انتشار البوذية
أشوكا
كانت البوذية منذ بداياتها ديانةً تبشيرية؛ فقد تجوَّل بوذا في منطقةٍ كبيرةٍ ناشرًا تعاليمه، وحضَّ أتباعه بوضوحٍ على أن يحذُوا حذْوَه من خلال هذه الكلمات: «اذهبوا أيها الرهبان وتجوَّلوا من أجل خير ورفاهية الناس.» شهد انتشار البوذية زخمًا كبيرًا في القرن الثالث قبل الميلاد عندما أصبح واحدٌ من أعظم الشخصيات في التاريخ الهندي — ويُدعى أشوكا موريا — إمبراطورًا للهند في حوالي عام ٢٦٨ قبل الميلاد. من خلال الغزو، وسَّع أشوكا رقعة الإمبراطورية المورية وجعلها أكبر إمبراطورية شهدتها الهند حتى الحكم البريطاني. وبعد حملةٍ دمويةٍ على الساحل الشرقي في المنطقة التي تُعرف اليوم باسم أوريسا، شعر أشوكا بالندم وتحوَّل إلى البوذية. وطوال بقية حُكمه الطويل حكم أشوكا وفقًا لتعاليم البوذية، وازدهرت البوذية تحت رعايته. وبالإضافة إلى المساعدة في ترسيخ قواعد البوذية في الهند، أرسل أشوكا أيضًا المبعوثين إلى ممالك حكَّام الشرق الأدنى ومقدونيا، ووفقًا للسجلات السنهالية، إلى جنوب شرق آسيا. وتوجد أخبار هذه البعثات الأولية في النقوش الحجرية التي تركها أشوكا في أنحاء مملكته، وتُقدِّم هذه النقوش بياناتٍ موثوقةً إلى حدٍّ كبيرٍ عن تاريخ الهند القديم. ولا يُعرف بأي قدرٍ من التأكيد ماذا كان مصير تلك البعثات، لكن يبدو أن البعثات التي أُرسلت إلى الغرب كان تأثيرها ضئيلًا؛ نظرًا لأن أقدم ذِكر باقٍ للبوذية في الوثائق الغربية يوجد في كتابات إكليمندس الإسكندري في القرن الميلادي الثاني (والإشارات الكلاسيكية القديمة إلى «السارمانيون والسامانيون» الهنود قد تشير أيضًا إلى البوذية).
البوذية في الهند
في الهند نفسها، أُسست جامعاتٌ عريقةٌ مثل تلك الجامعة الموجودة في نالاندا بالقرب من موقع مدينة باتنا الحالية، وقد ازدهرت تلك الجامعات ما بين القرنين السابع والثاني عشر من الميلاد. وكان عدد كبير من الطلاب، يُقدَّر بنحو عشرة آلاف طالبٍ، يلتحقون بتلك الجامعات في أيِّ وقتٍ لتَلقِّي دوراتٍ دراسيةٍ في مختلِف فروع البوذية مثل المنطق والقواعد اللغوية ونظرية المعرفة والطب ودراسة المادياماكا وغيرها من الفلسفات. وانتشرت أيضًا مراكزُ بوذية مهمة في كلٍّ من الجنوب وأقصى الشمال الغربي، وكان أقصى الشمال الغربي بوابةً مهمة لانتشار البوذية في آسيا الوسطى والشرق الأقصى.
وخلال النصف الأول من الألفية الأولى من الميلاد، ازدهرت البوذية، على الرغم من أنها عانت من عقبةٍ في حوالي عام ٤٥٠ من الميلاد على يد قبيلةٍ من آسيا الوسطى تُعرف باسم الهون البيض عندما دمَّرَتِ الأديرةَ البوذية في أفغانستان وفي شمال غرب الهند. وفي النصف الثاني من الألفية، اختلطتْ حظوظ البوذية، وفي نهاية هذه الفترة شهدت البوذية تراجعًا في الهند. وفي أواخر القرن العاشر، تعرَّض شمال الهند للهجوم مرةً أخرى. وفي هذه المرة كان الغزاةُ مسلمين أتراكًا شنُّوا سلسلةً طويلةً من الحملات في غضونها توغَّلوا إلى عمق شمال شرق الهند؛ مما جعلهم يحتكُّون بالموطن القديم للبوذية. واتَّخذت هذه الحملات شكل الغارات التي كان دافعُها الرغبةَ في الغنيمة ومبررُها مبدأَ «الجهاد». وعانت البوذية بشدةٍ من هذه الغارات؛ لأن الأديرة غير المحصَّنة مثَّلتْ غنيمةً سهلة. اعتُبر البوذيون «وثنيِّين» في نظر المسلمين بسبب صور البُددة ورهبان البوديساتفا التي كانت تُزيِّن أديرتهم، ودُمرت الأعمال الفنية وأُحرقت المكتبات بالكامل. وفي عام ١١٩٢ بسطتْ قبيلة تركية حُكمها في شمال الهند، وتُعرف السلسلة الأولى من السلالات المسلمة باسم سلاطين دلهي. وكانت القرون القليلة التالية عصر تقلُّبات وتشوُّش، إلى أن بدأ المغول عصرَ استقرارٍ نسبيٍّ وتسامُحٍ دينيٍّ في القرن السادس عشر. ولكن لم يحدث ذلك إلا بعد فوات الأوان. وكما لو كانت البوذية تُجسِّد حقيقة تعليمها القائل بأن كل ما يظهر سوف يختفي، فقد اختفَتِ البوذية تقريبًا من الأرض التي شهدتْ مولدها.
ويمكن مناقشة تاريخ البوذية بسهولةٍ في بقية آسيا في سياق وجودها في الشمال والجنوب. وعلى العموم، فإن بوذية الماهايانا يشيع وجودها في الشمال، ويشيع تقليد الأقدمين في الجنوب. ونظرًا لبقاء مذهبٍ واحدٍ فقط من الاثني عشر مذهبًا من التقليد القديم، الذي يُعرف بمذهب التيرافادا، سوف أتحدث من الآن فصاعدًا عن الشكلين الرئيسيَّين المتبقيَين من البوذية المعروفَين باسم الماهايانا والتيرافادا.
سريلانكا
بدءًا بدول الجنوب، التي تنتشر بها بوذية التيرافادا، نجد أن جزيرة سيلون — موطن دولة سريلانكا الحالية — قد لعبت دورًا أساسيًّا في الحفاظ على التراث البوذي وتطويره. ووفقًا لسجلات البوذية المحفوظة في سريلانكا، فقد دخلَتِ البوذية إلى سيلون في عام ٢٥٠ قبل الميلاد على يد راهبٍ يُدعى ماهيندا، مبعوث من قِبل الإمبراطور أشوكا. أسَّس ماهيندا ورفاقه الرهبان مجتمَعًا للرهبان في ماهافيرا («الدير الكبير») في العاصمة أنورادابورا. وفي سريلانكا في وقتٍ يقرب من عام ٨٠ قبل الميلاد، دُوِّن قانون بالي للمرة الأولى كتابةً؛ وكان ذلك نتيجةً للمخاوف من اندثار طريقة النقل الشفهي للتراث بسبب الحرب والمجاعة.
وكان من أشهر سكان الجزيرة الراهبُ الهندي بوداجوزا الذي وصل في القرن الخامس من الميلاد. وجمع بوداجوزا ودقَّق وحرَّر التعليقات الأولى على القانون وترجمها إلى اللغة البالية. ويمكن تشبيه مكانته وتأثيره بمكانة وتأثير أب الكنيسة القديس جيروم (٣٤٧–٤٢٠) الذي عاش قبله بفترةٍ قصيرة وترجم الإنجيل إلى اللغة اللاتينية. وظلَّ عمل بوداجوزا الكلاسيكي المعروف باسم «فيسوديماجا» أو «طريق التطهير» — كتاب يجمع كلَّ ما هو متعلق بالمعتقد والممارسة — علامةً مميزةً في أدبيات التيرافادا.
منذ القِدم امتزجت البوذية والسياسة في تاريخ سريلانكا، ووُجدتْ علاقة تبادلية وثيقة بين المعبد البوذي والدولة، أو بين «السانجا» والملك. وكان الملوك يحظَون بالرسامة من قِبل الرهبان، وكان الرهبان يعملون باعتبارهم مستشارين يفسِّرون التعاليم البوذية للحاكم. وعلى الرغم من أن الرهبان في الوقت الحالي ممنوعون بموجب الدستور من تقلُّد أيِّ منصبٍ سياسي، فإنهم يحظَون بنفوذٍ كبيرٍ في الشئون العامة. ومرَّتِ البوذية بفتراتٍ عديدةٍ من الاضمحلال على مدار تاريخها في سريلانكا. وفي أغلب الأحيان، حدثت هذه الفترات في أعقاب الغزو — مثل غزو التاميل الهنود — أو في فترات الاضطرابات الأهلية. وفي مراتٍ عديدة، اندثر تقليد ترسيم الرهبان، وكان لزامًا الإرسال في طلب الرهبان من بورما في عام ١٠٦٥، وفيما بعدُ من تايلاند في عام ١٧٥٣ من أجل استئناف تقليد الترسيم. حصلتْ سريلانكا على استقلالها من البريطانيين في عام ١٩٤٨، لكن في العصور الحديثة ما زالت تعاني من مشكلاتٍ سياسيةٍ وحروبٍ أهليةٍ متقطعةٍ بين الأغلبية البوذية السنهالية (مثَّلت نحو ٧٠ بالمائة) والأقلية التاميلية من سكان الشمال. وفي بعض الأوقات، زوَّد الرهبان البوذيون سخونةَ الأحداث بتشبيه الخلاف بالحرب المقدَّسة والمطالبة بإجراء تعديلٍ دستوريٍّ تمييزي. وبلغ هذا الأمر ذروته في عام ١٩٥٩ عند اغتيال رئيس الوزراء إس دبليو آر دي باندارانايكي على يد أحد الرهبان البوذيين الذي شعر بأن موقفه تجاه التاميليين يميل كثيرًا إلى المصالحة. وفي عام ٢٠٠٩، هزمت القوات الحكومية السنهالية جبهة نمور تحرير تاميل إيلام، لكن ما زالت الدولة جريحةً من آثار العنف والاضطرابات السياسية في العقود الأخيرة.
جنوب شرق آسيا
من دول التيرافادا المهمة الأخرى الموجودة في جنوب شرق آسيا بورما (المعروفة رسميًّا الآن باسم ميانمار) وتايلاند (سيام سابقًا). ربما قَدِمت بوذية التيرافادا إلى هذه المنطقة على يد إحدى إرساليات أشوكا، وظلَّت بوذية التيرافادا حاضرةً بين السكان الأصليين من شعب المون منذ القرون الأولى للحقبة المسيحية. كان جنوب شرق آسيا يتطلَّع عادةً إلى الهند؛ نظرًا لإلهامها الثقافي، وظل تأثير كلٍّ من البوذية والهندوسية قويًّا في كل أنحاء المنطقة. ومنذ القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر، كانت القوة المسيطرة على المنطقة هي إمبراطورية الخمير التي كانت تشيع فيها أشكال مختلفة من الهندوسية وبوذية الماهايانا. وتزعم سجلات بورما أن بوداجوزا زار بورما ووضع تقليد الدراسة البحثية في النصوص البوذية المكتوبة باللغة البالية. وازدهر العديد من المذاهب البوذية إلى أن وحَّد الملك أناوراتا (١٠٤٤–١٠٧٧) البلاد عن طريق غزْو الجزء الجنوبي ومنْح ولائه للتيرافادا، على الرغم من أنه يُرجَّح أن التيرافادا كانت مسيطرة حتى قبل ظهوره في ذلك الوقت؛ ومن ثَمَّ استعاد شعب المون استقلاله، ولم يحدث أن قُمعوا حتى القرن السابع عشر. نهب المغول عاصمة أناوراتا، باجان، في عام ١٢٨٧، وأصبحت المدينة بما فيها من مباني الباجودا ومعابدها التي تُعد بالآلاف مهجورةً. وعلى الرغم من هذه النكبة، فقد تعافتِ البوذية وازدهرت، وحاليًّا نحو ٨٩ بالمائة من السكان يتبعون بوذية التيرافادا.
كانت التيرافادا موطَّدة الأركان في أجزاءٍ من الأرض المجاورة المعروفة باسم تايلاند، ولا سيما مملكة المون المعروفة باسم هاريبونياجايا ومملكة دفارافاتي، وفي القرن الحادي عشر أُرسلت الإرساليات من بورما إلى المنطقة. ووَجد التايلانديون الذين وصلوا إلى المنطقة في القرن الثالث عشر بعد طردهم من الصين على يد المغول أن تراث التيرافادا أبسط من أشكال بوذية الماهايانا المعقَّدة التي عرفوها في الشمال. وتلقَّت التيرافادا رعايةً ملكية، ولم يمر وقت طويل حتى حلَّتْ محل منافسيها من الديانات. واليوم يدين ٩٥ بالمائة من سكَّان تايلاند بالبوذية.
لا يختلف تاريخ البوذية في كامبوديا ولاوس وفيتنام عنه في بقية أجزاء آسيا، على الرغم من أن بوذية التيرافادا تُفسح الطريق على نحوٍ متزايدٍ أمام أنواع بوذية الماهايانا كلما اتجهنا ناحية الشرق. وتوجد أشكال كثيرة للتوفيق بين المعتقدات الدينية في هذه المناطق على هيئة مزيجٍ من التيرافادا والماهايانا والأديان المحلية للسكان الأصليين. وعندما تنتشر البوذية لا تميل إلى استئصال المعتقدات الموجودة، بل تدمجها في عالمها جنبًا إلى جنب مع الآلهة والأرواح المحلية. ومن الشائع للغاية أن تجد البوذيين في القرى يلجَئُون إلى آلهتهم المحلية بحثًا عن حلولٍ لمشكلاتهم اليومية — مثل علاج أحد الأمراض أو إيجاد شريك حياة — ويلجَئُون للبوذية بحثًا عن إجاباتٍ لأسئلةٍ كبرى متعلقةٍ بمصير البشر.
وفي شمال آسيا أيضًا، حيث تسيطر بوذية الماهايانا، يتم احتواء معتقدات السكان الأصليين. وقد ازدهرتْ بوذية الماهايانا في أنحاء آسيا الوسطى، وكذلك في التبت والصين واليابان وكوريا. وهنا سوف أُقدِّم استعراضًا مختصرًا فحسب للتطوُّرات الأساسية في الصين واليابان والتبت.
انتشار البوذية
ثلاث موجات دافعة رئيسية حملت البوذية من موطنها في الهند إلى بقية آسيا. انطلقت إحدى هذه الموجات إلى الشمال، والثانية إلى الجنوب الشرقي، والثالثة إلى الشرق الأقصى. والآليات الثلاث الرئيسية لانتشار البوذية كانت كالتالي:
(١) البعثات الدينية والدبلوماسية.
(٢) أعمال الباحثين والمفكرين.
(٣) المقايضة والمتاجرة.
(٤) الهجرة.
(٥) الإعلام وشبكات التواصل.
(١) سار الملوك في سائر أنحاء آسيا على نهج الملك أشوكا، وأصبح من العادات مرافقة الرهبان للبعثات الدبلوماسية، ومع ازدياد الدول المعتنِقة للبوذية أرسلت تلك الدول بدورها سفراء إلى الدول المجاورة لها. وبهذه الطريقة قُدمت البوذية إلى المستويات العليا، وانتشرت بين طبقات الصفوة ذات النفوذ. وفي أغلب الأحيان كانت التماثيل والنصوص وغيرها من المقتنيات الدينية تُرسَل باعتبارها هدايا؛ مما أثار الفضول لدى متلقِّي تلك الهدايا. وفي إحدى البعثات من هذا النوع، وكانت قادمةً من كوريا في عام ٥٣٨ ميلاديًّا، قُدمت البوذية إلى البلاط الإمبراطوري الياباني واعتنقها بحماسٍ الأمير شوتوكو، وقد تكرَّرت هذه الوتيرة في عدة مناسباتٍ في دولٍ أخرى.
(٢) إن أعمال الباحثين والفلاسفة على مرِّ القرون حوَّلت البوذية إلى تقليدٍ دائم التغيُّر من الناحية الفكرية وتراثٍ ثريٍّ يضم أفكارًا ونظرياتٍ جذبت المفكرين من أنحاءٍ أخرى من آسيا. وكان الشكل الأساسي الذي اتَّخذتْه هذه الجهود هو تجميعَ النصوص، على الرغم من أن تعاليمَ معينةً كانتْ محفوظة أيضًا في صورةٍ شفهيةٍ فحسب. ووقعتْ مسئولية التعليق على النصوص وتفسيرها أو شرح تعاليمها الشفهية الغامضة على عاتق أجيالٍ من الباحثين الذين درسوا على يد معلمين يتمتعون بمعرفةٍ متخصصةٍ في الموضوع. ومع انتشار البوذية، ظهر تحدٍّ جديدٌ تَمثَّل في ترجمة المفاهيم الفلسفية الهندية الغامضة إلى اللغات المختلفة تمامًا عن اللغات التي أُلفتْ فيها تلك النصوص. وقد استغرق الأمر في بعض الأحيان قرونًا من العمل، وصورًا كثيرة من سوء الفهم، قبل التمكُّن من ابتكار كلماتٍ مناسبةٍ تجعل الأفكار البوذية مفهومة لدى الأشخاص الذين لا يعتنقون وجهة النظر نفسَها عن العوالم المفترضة سلفًا في الكتابات البوذية. وفي أغلب الأحيان كانت المناظرات والنقاشات بين المفكرين البوذيين وأصحاب الثقافات الأخرى (مثل الصين) تؤدي إلى نهضةٍ تُثري كلا طرفَي الحوار.
(٣) كان من أهم وسائل انتشار البوذية طرق التجارة القديمة التي قطعتْ آسيا برًّا وبحرًا. وفي أغلب الأحيان كان الرهبان البوذيون يرافقون القوافل في رحلاتها البرية من واحةٍ إلى واحة، أو يسافرون بحرًا حول المياه الساحلية لآسيا. وكانت المدنُ التي تقام فيها أسواق كبيرة منتشرةً على طول هذه الطرق، ولا سيما في بدايتها ونهايتها، تستضيف جماعاتٍ حيويةً مكونةً من أعراقٍ وجنسياتٍ عديدة؛ مما ضمن انتقال الأفكار سريعًا. وكثير من التجار كانوا أثرياء وكان لديهم الوقت لإشباع فضولهم بشأن المعتقدات الجديدة، وكانوا يمتلكون الموارد المالية لتقديم التبرعات ورعاية الأنشطة الدينية. وكثير منهم أصبحوا رعاةً للبوذية؛ فشيَّدوا الأضرحة، وساهموا في بناء الأديرة وصيانتها، إما بدافع التقوى وإما بتوقُّع الفوز بميزةٍ كارميةٍ نتيجةً لأفعالهم الخيِّرة. والبعض الآخر استأجر فنانين لِصُنع أعمالٍ فنيةٍ دينية، مثل عمل تماثيل للبوذا والبوديساتفات، ومنحوتات حجرية أو خشبية، وتزيين الكهوف والمزارات المقدسة بالصور البوذية.
(٤) على الرغم من أنه كثيرًا ما حدثت تحرُّكات للسكان على مرِّ التاريخ، فإن تأثيرها على انتشار البوذية كان أكبر في العصور الحديثة؛ والسبب في ذلك يعود إلى حدٍّ كبيرٍ إلى اختراع وسائل المواصلات الحديثة. علاوةً على ذلك، فإن أعدادًا كبيرة من البوذيين العرقيين اضطُروا إلى ترْك أوطانهم في آسيا، إما نتيجةً للحاجة الاقتصادية وإما نتيجةً للصراعات الإقليمية. وعلى مدار القرنين الماضيين، هاجرتْ أعداد كبيرة من الصينيين واليابانيين البوذيين إلى أمريكا وأوروبا، مصطحبين دينَهم معهم. وبعد فترةٍ ليست ببعيدةٍ انضم إليهم بوذيون من فيتنام ومن أجزاءٍ أخرى في جنوب آسيا. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، هربتْ أعداد كبيرة من اللاجئين من التبت ليُشكِّلوا جزءًا مما أصبح معروفًا باسم «الشتات التبتي». وقد اتخذت أعداد كبيرة من لامات التبت من الغرب موطنًا لهم وأسسوا مجتمعاتٍ مخصصةً لدراسة هذا الشكل المميز من البوذية الخاصة بهم والحفاظ عليه.
(٥) إن اختراع الصحف، والتصوير الفوتوغرافي، وأجهزة التليفون، والتليفزيون، والفاكس، والكمبيوتر الشخصي، والإنترنت؛ غَيَّر جذريًّا طريقةَ الحصول على المعلومات في كلِّ أنحاء العالم. وكان معنى هذا التطوُّر التكنولوجي أنه أصبح من الممكن تقريبًا لأي شخصٍ الحصول على معلوماتٍ عن موضوعاتٍ مثل البوذية التي كانت في السابق متاحةً فقط لقلةٍ من البشر. وتحتوي المواقع الإلكترونية على مستودعاتٍ كبيرةٍ تضم النصوص والمعلومات، فضلًا عن وجود مجموعاتٍ عبر الإنترنت لمناقشة وتفسير التعاليم البوذية للوافدين الجدد. وقد قدَّمت السينما الكثيرَ من الجهود لرفع الوعي بالبوذية من خلال أفلام، مثل فيلم «بوذا الصغير» للمخرج بيرتولوتشي، وغيره الكثير من الأفلام. كما أصبح بوذا بمنزلة أيقونةٍ شائعةٍ ويُستخدم باعتباره علامةً تجاريةً للكثير من الشركات، مثل مجموعة «بوذا بار»؛ مما يثير استياء البوذيين المحافظين.
الصين
انتشرت البوذية شمالًا من الهند إلى آسيا الوسطى ووصلت الصينَ في منتصف القرن الأول. وفي هذا الوقت كانت سلالة هان الأخيرة (٢٠٦ قبل الميلاد–٢٢٠ من الميلاد) قد عزَّزَتِ النفوذ الصيني في آسيا الوسطى، وكان الرهبان البوذيون يسافرون في قوافلَ تَعبُر طريقَ الحرير؛ الطريقَ الأساسيَّ لنقل البضائع الفاخرة من الصين إلى الغرب. وبالنسبة إلى الصينيين البراجماتيين، بدت البوذية غريبة ومبهرة أيضًا. وكانت الأيديولوجية السائدة في الصين هي الكونفوشيوسية، وهي نظام مبادئ اجتماعية أخلاقية مأخوذة من تعاليم الحكيم كونج فو تسو أو كونفوشيوس (٥٥٠–٤٧٠ قبل الميلاد). وبدا في أمورٍ معينةٍ أن البوذية تتعارض مع القيم الكونفوشيوسية؛ فلقد اعتَبرت الكونفوشيوسية أن الأسرة هي أساس المجتمع، وكانت دعوةُ البوذيةِ الأبناءَ والبناتِ لترْك عائلاتهم والتخلي عن العالمِ السببَ في النظر إلى البوذية بعين الرِّيبة مثلما يُنظر اليوم إلى بعض طوائفَ معينة. علاوةً على ذلك، بَدَتِ «السانجا» (جماعة الرهبان البوذية) أشبه بدولةٍ داخل دولة، وقد مثَّل هذا تحدِّيًا لسلطة الإمبراطور وتهديدًا لنسيج الحياة الاجتماعية المتجانس الذي كان يُمثِّل النموذج الكونفوشي. بالإضافة إلى ذلك رفض الرهبان الانحناء أمام الإمبراطور؛ حيث إن الرهبان في الهند يحظَوْن بالتبجيل من قِبل العوام. وأدَّى مثل هذا النوع من الاختلافات الثقافية إلى الصراع وسوء التفاهم، وأشعل العداوة تجاه الدين الجديد.
على الجانب الآخر وُجدت أمور كثيرة جذبت الصينيين. لقد بدا أن البوذية تحل محل الكونفوشيوسية في الأمور التي تركتْها الأخيرة، وتصف العالمَ غير المرئي الذي لم تقل عنه الكونفوشيوسية سوى القليل. ذات مرةٍ سأل أحد التلاميذ كونفوشيوس فقال: «أيها المعلم، كيف يجب أن نتعامل مع الأرواح والآلهة؟» فكان الجواب: «لا يمكنك التعامل مع الأرواح والآلهة على نحوٍ لائقٍ قبل أن تتعلم كيف تُعامِل رفاقك من البشر على نحوٍ لائق.» وعندما استفسر السائل عن الموت، رد كونفوشيوس بردٍّ مماثل، فقال: «لا يمكنك أن تعرف ماهية الموت قبل أن تعرفَ ماهية الحياة» («تعاليم كونفوشيوس»). قلَّلت الكونفوشيوسية من مكانة عالم ما وراء الطبيعة وجعلتْه في المرتبة الثانية، وتركتْ أسئلةً كثيرة دون إجابات؛ مما أثار فضول الكثير من الصينيين. وكان لدى البوذية إجابات عن هذه الأسئلة، ولا سيما المتعلقة بالموت والحياة الآخرة، وهو موضوع ذو أهميةٍ خاصةٍ للصينيين نظرًا للإجلال الكبير الذي يُكنُّونه للأسلاف؛ وبذلك، في حين تَقبَّل الكثير من الصينيين الكونفوشيوسية باعتبارها دليلًا موثوقًا لهذا العالم، فإنهم الْتجَئُوا إلى البوذية باعتبارها دليلًا لعالم الآخرة.
تتشابه البوذية في عدة أمورٍ مع فلسفةٍ صينيةٍ أخرى، هي الفلسفة الطاوية، وهي نوع من الصوفية الطبيعية أسَّسها الحكيم الأسطورة لاو تسو (وُلد عام ٦٠٤ قبل الميلاد). وهدف الطاوية هو العيش في تناغمٍ مع الطبيعة من خلال تعلُّم تحقيق التوازن بين قوَّتَي الين واليانج اللتين تُكمل كلٌّ منهما الأخرى، واللتين يُعتقد أنهما تسودان الكون. الين هو المبدأ الأنثوي الذي يُعبِّر عن نفسه في الرقة والسلبية، بينما اليانج هو المبدأ الذكوري الذي يُظهر نفسَه في الصلابة والقوة. وكلتا الصفتين حاضرتان في الأفراد وفي كل الظواهر بمستوياتٍ متباينة، والتفاعل بين هاتين القوتين يؤدي إلى التغيير في هذا العالم. والحكيم هو الشخص الذي يعرف كيف يجعل الين واليانج في حالة توازنٍ ويعيش في تناغمٍ مع ظروف الحياة المتغيرة. والشخص الذي يستطيع الجمع بين هاتين القوتين في نفسه كان يُعتقد أنه يكتسب سلامًا روحانيًّا عميقًا، وكذلك قوًى سحريةً وطولَ العمر. ويُقدِّم كتاب «داو دي جينج» الكلاسيكي («كتاب الطريق وفضيلته») المنسوب إلى لاو تسو مبادئَ خوض هذه الحياة العليا.
تداخلت البوذية والطاوية في أمورٍ معينة، وبدا أن التأمُّل البوذي موجَّهًا نحو الهدف نفسِه المتمثِّل في السلام الداخلي و«الفعل اللافاعل» الذي سعى إليه الحكيم الطاوي. ونشأ عن هذا التفاعل مذهب بوذيةٍ صينيةٍ عُرف باسم تشان (سلف بوذية الزن اليابانية). إلا أنه على الرغم من أن التعاليم الطاوية كانت غيرَ منظَّمةٍ وأكَّدتْ على الهدوء والإلهام، فقد قدمت البوذية إطارًا فلسفيًّا منهجيًّا وتراثًا من النصوص لدراستها. وراقَ هذا الجانب من البوذية للصينيين بسبب حبهم للدراسة والتعلُّم، وبعد فترةٍ أصبحَتِ البوذية ثالث «الأديان الثلاثة» للصين، على الرغم من أنها لم تنجح مطلقًا في التخلُّص من ارتباطاتها الأجنبية. وذهب عدد من الرهبان الصينيين في رحلات حجٍّ إلى الهند بحثًا عن المخطوطات الدينية، ومن أشهرهم فاكسيان (٣٩٩–٤١٣)، وتشيونتسانج (٦٣٠–٦٤٤) وإي تشينج (٦٧١–٦٩٥).
انتشرتْ وانحسرتْ حظوظ البوذية في الصين على مرِّ القرون، وبلغتْ ذروتها تحت حُكم سلالة تانج (٦١٨–٩٠٧ ميلاديًّا)، على الرغم من انتشار العديد من معلمي التانترا فيما بعدُ خلالَ فترة حكم المغول (القرنين الثالث عشر والرابع عشر). وأدَّى قدوم الشيوعية إلى انحسار البوذية وغيرها من أشكال الديانات الأخرى خلال الثورة الثقافية عام ١٩٦٦. ورغم ذلك، توجد الآن علامات على إحياء هذه الديانة في جمهورية الصين الشعبية، كما ظلَّتِ البوذية قويةً في تايوان.
اليابان
تُعد اليابان من المراكز البوذية المهمة في الشرق الأقصى. وصلت البوذية إلى اليابان في القرن السادس عن طريق كوريا، لكنها استقَتِ الكثير من الإلهام من الصين. وشهدت فترة هييان (٧٩٤–١١٨٥) ظهورَ مذاهبَ عدةٍ مثل بوذية تينداي الاصطفائية وبوذية شينجون الباطنية، وكلا المذهبَين قَدِما من الصين. وبدأ أيضًا مذهب الأرض النقية — نوع مميز من البوذية اليابانية قائم على الولاء للبوذا أميدا — في التكوُّن في ذلك الوقت وبلغ ذروته خلال فترة كاماكورا (١١٨٥–١٣٣٣).
واجه نيتشيرين (١٢٢٢–١٢٨٢) ما رآه خنوعًا وتهرُّبًا في مذهب الأرض النقية، وأسَّس حركةً دينيةً جديدةً جعلتْ «سوترا اللوتس» مركز ممارسات الطائفة بدلًا من البوذا أميدا. وبدلًا من تلاوة الشعار «نامو أميدا بوتسو» أو «الالتجاء إلى البوذا أميدا» ضمانًا للميلاد مرةً أخرى في جنة أميدا، تلا أتباع نيتشيرين تعويذة (مانترا) «نامو ميوهو رينجي كيو» وتعني «المجد لسوترا اللوتس التابعة للدارما الحقيقية». وشعر الناس بأنهم من خلال التركيز على هذه الكلمات بإيمانٍ وولاءٍ يمكنهم تحقيق كل أهدافهم المادية والروحية. وسعى نيتشيرين إلى وضْع برنامج إصلاحٍ اجتماعيٍّ دينيٍّ على مستوى الأمة، ورأى دورًا عظيمًا لليابان باعتبارها مركزًا تنتشر منه تعاليمه، وقد حقق أهدافه إلى حدٍّ ما. واليومَ تُتلى كلمات «نامو ميوهو رينجي كيو» يوميًّا باعتبارها جزءًا من الممارسة الدينية لملايينَ من أتباع مذهب نيتشيرين شوشو وحركة سوكا جاكاي الدولية المنشقة عنه.
وعلى النقيض من البوذية الهندية، فإن البوذية اليابانية تتَّسم بالتوجُّه الاجتماعي القوي وتؤكِّد على القيم المجتمعية والجماعية. وقد رفض بعض المعلمين المؤثرين مثل شينران (١١٧٣–١٢٦٢) الرهبنةَ، وشجَّع الرهبان على الزواج ولعب دورًا رئيسيًّا في الحياة الاجتماعية (ويروي التراث أنه نفَّذ ما وُعظ به وتزوج راهبةً وأنجب منها خمسة أطفال).
الراهبات البوذيات
تُظهر المصادر البوذية القديمة أن بوذا كان مترددًا في السماح بإنشاء أخويةٍ للراهبات، لكنه عدل عن رأيه بعد توسلاتٍ مستمرةٍ من عمته وزوجة أبيه للسماح لهما بالانضمام إلى «السانجا». وعلى الرغم من أن ترسيم النساء باعتبارهن راهباتٍ كان تطوُّرًا ثوريًّا في الهند؛ فقد فرض بوذا بعض الشروط المقيِّدة التي جعلتْ رهبنة النساء في مكانةٍ تابعةٍ لرهبنة الرجال. إن فرع الرهبنة النسائي الذي تأسَّس في الهند، وانتقل بعد ذلك إلى أجزاءٍ أخرى في جنوب آسيا؛ انتهى خلال فترة العصور الوسطى، لكنه في البلدان الواقعة في شمال آسيا، مثل الصين والتبت واليابان وكوريا، ما زال موجودًا حتى الوقت الحاضر. وقوبلت محاولات إحياء رهبنة النساء في جنوب آسيا بالمقاومة، وقال المحافظون إنه نظرًا لانتهاء تقليد الترسيم لم يعد موجودًا النصاب الضروري وجودُه من الراهبات لإجراء طقس الترسيم لقَبول الوافدات الجديدات. وفي ضوء هذه المعضلة التي لا حل لها، كانت الراهبات في جنوب آسيا بالفعل نوعًا منقرضًا. إلا أن هذا الاعتراض قوبل جزئيًّا بدعوة راهباتٍ من سلالاتٍ شماليةٍ لأداء مراسم الترسيم، وبهذه الطريقة جرى ترسيم ١٣٥ امرأةً في بودا جايا في الهند باعتبارها جزءًا من برنامج الترسيم الكامل الدولي الذي يرعاه مركز فو جوان شانج في تايوان. وأُجريت مراسم ترسيمٍ بعد ذلك في سريلانكا في العام نفسِه، وفرع واحد على الأقل من الفروع الثلاثة (نيكايا) ﻟ «السانجا» السريلانكية (أمارابورانيكايا) يعترف بالترسيم الكامل للراهبات. وبحلول عام ٢٠٠٥، كان قد تم ترسيم نحو ٤٠٠ امرأة، ولاقى إحياء أخوية الراهبات دعمًا شعبيًّا كبيرًا. أما في البلدان الأخرى التي تدين ببوذية التيرافادا، مثل تايلاند وبورما، فلم يتحقق تَقدُّم كبير. وقد سُجنت امرأة بورمية رُسمت راهبة خارج البلاد في عام ٢٠٠٥ بتهمة «امتهان الدين»، وقامت السلطات بترحيلها بعد ذلك خارج البلاد، ومنذ عام ١٩٢٨ منع المجلس الأعلى للسانجا في تايلاند الرهبان من ترسيم الراهبات، وأصبح الدور الوحيد المتاح للنساء في تايلاند هو دور «ماي تشي»: أي النساء اللاتي يحلقن رءوسهن، وينتسبن إلى العمل الديني ويرتدين ملابس بيضاء. وهؤلاء النساء لا يتبعن طبقة الكهنوت ولَسْنَ من العوام، وليس لهن أية مكانة رسمية. وعلى الصعيد التاريخي، فإن هؤلاء النساء كُنَّ نساءً ريفياتٍ لم يتلقَّيْن إلا قدرًا ضئيلًا من التعليم، ونساءً مسناتٍ فرصهن قليلة في الحياة. وفي بعض الأحيان، يعيش هؤلاء النسوة في المعابد ويخدمن الرهبان. وعلى الرغم من أن معهد «ماي تشيز» يعترف بهن ويساعدهن، لا يوجد معيار للتدريب والتعليم مقبول على نطاقٍ واسع، وقد سجَّل المعهد فقط نحو ٤ آلاف امرأةٍ من عددٍ محتملٍ يبلغ ١٠٠ ألف امرأةٍ أو أكثر. ولا يتلقى هؤلاء النسوة احترامًا أو دعمًا في العموم، ولا يُنظر إلى دور «ماي تشي» باعتباره أساسًا مناسبًا لممارسة وتعليم الدارما؛ ولذلك، فقد سعى عدد قليل من نساء تايلاند إلى الترسيم، سواءٌ باعتبارهن مبتدئاتٍ أم باعتبارهن راهباتٍ. إحدى هؤلاء النسوة، الدكتورة تشاتسومارن كابيل سينج، أستاذة جامعية سابقة ومؤسِّسة منظَّمة ساكياديتا («بنات بوذا»)، رُسمت باعتبارها راهبةً في عام ٢٠٠٣ باسم داماناندا. وتستمر في العمل من أجل ترسيم النساء في تايلاند من خلال مركزها في دير سونجداماكالياني (سونج داما كالياني) في ناخون باتوم، بالقرب من بانكوك. وفي مارس ٢٠٠٤، فازت بجائزة «النساء المتميزات في البوذية» من الأمم المتحدة نظير أعمالها.
بالإضافة إلى مذهب الأرض النقية ومذهب نيتشيرين، فإن ثالث أهم مذاهب البوذية اليابانية هو الزِّن، ذلك المذهب الذي جاء إلى اليابان من الصين (وكان معروفًا هناك باسم تشان) وكوريا في أوائل القرن الثالث عشر. وكلمة «زن» مشتقة من الكلمة السنسكريتية «ديانا» (باللغة البالية: «جهانا») وتعني «الغشية»، ويلعب التأمل دورًا محوريًّا في ممارسة الزن. وفقًا لأحد التفسيرات المهمة التي تعود إلى دي تي سوزوكي (١٨٧٠–١٩٦٦)، وهو شارحٌ بارزٌ لفلسفة الزن في الغرب، يرى مذهب الزن أن التنوير يحدث في لحظة يقظةٍ حدْسيةٍ لا يُدركها المنطق. ويلاحظ المذهب أن ومضات التبصُّر — التي يطلق عليها اسم «ساتوري» — تُثار غالبًا أثناء النشاط الدنيوي عندما يكون العقل هادئًا ومسترخيًا، وليس أثناء انشغاله بالدراسة أو بالتحليل الفكري. وتشبه هذه التجربة انفصال قاعدة الدلو تحت ثقل الوزن؛ فهذا الأمر يحدث فجأةً وعلى نحوٍ غير متوقَّعٍ بالمرة. إنه يرى أن الزن لديه ميل واضح إلى تحطيم المعتقدات التقليدية، وتُعتبر دراسة النصوص والمعتقدات والعقائد عقبةً محتمَلة في طريق الصحوة الروحية، ويعتمد بدلًا من ذلك على الدعابة، والعفوية، واللاتقليدية، والشعر، وغيرها من أشكال التعبير الفني لتوصيل فكرةٍ مفادُها أن التنوير صحوةٌ لا يمكن إدراكها عن طريق المنطق، ويمكن نقلها من المعلم إلى تلميذه، لكنها في النهاية لا يمكن فهمها من خلال مجرد «كلمات وحروف». أما الباحثون المعاصرون، فعلى الرغم من أنهم لم يعتبروا عرض سوزوكي للزن عرضًا مزيفًا تمامًا، فإنهم انتقدوه بحجة أنه عرْض رومانسي، وسَعَوْا إلى إعادة ربط الزن بسياقه الثقافي والأخلاقي بصفته تقليدًا رهبانيًّا يتضمَّن دراسةً مكثفةً للنصوص والعقائد على نحوٍ مشابهٍ للمدارس البوذية الأخرى. وعلى الرغم من السلوك المتناقض أحيانًا والأقوال المقتضبة العسيرة الفهم، فإن المعلمين القدماء لفلسفة التشان وفلسفة الزن في الصين واليابان كانوا على أتمِّ معرفةٍ بالنصوص البوذية.
للزن فرعان رئيسيان؛ أحدهما مذهب سوتو الذي يعتقد أن التأمُّل الباعث على الهدوء هو كل ما يلزم، بينما يستخدم المذهب الآخر، زن رينزاي، أساليبَ أخرى باعتبارها مركزًا للتأمل. ومن أشهر هذه الأساليب استخدام ألغازٍ لا يمكن حلُّها تُعرف باسم ألغاز «كوان». ومن أشهر أمثلة ألغاز كوان ذلك الذي يطرح هذا السؤال: «ما صوتُ تصفيق اليد الواحدة؟» ويعطي معلم الزن هذا اللغز لأحد الطلاب ليتأمَّل فيه، ويطلب منه أن يعود بعد فترةٍ معينةٍ ومعه الحل. ولا يُقبل من الطالب أيُّ حلٍّ منطقيٍّ (كأن يجيب على السؤال قائلًا: «السكون.») وما تسعى إليه فلسفة الزن بدلًا من دراسة النصوص هو أن يظهر الطالب على نحوٍ عفويٍّ أنه أدرك حقيقة التعاليم على مستوًى شخصيٍّ عميقٍ من الناحية الوجودية.
التبت
آخر مركز للثقافة البوذية سيُذكر في هذه الدراسة هو التبت. ونظرًا لصعوبة الوصول إلى هذه المنطقة الجبلية وغياب طُرق التجارة المعبَّدة، لم تصلِ البوذية إلى التبت إلا في القرن الثامن. ويُعرف نوع البوذية الذي انتشر في التبت بأسماءٍ عدة، هي التانترا أو فاجرايانا («عربة الصاعقة»)، أو مانترايانا — بسبب كثرة استخدامها للصيغ والترانيم السحرية.
تتبنَّى الفاجرايانا فلسفة الماهايانا وتُصوِّرها للكون وتُضيف إليها الكثير من الرموز ومجموعة ممارساتٍ دينيةٍ خاصةٍ بها. وجوهر هذه الحركة هو مجموعة من الأطروحات السرية التي تُعرف باسم تانترات، تكوَّنت في الهند في الجزء الأخير من الألفية الأولى. وتستخدم التانترات مخططاتٍ صوفيةً («ماندالات») وتعاويذَ سحريةً («مانترات»)، وتكتب ﺑ «لغة الشفق» («ساندياباسا») الغامضة التي يَملِك مفاتحَها المنتسبون فقط. ويُمنَح الانتساب على يد المعلم الروحي (بالتبتية: لاما) الذي يُعلِّم المعنى الباطني للكلمات ورموزها لطلابه. وتُشبه التانترا في أشكالها الخارجية مدارس السحر الطقسي الغربي التي تستخدم الدوائر والنجوم الخماسية والعزائم والتعاويذ. واعتمادًا على اعتقاد أنه لا اختلاف بين النيرفانا و«السامسارا» تُعلِّم التانترات أن أي شيء — حتى الرغبة — يمكن استخدامه على نحوٍ مفيدٍ كوسيلةٍ للتحرر. ولا تُعتبر الشهوات شريرةً بطبيعتها، بل تُعتبر مجرد شكلٍ قويٍّ من أشكال الطاقة التي يمكن استخدامها لأغراضٍ كثيرة — كما هي الحال مع الكهرباء. والرغبة الجنسية، على وجه الخصوص، التي كانت تُعتبر في السابق أكبرَ عقبةٍ في سبيل التقدُّم الديني بالنسبة إلى الرهبان، أصبحت تُعَدُّ قوةً كامنة إذا ما استُخدمتْ على النحو الصحيح؛ فمن الممكن أن تُعجِّل من التطوُّر الروحي. ونظرًا إلى ميل التانترا إلى تبنِّي العديد من الطرق والأساليب المختلفة، فقد اعتُبرت طريقًا سريعًا أو «طريقًا مختصرًا» للوصول إلى حالة البوذية التي تمنح التنوير «في هذا الجسم» وليس بعد حيواتٍ من الممارسة لا تُعد ولا تُحصى يستخدم فيها الفرد الطرق الأكثر بطئًا وتقليديةً.
يُظهر الكثيرُ من الرسوم والأيقونات التبتية محتوًى جنسيًّا واضحًا، لكنها تُفسَّر عادةً بطريقةٍ رمزيةٍ تقول إن الشريك الذكري يُمثِّل الوسيلة الماهرة (الأساليب المتعددة التي يقود بها البوديساتفا الناسَ إلى التنوير)، بينما يُمثِّل الشريك الأنثوي الحكمة، ويُمثِّل اتحادُهما الجنسيُّ السعيدُ النيرفانا. أما مذهب البوذية التبتية الأكثر تأثيرًا المعروف باسم جيلوجبا الذي أسَّسه تسونجكابا في القرن الرابع عشر، فيرى أن التانترا بالطريقة الثانية هي وسيلة لتجسيد الحقيقة الروحية العميقة وليست دعوةً للناس للانقلاب على الأعراف الأخلاقية. ويتمسَّك رهبان هذا المذهب، مثل نظرائهم الهنود القدماء، بقواعد الرهبنة تمسُّكًا شديدًا، وتصر هذه القواعد، ضمن متطلَّباتها الكثيرة الأخرى، على تبتُّل الرهبان. ورغم ذلك، فإن أحد المذاهب، يُعرف باسم نينما («القدماء»)، يسمح بزواج الكهنة.
والدالاي لامات التبتيون هم أعضاء مذهب جيلوجبا. و«دالاي» كلمة مغولية تعني «محيط» («الحكمة»)، وهو لقب أطلقه الحاكم المغولي ألتان خان في القرن السادس عشر. ويشمل منصب الدالاي لاما كلًّا من النطاق الديني والنطاق الدنيوي. وكان يحكم التبتَ سلسلةٌ من الدالاي لامات حتى العصور الحديثة، عندما أُجبر الكاهن الحالي — الدالاي لاما الرابع عشر تينزين جياتسو — على الهروب من البلاد في عام ١٩٥٩ نتيجةً للغزو الصيني في عام ١٩٥٠؛ واستقرَّ منذ ذلك الحين في دارماسالا، في شمال غرب الهند. وفي الوقت نفسه، ظلَّ التبت تحت حُكم الشيوعيين، وأدَّى برنامج «تطهيرٍ عرقيٍّ» ممنهجٍ ووحشيٍّ إلى هروب ما يزيد على مليون لاجئٍ تبتي. ودُمِّرَ الكثير من الأديرة البوذية القديمة بمخطوطاتها وأعمالها الفنية التي لا تُقدَّر بثمن، ورغم ذلك فقد أُعيد بناء عددٍ محدودٍ من هذه الأبنية بين الحين والآخر.
إن تاريخ البوذية في آسيا وطريقة تفاعلها مع الثقافات الأخرى لهو أمر مدهش بقدر ما هو معقَّد. وحاولتُ في هذا الفصل أن أترك مجرد انطباعٍ عن ثراء وتنوُّع البوذية في القارة الآسيوية. أما عن الإسهامات المهمة التي قدمتْها الثقافات الآسيوية الأخرى، مثل كوريا، للتطوُّر التاريخي للبوذية، فقد حذفتُها لضيق المساحة. وستجدون دراساتٍ أكثرَ تفصيلًا عن الثقافات المذكورة في هذا الفصل في الجزء المعنون ﺑ «قراءات إضافية» في نهاية الكتاب.