الماهايانا
لم يُعيِّن بوذا خليفةً له، وترك أتباعه يفسرون الدارما بأنفسهم. ولم يمضِ وقت طويل حتى نشبَتِ الخلافات. في البداية، كانت الخلافات تدور حول ممارسة الرهبنة، وفيما بعدُ أصبحَتِ الخلافات متعلقة بالعقيدة، وفي ظل غياب مرجعية مركزية، كان نشوء تقاليد مختلفة من البوذية أمرًا حتميًّا تمامًا. أما أكبر هذه الخلافات فحدث بعد قرنٍ تقريبًا من وفاة بوذا بين طائفةٍ سُميت فيما بعدُ «الأقدمين» («ستافيراس»)، وطائفة أخرى اسمها «الجمعية العامة» (ماهاسانجيكاس).
الانقسام الكبير
ما الأمر الذي اختلفت عليه الطائفتان؟ تروي السجلات رواياتٍ متناقضةً حول هذا الخلاف؛ فبعضها يعزو هذا الانقسام إلى خلافٍ في العقيدة نشأ حول مكانة بوذا مقارنةً بمكانة الآرهات. ووفقًا لهذه الرواية للأحداث، فقد قدَّم أحد الرهبان، ويدعى ماهاديفا، «أطروحاتٍ خمسًا» تقول إن الآرهات أقل مكانةً من بوذا في عدة أمور، مثل عدم الاقتلاع الكامل للشهوة، والافتقار إلى المعرفة التامة التي يُزعم الآن أن بوذا كان يمتلكها (رغم أن بوذا نفسه لم يزعم ذلك). أما السبب الأرجح لهذا الانقسام فيبدو أنه كان محاولةَ الأقدمين لتعديل قواعد الرهبنة من خلال تقديم قواعد سلوكية إضافية.
يعود السبب وراء الانقسام إلى الصعوبات والتوترات العامة التي حدثت عندما بدأت البوذية تنتشر خارج حدود وطنها الأم إلى بقية أجزاء الهند. ومع توسُّع البوذية، قابلت عاداتٍ وأفكارًا جديدة؛ فكيف يجب أن تكون استجابتها؟ هل يجب أن تتمسك بقوةٍ بالطُّرق القديمة، أم يجب أن تتغير للتكيُّف مع المعتقدات والممارسات الجديدة؟ في النهاية، تباينَتِ الآراء في عدة موضوعات ومضتْ كلُّ طائفةٍ من الطائفتين في طريقٍ مختلفٍ، وهو ما أصبح معروفًا ﺑ «الانقسام الكبير». ومع مرور الوقت انقسمتْ كلٌّ من طائفة الأقدمين وطائفة الجمعية العامة إلى عددٍ من المذاهب الفرعية. وقد اندثرت كل هذه المذاهب منذ ذلك الحين، باستثناء مذهب تيرافادا، المأخوذ من تقليد الأقدمين. ورغم ذلك، فكثير من هذه المذاهب الأولية أسهمتْ في التراث الذي قدَّموه لحركةٍ جديدةٍ ثوريةٍ أصبحتْ معروفة باسم «ماهايانا».
الماهايانا: التأكيد الجديد
ماهايانا تعني «العربة الكبرى»، وتسمى بهذا الاسم لأنها تَعتبر نفسَها الطريقة الشاملة للخلاص. ووقعتْ فترة التكوين الأولى لهذه الحركة تقريبًا في وقت المسيح، وقد يرجع تاريخها بالتقريب إلى ما بين عامَي ١٠٠ قبل الميلاد و١٠٠ بعد الميلاد. وعلى الرغم من عدم وجود دليل دامغ على التأثير المتبادَل بين المسيحية والبوذية، فَثَمَّةَ بعض أوجهِ شبهٍ بين المسيحية وبوذية الماهايانا، وقد يكون من المفيد ذكرها. أول هذه التشابهات يتعلق بمفهوم المخلِّص؛ فمثلما تَعتبر المسيحيةُ تضحيةَ المسيح بنفسه نموذجًا لخدمة المسيحية للآخرين، فإن المبدأ الأعلى في الماهايانا هو عيش حياةٍ وُهبت من أجل تحقيق السعادة للعالم. وبدلًا من السعي وراء تحقيق الخلاص للفرد، مثلما تنصح التعاليم الأولى، فإن الماهايانا تُؤكِّد بشدةٍ على العمل على إنقاذ الآخرين. ويتجلَّى هذا الأمر في مبدأ البوديساتفا، وهو شخص يتعهَّد بأن يعمل دون كللٍ أو مللٍ على مدار حيواتٍ لا تُعد ولا تُحصى كي يقود الآخرين إلى النيرفانا. وكلُّ شخصٍ يعتنق الماهايانا يُصبح بطبيعة الحال بوديساتفا، لكن بالنسبة إلى معظم معتنقي الماهايانا، تكون هذه مجرد نقطة بداية طريق التطوُّر الروحي الطويل. ونظرًا للأهمية الشديدة لمبدأ البوديساتفا، ولا سيما في مراحله الأولى، عُرفت الماهايانا فقط باسم «بوديساتفانيا»، أو «عربة البوديساتفا».
ويرتبط بفكرة خدمة الآخرين مفهومُ الحب الإيثاري؛ فالمسيح أعطى الحب («أجابا») أهميةً كبيرةً في تعاليمه، وفي الماهايانا تحتلُّ الشفقة («كارونا») مكانةً محورية. وفي واقع الأمر، فإن الشفقة إزاء معاناة الآخرين هو ما يُحفِّز البوديساتفا للتضحية بنفسه نيابةً عنهم. وبطبيعة الحال، لا يستطيع البوديساتفا «فداء» الآخرين مثلما فعل المسيح. وبدلًا من ذلك، فإنه يُكرِّس جهودَه ليُصبح «صديقًا جيدًا» لجميع الناس؛ فهو يساعدهم من خلال كونه قدوةً لهم، ومن خلال تقليل معاناتهم بطرقٍ عملية، ومن خلال تشجيعهم، ومن خلال تعليمهم طُرق التحرر.
أفكار جديدة عن بوذا
مع تَصدُّر صورة البوديساتفا الساحة، بدأت صورة بوذا في التراجُع وأصبحتْ أكثر روحانية. وعند ظهور الماهايانا، كان بوذا قد مات منذ عدة قرون، ومع تزايُد المبالغة والتفاصيل المثيرة غير الحقيقية في الروايات التي تقصُّ حياته، أصبح الناس يعتقدون أنه نصف إله. وزاد من هذه الهالةِ الصوفيةِ الغموضُ الذي اكتنف وضع بوذا في النيرفانا الأخيرة؛ فعلى الرغم من أن طائفة الأقدمين قالوا إنه رحل من هذا العالم إلى النيرفانا النهائية، كان هناك اعتقاد أيضًا بأنه يوجد في عالمٍ روحانيٍّ متسامٍ. واستنتج أتباع الماهايانا أن كائنًا رحيمًا مثل بوذا لا يمكن أبدًا أن يعزل نفسه عن الآخرين، واعتقدوا أنه ما زال «موجودًا» في مكانٍ ما، يعمل بفعالية من أجل سعادة الكائنات، تمامًا مثلما كان يفعل على الأرض. وتماشيًا مع هذا المعتقد، ظهرت طوائف دينية متشددة تُمجِّد وتُبجِّل بوذا وتطلب منه الشفاعة. وإذا كان البوديساتفا يشبه المسيح في الحب والخدمة التي يقدمها للبشر، فإن بوذا يمثل الأبَ الرَّبَّ والكائنَ الروحانيَّ الكريم، غيرَ الموجود في العالم لكنه موجود في مكانٍ قريبٍ في عالمٍ سماويٍّ، ويهتم بحرصٍ أبويٍّ برفاهية أبنائه.
وفي نهاية الأمر، أسفرت هذه الأفكار عن تصوُّرٍ كاملٍ للكون من منظور الماهايانا، وكذلك أنتجت «بوذية» جديدة تتصوَّر أن بوذا له «ثلاثة أجسام» («تريكايا») أو أنه يوجد في ثلاثة أبعاد: بُعد أرضي، وبُعد سماوي، وبُعد متسامٍ. أما الجسم الأرضي («نيرماناكايا») فهو الجسم البشري الذي كان يمتلكه عندما كان على الأرض. أما الجسم السماوي («سامبوجاكايا») فكان في عالمٍ منعَّمٍ يوجد في مكانٍ «مغايرٍ» للعالم الذي نسكنه الآن، ولا يختلف عن الجنة في المفهوم المسيحي. أما الجسم المتسامي («دارماكايا») فهو يُمثِّل بوذا الذي اعتقدوا أنه يساوي الحقيقةَ المطلقة، وهذا المنظور لا يختلف في عدة أمورٍ عن الطريقة التي تحدَّث بها الصوفيون المسيحيون والفلاسفة عن الرَّبِّ باعتباره المطلق أو الحقيقة المطلقة (مذاهب الماهايانا تفهم هذه المصطلحات بتفسيراتٍ شتى). أما آخِر تشابهٍ مع العقيدة المسيحية يمكن ذكره، فهو أنه مثلما سيكون «مجيء ثانٍ» قبل يوم القيامة، نشأ اعتقادٌ بأن أحد البُددة (جمع بُد؛ أي بوذي) واسمه مايتريا سوف يظهر في نهاية العصر الحالي، وعندها سيسود عصر مثالي يكتسب فيه الناسُ التنويرَ. وهذه الفكرة (الموجودة أيضًا في بوذية تيرافادا) وضعت الأساس لعددٍ من الطوائف المسيحية التي لاقتْ رواجًا من وقتٍ لآخر في أنحاء كلٍّ من شمال آسيا وجنوبها.
إن أهمية الانقسام الذي حدث في البوذية مع ظهور الماهايانا لا يختلف عن الانقسام الذي حدث في عصر الإصلاح عندما انقسمت المسيحية اللاتينية إلى الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروتستانتية؛ فكلا الانقسامين ترك أثرًا طويل المدى على الساحة الدينية، ويُعرِّف البوذيون أنفسَهم باعتبار انتمائهم للماهايانا أو للتيرافادا مثلما يُعرِّف المسيحيون أنفسَهم على أنهم كاثوليك أو بروتستانت. علاوةً على ذلك، توجد تشابهات عقائدية بين كلٍّ من البروتستانتية والبوذية القديمة تتمثَّل في أن كلتيهما ترى أن الخلاص مسئولية الفرد في الأساس، بينما الكاثوليكية (وأيضًا الكنائس الأرثوذكسية)، وكذلك بوذية الماهايانا تعتقد أن المساعدة والشفاعة أمران ممكنان الحدوث من خلال وساطة القديسين والبوديساتفا. ومن غير الحكمة التوغُّل في سرْد أوجه الشبه؛ لأنه يوجد أيضًا الكثير من الاختلافات؛ فعلى سبيل المثال، كانت الماهايانا في بدايتها حركةً غير واضحة المعالم، ولم تكن منظمةً عبر طوائفَ مختلفةٍ، ولم يكن يوجد فاصل جذري بين أتباع الماهايانا وأتباع المذاهب الأخرى، وكثيرًا ما كان الرهبان المرسمون في الجمعية العامة، أو حتى في فروع تقليد الأقدمين، يتعاطفون ويتجاوبون مع أفكار الماهايانا رغم عَيشهم في جماعةٍ مع إخوة لا يؤمنون بها.
نصوص الماهايانا
كانت نواة الماهايانا سلسلةً من النصوص الحديثة ظهرتْ في القرون الأولى للحقبة المسيحية. وعلى الرغم من أن النصوص القديمة (يسمى النص بالسنسكريتية: «سوترا») الموجودة في قانون بالي يُعتقد أنها كلام بوذا نفسه، فإن النصوص («السوترات») الجديدة لا يمكن عزْوُها بسهولةٍ إلى المؤسِّس. ورغم ذلك، فإن هذه النصوص — التي كانت مجهولةَ المؤلِّف ويظهر في الغالب أنها أعمال لعدة مؤلفين — اكتسبت مرجعية كبيرة لأنها بدت حالمة وملهمة. علاوةً على ذلك، فإن التصوُّر الكوني الجديد الذي قدَّمتْه الماهايانا، جعل من الممكن الزعمَ بأن بوذا إن لم يكن المؤلِّف البشري ﻟ «السوترات» الجديدة، فإنه على الأقل مؤلفها الروحي؛ لأن حِكمته ظلَّت تنبعث من المستويات العليا للكون إلى العالم البشري.
بقايا مخطوطات خاروستي
على مدار ما يزيد على نصف قرنٍ كان الباحثون يتكهَّنون بوجود قانونٍ بوذيٍّ مفقود من منطقة جاندارا الواقعة شمال غرب الهند. وثَبَت وجود هذا القانون ثبوتًا قاطعًا عقب استحواذ المكتبة البريطانية في عام ١٩٩٤ على مجموعة بقايا مخطوطاتٍ عددُها تسع وعشرون، موجودة في ثلاثَ عشْرةَ لفافة مصنوعة من جذع شجر القضبان. كانت المخطوطات مدفونة في قِدرٍ من الطمي لمدة ألفَي سنة تقريبًا، وهذا يجعلها أقدم المخطوطات البوذية (والجنوب آسيوية) المتبقية. وما زال الموقع المحدَّد الذي عُثر فيه على القِدر غير معلوم، لكنه على الأرجح في هدا أو بالقرب منها، وهدا هو موقع مجمع دير قديم بالقرب من جلال آباد في شرق أفغانستان. وتحمل القِدر نقشًا مُهدًى إلى معلمي إحدى المدارس القديمة المهمة المعروفة باسم دارماجوبتاكا؛ مما يرجِّح أن المخطوطات جاءت من مكتبة دير يتبع مدرسة دارماجوبتاكا. لغة النصوص هي اللغة الجاندارية، والنقش المكتوبة به هو الخاروستي؛ ولهذا السبب يُشار إلى المخطوطات أحيانًا باسم «بقايا مخطوطات خاروستي» أو «مخطوطات خاروستي». وما زالت مخطوطات جاندارية أخرى تابعة لفترات مختلفة موجودةً ضمن مجموعاتٍ أخرى؛ مما يوفِّر بيانات مقارنة مثيرة.
ازدهر الفن البوذي والثقافة البوذية في منطقة جاندارا (وتوجد تقريبًا في الموقع الحالي لباكستان وأفغانستان) على مدار نحو ثمانية قرون، من القرن الثالث قبل الميلاد فما يليه. في أَوْجِها، من نحو عام ١٠٠ قبل الميلاد إلى عام ٢٠٠ ميلاديًّا، كانت العاصمة المزدهرة والمرموقة للسلالات الثرية، وكانت على الأرجح أهم مركز للبوذية في العالم القديم. ونظرًا لوقوعها على جانبَي طرق التجارة الرئيسية، فقد مثَّلت البوابةَ الرئيسية لنقل البوذية من الهند إلى آسيا الوسطى والصين. لطالما كانت المنطقةُ غنيةً بالبقايا الأثرية، والنقوش، والأعمال الفنية، لكن حتى وقتٍ قريبٍ لم يكن معروفًا إلا القليلُ عن قانونها التشريعي المكتوب. إن أهمية مجموعة مخطوطات خاروستي لفهم البوذية القديمة قد تُشبه أهمية مخطوطات البحر الميت لفهم المسيحية. وقد بدأ الباحثون في إعادة التفكير في كثيرٍ من الافتراضات المتعلقة بتشكيل ونقل التعاليم البوذية القديمة. ويبدو الآن، على سبيل المثال، أن النصوص تُمثِّل «حلقة مفقودة»؛ لأن كثيرًا من الترجمات الصينية للنصوص البوذية أقرب إلى النُّسخ المكتوبة باللغة الجاندارية منها إلى النسخ المشابهة المكتوبة باللغة السنسكريتية أو باللغة البالية. ونُشر كثيرٌ من هذه النصوص كجزءٍ من مشروعٍ مشتركٍ بين المكتبة البريطانية وجامعة واشنطن، وهذه النصوص بالإضافة إلى بقايا أخرى متبقيةٍ تعود إلى فتراتٍ مختلفةٍ تُقدِّم رؤًى جديدة عن وضع وتوحيد ونشر القوانين التشريعية البوذية عبر التاريخ.
بدأت سوترات الماهايانا الكبرى، مثل «سوترا اللوتس» (تقريبًا عام ٢٠٠ بعد الميلاد) مراجعةً جذريةً للتاريخ البوذي القديم. وزعَم أصحابها في الأساس أنه على الرغم من أن بوذا المشهور تاريخيًّا يبدو أنه قد عاش ومات مثل أي شخصٍ عادي، فإنه في واقع الأمر كان قد اكتسب التنويرَ منذ زمنٍ سحيق. ورغم ذلك فإنه، باعتباره معلمًا حكيمًا ورحيمًا، قام بتمثيليةٍ متقَنةٍ لمواءمة توقعات الناس في ذلك الزمان. وكما أنه لن يُقدِم مُعَلِّمٌ متمرِّس على تدريس مادة متقدمة مثل حساب المثلثات لطلاب بدءوا لِتَوِّهِم في تعلُّم الرياضيات، فقد كشف بوذا عن تعاليمَ محدودةٍ — أبجدية روحانية — علم أن أتباعه الأولين سيتمكنون من استيعابها. وسبب هذا التصرُّف هو أن العمق والنطاق الحقيقيَّيْن للدارما — التي أصبحَتِ الآن واضحةً تمامًا في الماهايانا — كانا عميقين على نحوٍ لا يمكن قياسه، وبدلًا من تشويش الناس وإرهاقهم بما يفوق طاقتهم، استخدم بوذا «وسائل ماهرة» («أوبايا كوشاليا») لتقديم الحقيقة لهم بطريقةٍ مبسَّطة.
توجد فقرة شهيرة في «سوترا اللوتس» — أمثولة البيت المشتعل — حيث يتشبَّه بوذا بأبٍ حكيمٍ يرى أن البيت الذي يقيم فيه أبناؤه يحترق، فيفكر في أفضل طريقةٍ يقودهم بها إلى الأمان. ونظرًا لانشغال الأطفال بألعابهم، فإنهم لم يُدركوا الخطر المحدق بهم وتردَّدوا في مغادرة المنزل؛ ولذلك، وعد بوذا الأطفالَ بلُعَبٍ جديدةٍ في انتظارهم خارج المنزل، وتبعه الأطفال المتحمسين للخارج وأنقذهم من النيران. في هذه الأمثولة يمثِّل البيتُ المشتعل «السامسارا» — عالم المعاناة واللاديمومة — والأطفالُ هم الأتباعُ الأولون. ونظرًا لأنهم كانوا طفوليين ومُنْكبِّين على ذواتهم، فقد جذب بوذا انتباهَهم بأن وعدهم بتعاليمَ من نوعٍ عَلِمَ أنهم سيجدونه جذابًا. والآن بما أن الأطفال قد أُنقذوا من الخطر المباشر، فإن الحقيقة الكاملة أصبح من الممكن كشفها؛ ومن ثَمَّ، فإن وجهة نظر الماهايانا هي أن المعتقدات الأولية — على الرغم من أنها ليست مزيفةً — غير كاملة، وأنه ثَمَّةَ حاجة إلى «دورةٍ ثانيةٍ لعجلة الدارما» كي تكتمل تلك المعتقدات. وغالبًا ما سخرتْ سوترات الماهايانا من المذاهب الأولى، وقد أطلقت عليها وصفًا مهينًا، هو «هينايانا»؛ أي «العربة الصغرى». وتُصوِّر بعض التعاليم، مثل «تعاليم فيمالاكيرتي» (تقريبًا عام ٤٠٠ بعد الميلاد)، الرهبان المتعلمين المنتمين إلى التقليد القديم في حيرةٍ من أمرهم أمام أحد العوام («فيمالاكيرتي») وهو يكشف ببراعةٍ التعاليم العليا للماهايانا.
إن أهم ما سعى إليه أتباع الماهايانا من خلال ممارستهم الدينية هو اتِّباع طريق البوديساتفا. وعلى مدار عدة قرون تحددت المراحل المتعددة ﻟ «مهنة» البوديساتفا على نحوٍ مفصَّل. وكانت المرحلةُ الأولى المهمة هي نشأةَ ما يُعرف باسم «فكر التنوير» أو «بوديتشيتَّا». ويمكن تشبيه هذه المرحلة بتجربة تَحوُّل، كما أنها النقطة التي ينشأ عندها الحافز الأوَّلي لأن يصبح المرء بوديساتفا لكي ينقذ الآخرين. وبعد ذلك يسعى الفرد إلى أن يصبح بوديساتفا، وفي هذه الأثناء يقطع على نفسه عهد («برانيدانا») بأن يُنقذ كل الأشخاص وأن يقودهم إلى النيرفانا، مهما استغرق هذا الأمر من وقت.
وتوجد ست فضائل مهمة لممارسة البوديساتفا، وتُعرف بالمثاليات الست (انظر مربع النص). وكلما مارَس البوديساتفا هذه المثاليات أحرز تقدمًا في نظام المراحل العشر («بومي»)، وكل مرحلةٍ من هذه المراحل تُعد خطوةً مهمَّة على طريق الوصول إلى النيرفانا. وعلى الرغم من أن هذا النظام يمثِّل إعادة صياغةٍ للتعاليم الأولى، فإن الطريق الجديد للنيرفانا لا يختلف اختلافًا جذريًّا عن ذلك الموجود في الطريق الثُّماني، ويمكن أن نرى أن التقسيمات الثلاثة للطريق الثُّماني — الأخلاق والتأمُّل والحكمة — تظهر بين المثاليات الست.
فضائل الماهايانا
المثاليات الست (باراميتاس) للبوديساتفا هي:
(١) الكرم (دانا).
(٢) الأخلاقية (سيلا).
(٣) الصبر (كسانتي).
(٤) الشجاعة (فيريا).
(٥) التأمل (سامادي).
(٦) الحكمة (براجنيا).
وبوذا الموجود في الجهة الغربية يُعرَف باسم «أميتابا» («الضوء اللانهائي»). وفي بوذيَّة شرق آسيا، أصبح بوذا مركزَ طائفةٍ شهيرةٍ قامت على أساس جنةٍ رائعةٍ أو «أرض نقية» كان يُعتقد أنه يسكنها. وقد قطع أميتابا (يُعرف في اليابان باسم أميدا) على نفسه عهدًا أنه إذا اكتسب التنوير فسوف يساعد أي شخصٍ يتوسَّل باسمه بروحٍ من الإيمان، وتتمثَّل هذه المساعدة في أن يضمن له أنه سيُولَد من جديدٍ في أرضه النقية المعروفة باسم «سوكافاتي» («المباركة بالسعادة»). ومن الواضح أنه مع مثل هذه التطوُّرات، التي حدثت خلال القرون الميلادية الأولى، ابتعدت الماهايانا إلى حدٍّ ما عن التعاليم الأولى لبوذا التي تقول إن الخلاص مسئولية الفرد، واقتربتْ من قبول أن الخلاص يمكن الحصول عليه من خلال الإيمان والعفْو. وكذلك في مذهب الأرض النقية — الذي ظهر في ظله مثل هذا النوع من الأفكار — لم تكن الجنة الغربية لأميتابا مثل النيرفانا، والشخص الذي يُولَد من جديدٍ في تلك الجنة يظل في حاجةٍ إلى بذل جهدٍ أخيرٍ لاكتساب التنوير بنفسه.
تطوُّرات فلسفية
مع تعدُّد «السوترات» الجديدة، بدأ المعلمون البوذيون تأليف تعليقاتٍ وأطروحاتٍ تُقدِّم الأساس الفلسفي لمعتقدات الماهايانا. وأشهر هؤلاء الفلاسفة كان ناجارجونا الذي عاش تقريبًا في عام ١٥٠ ميلاديًّا، وأسَّس مذهبًا يُعرف باسم مادياماكا أو «المذهب الوسطي». وقد استخدم مفهوم «الطريقة الوسطى» التقليدي بأسلوبٍ جدليٍّ معقَّد؛ وبذلك قاد النتائج المؤكدة للتعاليم الأولى إلى استنتاجها المنطقي. عند مناقشة حقيقة النشأة في الفصل الرابع أشرنا إلى معتقد النشأة المعتمدة. لقد فهم تقليد مذهب التيرافادا القديم، الذي يُعرَف باسم أبهيداما («الدارما العليا») أن معتقد النشأة المعتمدة يشير إلى نشأة وتدمير العناصر الحقيقية، التي أطلق عليها «الدارمات». لقد اعتقدوا أن الدارمات هي المكونات التي تتألف منها كل الظواهر. واعتقدوا أنها غير دائمةٍ لكنها حقيقية. وعلى هذا الأساس، حلَّلوا أشياءَ مثل الطاولات والكراسي على أنها مكونات لعناصرَ بدلًا من اعتبارها كياناتٍ ذات طبيعةٍ مستقلةٍ دائمة؛ فالكرسي على سبيل المثال يمكن أن يُرى في ضوء أنه مكوَّن من أَرْجُلٍ ومقعدٍ وظهرٍ فحسب، وأنه لا يزيد عن كونه مكوَّنًا من تلك الأجزاء.
ورغم ذلك، فإن ناجارجونا فسَّر معتقد النشأة المعتمدة بطريقةٍ جديدةٍ إلى حدٍّ كبير. فعلم أتباعه أن الدارمات لا تتسم بالديمومة فحسب، لكنها أيضًا تفتقر تمامًا إلى الواقعية المتأصلة. ولخَّص ذلك قائلًا إن كل الظواهر — الطاولات والكراسي والجبال والناس — ببساطةٍ «خاليةٌ» من أي كيانٍ واقعي. ومع ذلك أكَّدت المادياماكا بشدةٍ على أن هذا المعتقد لا يعني العدم؛ فالمبدأ لا يزعم أن هذه الأشياء غير موجودة؛ فهي ببساطةٍ لا توجد باعتبارها كياناتٍ واقعيةً مستقلةً على النحو الذي يفترضه الناس عادةً. وزعمت المادياماكا أن الوضع الحقيقي للظواهر هو شيء بين الوجود واللاوجود، ومن منطلق هذا التفسير ﻟ «الطريقة الوسطى» اكتسب المذهب اسمه.
هذا الفكر له نتيجة أخرى مهمة تتمثَّل في إمكانية عدم وجود اختلافٍ بين النيرفانا وبين عالم الميلاد المتكرِّر الدوري («سامسارا»). لقد قال ناجارجونا إنه إذا كان كل شيء خاليًا من الوجود الحقيقي، فمن خلال نظرةٍ عميقةٍ سنُدرك أن كل الأشياء على قدم المساواة. إذنْ على أي أساسٍ يمكن التفريق بين النيرفانا و«السامسارا»؟ لا يمكن إيجاد اختلافٍ بين الأشياء في حدِّ ذاتها؛ لأنها كلها «خالية» تمامًا؛ ولذلك فالفرق الوحيد يكمن في تصوُّرنا لها. وأعطى مثالًا لشخصٍ يظن خطأً في ضوء الغسق أن لفةَ الحبل ثعبان ويصيبه الهلع. وعندما يُدرك هذا الشخص خطأه ينزوي خوفه وتختفي رغبته في الهروب. واستنتج ناجارجونا أن ما نحتاجه للتحرُّر هو بالضرورةِ الرؤيةُ الصحيحةُ — أن نرى الأشياء على حقيقتها — بدلًا من الشروع في الهروب من الواقع الذي نفترض أنه معيب («سامسارا») إلى واقعٍ أفضل (النيرفانا). وبهذه الطريقة أعادت المادياماكا تفسير النيرفانا بوصفها رؤيةً منقَّاة لما يرى الجاهل أنه «سامسارا». وتمثَّل هذا التعريف في أن النيرفانا توجد في المكان والزمان الحاليين فقط إذا أمكن لنا رؤيتها. إن التخلُّص من الجهل الروحي («أفيديا») وإدراك أن الأشياء خالية يدمِّر الخوف — أو الشهوة — الذي نُكنُّه تجاهها. وأطلق ناجارجونا وأتباعه على مجموعة الأفكار المعقدة التي قدَّموها اسم «معتقد الخواء» («شونيافادا») وأصبح هذا المعتقد مصدر إلهامٍ لفكر الماهايانا عبر القرون فجعلهم يكتبون عددًا لا حصر له من التعليقات والأطروحات.
بالإضافة إلى معتقد الخواء، ظهر العديد من الأنظمة الفلسفية المعقدة الأخرى، مثل معتقد «العقل فقط» («تشيتاماترا»)، وهو نوع من المعتقدات المثالية يرى أن الوعي هو الواقع الوحيد، وينكر الوجود الموضوعي للأشياء المادية. ويبدو أن التجربة التأمُّلية لعبت دورًا مهمًّا في تطوُّر هذا المذهب كما يمكن أن يُرى من اسمه البديل — يوجاكارا أو «ممارسة اليوجا». ولا يسعنا المجال في هذا الكتاب لاستعراض مدى تعقيد هذه الأفكار، ولا لتوضيح ثراء وتنوُّع فكر الماهايانا في العموم، وسوف نُحيل القارئ في آخر الكتاب إلى مصادرَ للاطِّلاع عليها للحصول على تفاصيلَ إضافية.
ملخص
لا ترفض الماهايانا أيًّا من التعاليم الأولى لبوذا، على الرغم من أنها في بعض الأحيان تعيد تفسيرها بطرقٍ جديدةٍ تمامًا. وترى الماهايانا أنها تسترجع المعنى الحقيقي للتعاليم الأولى التي تزعم أن التقليد القديم عجز عن إدراكها. وفي واقع الأمر، كثير من الأمور الموجودة في الماهايانا ليس بجديد؛ فعلى سبيل المثال، فكرة الشفقة الإيثارية — التي تُعبِّر عنها مثالية البوديساتفا — واضحة بالفعل في حياة بوذا التي قضاها في خدمة الآخرين. ويمكن رؤية مبدأ الخواء في صورته البدائية في تعاليم عدم الديمومة واللاذات. وأخيرًا، فإن تجربة التأمُّل التي يدخل فيها العقل في غشيات عُليا وتوصف بأنها تجربة منيرة ونقية يمكن أن تتنبأ بسهولةٍ بالاستنتاج القائل إن الوعي نفسه هو الحقيقة الأساسية.
حققت الماهايانا قدرًا كبيرًا من التجديد في عدة مجالات، كان أبرزها تجديد علم البوذية وطوائف المُريدين التي ظهرتْ حول العديد من البُددة ورهبان البوديساتفا. وكان شمال غرب الهند نواةً مبكِّرة للماهايانا، وقد خمَّن الباحثون إمكانية وجود تأثيرٍ للهلنستية والزرادشتية على البوذية، ذلك التأثير الذي قد يكون مسئولًا عن تلك التطوُّرات؛ فهذه المنطقة كانت بوتقةً ثقافيةً تدفَّق فيها العديد من الأفكار والبضائع والسلع من طرق التجارة الآسيوية. وعلى الرغم من جاذبية هذه التصوُّرات، فلا توجد حاجة حقيقية لاستدعاء فكرة التأثير الخارجي لتفسير الزيادة المفاجئة للطوائف الدينية في البوذية. وأحد أسباب ذلك هو أن طوائف المريدين كانت رائجةً في الهند أيضًا، وأن عبادة الإله الهندي كريشنا تسبق المسيح بقرونٍ عدة. وأما السبب الآخر فهو أنه من الممكن رؤية علامات وجود طائفة مريدين لبوذا ولغيره من القديسين أصحاب الشخصيات الجذابة حتى في العصور الأولى. وبعد وضْع كل هذه الأمور في الاعتبار نجد على الأرجح أن طوائف المريدين — بالإضافة إلى غيرها من التجديدات المذكورة في هذا الفصل — كانت تطوُّرًا مستقلًّا نشأ بصورةٍ طبيعيةٍ في دورةٍ معينةٍ خلال تطوُّر البوذية عندما شُرحت الأفكار التي لم تكن واضحةً في التعاليم الأولى.