فضوليةً عن النيرفانا برجلٍ مجروحٍ بسهمٍ مسمومٍ يُصرُّ بدلًا من سحب السهم للخارج على طلب معلوماتٍ لا فائدةَ منها عمَّن رماه بالسهم، مثل اسمه وعشيرته، وبُعد المسافة عن النقطة التي كان واقفًا عندها … وهكذا (كتاب ماهايانا). وتماشيًا مع هذا التردُّد من جانب بوذا في تفسير السؤال، وصفَتِ المصادر الأولى النيرفانا بمصطلحاتٍ سلبيةٍ في الغالب، مثل: «غياب الرغبة»، و«خمود التعطش»، و«الانطفاء»، و«التوقُّف». ويوجد أيضًا عدد قليل من الصفات الإيجابية، من بينها «البركة»، و«الخير»، و«الصفاء»، و«السلام»، و«الحقيقة»، و«الشاطئ البعيد». وتوجد فقرات معينة يبدو أنها تشير إلى أن النيرفانا هي حقيقة علوية «غير مولودة»، و«غير مجبولة»، و«غير مخلوقة»، و«غير مُشكَّلة» (كتاب أودانا)، لكن من الصعب معرفة تفسير مثل هذه التصوُّرات. وفي التحليل الأخير، تظل طبيعة النيرفانا النهائية لغزًا، إلا بالنسبة إلى الذين وصلوا إليها. رغم ذلك، ما يمكن أن نكون متأكدين منه هو أنها تعني نهايةَ المعاناة والميلاد من جديد.
الحقيقة النبيلة الرابعة، التي تتحدث عن الطريق أو الدرب («ماجا»، بالسنسكريتية: «مارجا»)، تشرح كيفية التحوُّل من «السامسارا» إلى النيرفانا. وسط صخب الحياة اليومية، قليلون هُم مَن يتوقَّفون للتفكير في طريقة العيش الأفضل إشباعًا. وقد راودَ مثلُ هذه الأسئلة الفلاسفةَ الإغريق، وأدلى بوذا بِدَلوه أيضًا في هذا الصدد؛ فاعتَقد أن أسمى أشكال الحياة هو ذلك الذي يقود إلى اكتساب الفضيلة والمعرفة، وأن الطريق الثُّماني يُقدِّم أسلوبَ حياةٍ مصممًا لاكتساب الفضيلة والمعرفة المنشودتين.
(٤) حقيقة الطريق (ماجا)
أيها الرهبان، هذه هي حقيقة الطريق الذي يقودنا إلى إيقاف المعاناة؛ إنه الطريق الثُّماني النبيل، الذي يتكون من: (١) الرؤية الصحيحة. (٢) العزم الصحيح. (٣) الكلام الصحيح. (٤) الفعل الصحيح. (٥) العيش الصحيح. (٦) الجهد الصحيح. (٧) الوعي الصحيح. (٨) التأمُّل الصحيح.
يُعرَف الطريق الثُّماني باسم «الطريقة الوسطى»؛ لأنه يختار طريقًا بين حياة الانغماس في الشهوات وحياة التقشف الشديد. ويتكوَّن من عواملَ ثمانيةٍ مقسمةٍ إلى ثلاث فئات، هي: الأخلاق والتأمُّل والحكمة. وتُحدِّد هذه العواملُ معاييرَ ما فيه خير للبشر، وتوضِّح أين يكمن النطاق الذي يزدهر فيه الإنسان. وفي القسم المعروف باسم الأخلاق (سيلا)، تُصقَل الفضائل الأخلاقية إلى حدِّ الكمال، وفي القسم المعروف باسم الحكمة (بانيانيا)، تُكتسَب الفضائل الفكرية. وماذا عن التأمُّل؟ سنتناول دور التأمُّل بمزيدٍ من التفصيل في الفصل التالي؛ ولذلك لن أتحدَّث عنه كثيرًا في هذه المرحلة باستثناء الإشارة إلى أنه يدعم القسمين الآخرين.
وعلى الرغم من أن الطريق يتكوَّن من ثمانية عوامل، يجب ألا تُعتبر تلك العوامل مراحلَ يتم خوضها وصولًا إلى النيرفانا ثم يتم تركها وراء ظهورنا. وبدلًا من ذلك، تُمثِّل العواملُ الثمانيةُ الطرقَ التي يجب بها غرْس مبادئ الأخلاق والتأمُّل والحكمة على نحوٍ مستمر. «الرؤية الصحيحة» تعني أولًا قَبول التعاليم البوذية، ولاحقًا إثباتها تجريبيًّا. و«العزم الصحيح» يعني الالتزام الجاد باكتساب التوجُّهات الصحيحة. و«الكلام الصحيح» يعني قول الحقيقة والتحدُّث بطريقةٍ تُراعي مشاعر الآخرين. و«الفعل الصحيح» يعني الإحجام عن السلوكيات الجسدية الخاطئة مثل القتل أو السرقة، أو التصرف على نحوٍ خاطئٍ فيما يتعلق بالمتعة الحسية. و«العيش الصحيح» يعني عدم ممارسة مهنة تُسبِّب الأذى للآخرين. و«الجهد الصحيح» يعني اكتساب المرء السيطرة على أفكاره وتهيئة حالاتٍ ذهنيةٍ إيجابيةٍ لديه. و«الوعي الصحيح» يعني اكتساب الوعي الدائم. و«التأمل الصحيح» يعني اكتساب مستوياتٍ عميقةٍ من الهدوء الذهني من خلال أساليبَ مختلفةٍ تجعل العقل يُفكِّر بوضوحٍ عالٍ وتعمل على تكامُل الشخصية.
(١) الرؤية الصحيحة | الحكمة (بانيانيا) |
(٢) العزم الصحيح | |
(٣) الكلام الصحيح | الأخلاق (سيلا) |
(٤) الفعل الصحيح | |
(٥) العيش الصحيح | |
(٦) الجهد الصحيح | التأمل (سامادهي) |
(٧) الوعي الصحيح | |
(٨) التأمل الصحيح |
وبهذا الصدد، فإن ممارسة الطريق الثُّماني هي بمنزلة عملية إعادة تشكيل؛ فالعوامل الثمانية تكشف كيف سيعيش أتباع بوذا، ومن خلال العيش مثل بوذا يصبح المرء بوذيًّا مع مرور الوقت. وهكذا فإن الطريق الثُّماني هو طريق للتحوُّل الذاتي؛ فهو تغيير فكري وعاطفي وأخلاقي يُعاد فيه توجيه الشخص من الأهداف الأنانية والمحدودة إلى أُفق إمكانيات وفُرص تحقيق الذات. ومن خلال السعي وراء المعرفة («بانيانيا») والفضيلة الأخلاقية («سيلا»)، يُقهر الجهل والأنانية، ويُتخلَّص من سبب نشأة المعاناة، وتُكتسب النيرفانا.