التأمُّل
التأمُّل («سامادي») هو واحد من الفروع الثلاثة للطريق الثُّماني؛ ومن ثَمَّ يحتَلُّ مكانة محورية في الممارسة البوذية. أما المصطلح الأعم الذي يُشير إلى التأمُّل في البوذية، فهو «بهافانا» ويعني «الغرس» أو حرفيًّا «تحقيق المرغوب». والمعنى الحرفي مناسب تمامًا؛ لأن التأمُّل هو الاستراتيجية البوذية الأساسية لجعْل المرء قادرًا على تحقيق ما يريده لنفسه.
الخلفية الهندية
كانت أساليب التأمُّل المستخدَمة في وقت بوذا جزءًا من مجموعة أساليبَ روحانيةٍ شائعةٍ يتشارك فيها رافضو الدين الهندي («نُسَّاك السامانا») وممارسو الديانة الذين يتبعون التقليد الأصلي للديانة الهندية («البراهمانا»). وقبل قدوم بوذا بعدة قرون، زاد الاهتمام بالبُعد الداخلي للحياة الروحانية على نحوٍ أدَّى إلى تأليف مجموعةٍ من الكتابات الدينية تُعرف باسم «الأوبانيشاد». وسعتْ هذه الأطروحات إلى شرح العلاقة بين الذات الداخلية («أتمان») وأساس الوجود الكوني، ووصفت الأساليب الصوفية التي من خلالها يمكن للنفس أن تُدرِك تَطابُقها مع الحقيقة العليا («البراهمان»). وعلى الرغم من اختلاف بوذا مع الفلسفة الأساسية لهذه النصوص، فإنه كان متعاطفًا مع رسالتها التي تقول إن الخلاص يمكن البحث عنه داخل النفس، ويمكن أن يأتي فقط من خلال الفهم العميق لطبيعة المرء.
بالإضافة إلى تعاليم «الأوبانيشاد»، ربما كان بوذا على علمٍ بمعتقدات وممارسات تقليد اليوجا؛ فعلى الرغم من أن معتقدات وممارسات اليوجا تقوم على تعاليمَ فلسفيةٍ رفَضها بوذا، فقد طوَّر ممارسو اليوجا مجموعةَ أساليبَ معقدةٍ للسيطرة على كلٍّ من العقل والجسم. وترتبط اليوجا لغويًّا بكلمة «السيطرة»، وممارسة اليوجا تتضمن تقنيةً روحانيةً معقدةً للسيطرة على قدرات العقل والتحكُّم فيها. ومعظم القرَّاء على علمٍ بالتمارين البدنية المختلفة والوضعيات الخاصة باليوجا، التي تهدف إلى جعْل الجسم مرنًا ولينًا وصحيًّا. وأساليب التأمل المستخدمة في اليوجا تفعل تقريبًا الأمر نفسَه بالنسبة إلى العقل، وتوفِّر مجموعةَ إحماءٍ شاملةً لأداءٍ ذهنيٍّ فائق. وعلى هذا النحو، فإن بوذا لم يخترعِ التأملَ، لكنه، كما سنرى فيما يلي، قدَّم تعديلاتٍ مهمةً للطرق التي استخدمها معاصروه، وهذه التعديلات تجعل التأمل البوذي مميزًا من الناحية النظرية ومن الناحية العملية أيضًا.
طبيعة التأمل
لكن ما هو التأمل بالضبط؟ يمكن تعريف التأمل بأنه حالة تغييرٍ للوعي تُستثار بطريقةٍ محكومة. لا يوجد أي شيءٍ غامضٍ بشأن التأمل، والناس يدخلون ويخرجون من حالاتٍ شبيهةٍ بالغشية مماثلةٍ للتأمل على نحوٍ عفويٍّ خلال حياة اليقظة. ويتخلل حياة اليقظة قدر كبير من أحلام اليقظة والتخيلات والتصوُّرات التي ينسحب العقل خلالها ليتأمل مشهدًا داخليًّا. وفي بعض الأحيان من الممكن أن تستحوذ هذه التخيلات على الانتباه تمامًا، كما هي الحال عندما يقود المرء سيارته ويجد نفسه فجأةً وصل إلى وجهته المقصودة، ولا يذكر سوى القليل عن رحلة القيادة. ويمكن أن يتسبَّب تعاطي العقاقير في حدوث نتائجَ لا تختلف عن تلك التي يشعر بها المرء أثناء التأمل.
الفروق الأساسية بين التأمل والحالات المذكورة سلفًا هي درجة التحكُّم التي تتم ممارستها، وعمق التجربة ومدتها. علاوةً على ذلك، وعلى عكس العقاقير، لا يُسبِّب التأمل أي آثارٍ جانبيةٍ أو «هلاوس»، كما أن فوائده تراكمية وتدوم لمدةٍ طويلة. وفي أثناء حالات اليقظة العادية يدخل العقل في حالاتٍ شبيهةٍ بالغشية ويخرج منها على نحوٍ مستمر. وإذا قاطعتَ شخصًا أثناء تخيلات اليقظة فقد يقول إن ذهنه كان «في مكانٍ آخر». وهدف التأمل ليس أن يكون الذهن «في مكانٍ آخر»، بل أن يكون «هنا» بكامل وعيه وإدراكه. الهدف هو «استجماع القوى العقلية» والتركيز الذهني بدلًا من التشتُّت. أفضل طريقةٍ لتقريب هذا الأمر هو شعاع الليزر، فعند تشتيت الضوء يصبح ضعيفًا نسبيًّا، لكن عند تسليطه وتركيزه يمكنه قطع الفولاذ. أو يمكننا استعمال الصوت بدلًا من الضوء في هذه الاستعارة؛ ومن ثَمَّ يكون هدف التأمل هو حجبَ «الضوضاء» الذهنية وتقليلَ «الثرثرة» الذهنية التي تستنزف الطاقة الروحية.
ممارسة التأمل
تُقِرُّ نظرية التأمل بوجود علاقةٍ وثيقةٍ بين الجسد والعقل؛ ومن ثَمَّ، قبل أن يتمكَّن العقل من أن يصبح هادئًا تمامًا، لا بد أن يكون الجسد هادئًا. والوضعية التقليدية للتأمل هي جلوس القرفصاء، باستخدام وسادةٍ إذا اقتضَتِ الضرورة، مع فَرْدِ الظَّهر، وإمالة الرأس قليلًا، ووضع اليدين على الحِجر؛ وتُعرف هذه الوضعية ﺑ «وضعية اللوتس» (انظر بوذا جالسًا بهذه الوضعية في الصورة السابقة). وعلى الرغم من أن المبتدئ سيشعر بأن الجلوس بهذه الوضعية أمر غير طبيعي، فإنه مع قليلٍ من الممارسة سيتمكن من الجلوس في هذه الوضعية لوقتٍ أطول. وهذه الوضعية تسمح للمتأمِّل بالتنفُّس بعمقٍ وبطريقةٍ هادئةٍ، وبأن يظل مستريحًا مع الاحتفاظ بانتباهه. يمكن ممارسة التأمل في أي وضعيةٍ مريحة، لكن إذا كانت الوضعية مريحة للغاية فهناك احتمال بأن تتسبَّب في نوم المتأمل. من الواضح أن السيطرة على العقل أثناء النوم أمر صعب جدًّا، ورغم ذلك توجد ممارسة في التبت تُعرف باسم «يوجا الحلم» يُنمَّى فيها الوعي خلال الأحلام الواضحة.
وبمجرد التوصُّل إلى وضعيةٍ مريحةٍ، يلزم اختيار موضوعٍ للتأمل. عندما ترك بوذا منزله درَس التأمل على يد معلمَيْن، ومن الممكن أن نفترض على نحوٍ عقلانيٍّ أن ما علَّماه إياه — كيفية الدخول في حالة غشيةٍ عميقةٍ على وجه التحديد — كان مطابقًا للتأمل الذي كانت ممارستُه سائدةً في ذلك الوقت. فما هي التعليمات التي قدَّمها معلِّما بوذا لتلميذهما؟ لا يمكن معرفة ذلك على نحوٍ مؤكَّد، لكن ربما نصحاه بالتركيز على تنفُّسه، أو بتكرار «مانترا» لنفسه وهو صامت. أو من الممكن أن يكونا قد وضعا شيئًا على بُعد عدة أقدامٍ من بوذا — شيئًا صغيرًا من الأشياء التي نستخدمها في حياتنا اليومية مثل أصِيصٍ أو زهرة — وطلبا منه دراستها على نحوٍ دقيق، وملاحظة كل تفصيلةٍ إلى أن يتمكَّن من إعادة تكوين صورةٍ ذهنيةٍ مثاليةٍ لهذا الشيء وعيناه مغمضتان. والهدف من هذه التمارين هو أن يستغرق العقل تمامًا في الشيء المتأمَّل إلى أن يذوب وعي الفاعل والمفعول في مجال وعيٍ موحَّد.
إن التأمل ليس من السهل إتقانه بكل تأكيد؛ نظرًا لأن العقل يثير مشتتات باستمرار. وتُشبِّه المصادرُ البوذيةُ العقلَ بالقرد الذي يتأرجح بين الأشجار، ممسكًا بالغصن تلو الآخر. ويمكن للقارئ تجرِبة ذلك من خلال التركيز على إحدى الصور الموجودة في هذا الكتاب، وهي صورة الماندالا (انظر الفصل السابق)، وملاحظة أن العقل لا يستغرق سوى وقتٍ ضئيلٍ ليشعر بالاضطراب ويتحوَّل إلى وجهةٍ أخرى. إن التركيز الثابت والمتواصل يأتي فقط من خلال الممارسة المنتظمة ويستغرق الأمر عادةً عدة أشهرٍ قبل تحقيق النتائج. إن تعلُّمَ التأمل أشبه إلى حدٍّ ما بتعلُّم العزْف على آلةٍ موسيقية؛ فهو يتطلب الإصرار والالتزام والممارسة اليومية.
وفي النهاية تظهر النتائج نفسها في صورة قدرات التركيز القوية وزيادة الإحساس بالهدوء والسكون الداخلي الذي يمتد ليشمل الحياة اليومية. وتفقد المشتتات والمقلقات والشكوك والمخاوف سيطرتها على العقل، وتدريجيًّا «يستجمع» المتأمل شتات أمره على نحوٍ أكبر، ويعيش على نحوٍ كاملٍ في المكان والزمان الحاليين. أما المتأملون الماهرون إلى حدٍّ كبيرٍ فقد يحققون في النهاية حالةً جليَّةً من الاستغراق المنتشي يُطلَق عليها «سامادي»، وهي حالة سكونٍ داخليٍّ تامٍّ وثابت. وعلى يد معلمَيْه تمكَّن بوذا من تحقيق حالتَيْن متقدمتَيْن إلى حدٍّ كبيرٍ من هذا النوع، وفيما بعدُ أُدمجت هاتان الحالتان ضمن الإطار الرسمي للتأمل البوذي وأصبحتا تُمثِّلان المستوى السابع والثامن من غشية «جاهانا».
مستويات غشية جاهانا
أساس هذا الإطار هو «جاهانا» (بالسنسكريتية: «ديانا») وتعني مستويات الغشية. في المستوى الأول والأدنى من غشية «جاهانا»، يفكِّر العقل باستطراد، لكنه يكون حافلًا بالانفصال والنشوة والبهجة. وفي المستوى الثاني من غشية «جاهانا»، يتنحَّى التفكير الاستطرادي ويحل محله الاستغراق («سامادي») ويزيد الإحساس بالوعي. وفي المستوى الثالث من غشية «جاهانا»، يحل الاتزان محل النشوة. وفي المستوى الرابع يُفسح الاتزان الساحة لحالةٍ توصف بأنها «تتجاوز الإحساس بالمتعة والألم». ويبدو أن هذه التجارِب الصوفية تتجاوز التصنيفات اللغوية، وليس من السهل إيجاد الكلمات المناسبة لوصفها. ورغم ذلك، يمكن ملاحظة أن الأمور تسير على النحو التالي: حالات الغشية العليا يزداد فيها الغموض والروحانية، أما العناصر الأكبر الأكثر عاطفيةً مثل الإثارة والنشوة فيحل محلها استغراق أعمق وأكثر تقدمًا. وهذا يقود إلى حالةٍ تسمَّى «أحادية التوجُّه» («إكاجاتا») وفيها ينصبُّ تركيز العقل حصريًّا على موضوع التأمُّل على غرار طريقة شعاع الليزر الموضَّحة في السابق.
ويُعتقد أنه في المستوى الرابع لغشية «جاهانا» يمكن أن يكتسب المتأمِّل قدراتٍ روحيةً متعددةً تساوي تقريبًا ما يُعرف في الغرب بالإدراك الحسي الفائق. وتشمل هذه القدراتُ القدرةَ على رؤيةِ أحداثٍ في أماكنَ بعيدةٍ (الاستبصار)، وسماعِ أصواتٍ بعيدةٍ (الجلاء السمعي)، واسترجاعِ حيواتٍ سابقةٍ (الإدراك الاسترجاعي)، ومعرفةِ أفكارِ الآخرين (التخاطُر). وبالإضافة إلى ذلك، يكتسب المتأمل مجموعةً متنوعةً من قدرات التحريك العقلي، مثل القدرة على الطيران في الهواء والسير على الماء وصُنْع نُسَخٍ من الأجسام. لا يوجد أي شيءٍ متعلقٍ بالبوذية بصفةٍ خاصةٍ في تلك القدرات، وهذه القدرات معترَف بها على نطاقٍ واسعٍ في الفكر الهندي، ويمكن أن يكتسبها أي شخصٍ يرغب في استثمار الوقت والجهد اللازمَيْن في اكتسابها. وعلى الرغم من أنه يقال إن بوذا نفسه كان يمتلك هذه القدرات، فإنه في بعض الأحيان كان يسخر من الأشخاص الذين يقضون وقتًا طويلًا في اكتساب هذه القدرات، موضحًا أنه بدلًا من تكريس سنواتٍ من عمر المرء في تعلُّم السير على الماء، فإنه من الأسهل الاستعانة بخدمات البحارين!
البوذية والعلوم العصبية
إن العلوم العصبية المتعلقة بالوعي أو العلوم العصبية التأملية تُعدُّ مجالَ بحثٍ علميٍّ جديدًا مثيرًا تُمثِّل فيه البوذية مشاركًا فعَّالًا. ويوجد برنامج يَدَّعي تقليلَ التوتُّر المعتمِد على الانتباه، يقوم إلى حدٍّ كبيرٍ على أساس الممارسات البوذية، وقد ظهرتْ نتائجُ مشجعةٌ في إطار التعامل مع الألم المُزمن، واضطرابات القلق، والاكتئاب، والصدفية، وتعزيز السلامة العقلية العامة، وقد بدأ علماء الأعصاب إجراء أبحاثٍ حول تأثير التأمل على تغيير أنماط نشاط الدماغ. تقوم الممارسات التأملية البوذية على مبدأ مرونة الذهن، وعلى أساس أن التضاريس العقلية الداخلية للشخص يمكن صياغتها وتشكيلها باستخدام أساليبَ معينة. ويبدو أن العلوم العصبية تُقدِّم تأكيدًا تجريبيًّا لهذه الظاهرة — المعروفة باسم اللدونة العصبية — من خلال تحديد التغيرات الوظيفية والجزيئية في الدماغ الناتجة عن المدخل التجريبي المحدد؛ فعلى سبيل المثال، اتَّضح أن الحُصين لدى سائقي سيارات الأجرة في لندن أكبر حجمًا ربما بسبب الممارسة المستمرة لمهارات الملاحة، وأظهر المشتركون في برنامج تقليل التوتُّر المعتمد على الانتباه تغيُّراتٍ في النشاط الدماغي أمام الفص الجبهي من النوع المرتبط بالحالات الذهنية الإيجابية. ورصدت الدراسات أيضًا قوة الجهاز المناعي بالإضافة إلى تغيُّراتٍ إيجابيةٍ أخرى في الجهاز العصبي الذاتي. وعلى الرغم من أن العلم ما زال في مراحله الأولى، فإن هذه النتائج يبدو أنها تؤيد المزاعم التي طالما رددها التقليد البوذي وغيره من التقاليد التأملية، المتمثِّلة في أن السعادة والسلامة النفسية إنما هي مهارات يمكن التدرُّب عليها. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأساليب والاستراتيجيات الكثيرة التي طُوِّرت في هذه التقاليد على مدار القرون يمكن أن تُقدِّم مجموعةَ أدواتٍ مفيدة في تحقيق الاستفادة المُثلى للإمكانات البشرية.
خلال مراحل التأمل الأعمق، تهدأ وظائف الجسم الأساسية، ويتوقَّف التنفُّس تمامًا. وتشير الأبحاث إلى أن المخ يُولِّد قدرًا أكبر من موجات ألفا في هذه الحالة، في إشارةٍ إلى حالة إبداعٍ مرتبطٍ بالاسترخاء. وقد يحدث العديد من الأحاسيس الغريبة؛ فمن الشائع رؤية أشكالٍ ضوئيةٍ، وكذلك الشعور بطفوٍ أو بخفةٍ في أطراف الجسم. وفي مستويات الغشية الأكثر عمقًا، يقال إن الصفاء الذهني الطبيعي الذي يكون محجوبًا عادةً بضوضاء الوعي اليقظ، يُظهر نفسه بوضوحٍ كامل. والعقل في هذه الحالة يشبه الذهب أثناء عملية تنقيته؛ حيث يكون لينًا ومطواعًا، ويمكن تشكيل المشغولات النفيسة منه على يد فنانٍ ماهر. وفي هذه الحالة يكون الفنان هو المتأمل، الذي تواصل مع مستويات النفس العميقة حتى أصبح مؤهلًا للقيام بعملية إعادة تشكيل نفسه.
وتُقدِّم الأدبيات اللاحقة قائمةً مكوَّنة من أربعين موضوعًا للتأمل. واختيار الموضوع الصحيح يتطلَّب المهارة والتمييز، ويُعد وجود معلمٍ أمرًا ذا أهميةٍ بالغةٍ في تقييم شخصية الطالب وتحديد الموضوع الصحيح الذي يُناسب شخصيته واحتياجاته الروحية؛ فعلى سبيل المثال، قد يوجَّه الشخص المتعلق بالمتعة الجسدية إلى التأمل في الجسم من حيث عدمُ ديمومته وتَعرُّضُه للشيخوخة والمرض والخبائث التي يعج بها، من أجل تقليل تعلُّقه به. على الجانب الآخر، الشخص القليل التقوى يمكن أن يوجَّه إلى التأمُّل في بوذا وفضائله، أو في «الجواهر الثلاثة» وهي بوذا والدارما و«السانجا». وتوجد أيضًا موضوعات أكثر ترويعًا مثل الجثث المتفحِّمة والمقطَّعة الأوصال التي يراها المرء في ساحة حرْق الجثث. الغرض من هذا التأمُّل هو مواجهة الموت وجهًا لوجه وإدراك الحاجة المُلحَّة للاستغلال الأمثل للفرص النفيسة التي قدَّمها الميلاد البشري المتكرر.
حالات التأمُّل المُطلَق الأربع
من بين موضوعات التأمُّل الأكثر رواجًا تَبرُز «حالات التأمُّل المُطلَق الأربع»، وهي: («براهما فيهارا») وتعني الحنان الناشئ عن الحب («ميتا»)، والشفقة («كارونا») والفرح المتعاطف («موديتا»)، والاتِّزان («أوبيكا»). وتتضمَّن ممارسة الحنان الناشئ عن الحب اكتسابَ توجُّهٍ يُكِنُّ اللطف والصداقة وحُسن النية لكل الكائنات الحية. ويبدأ المُتأمِّل بنفسه باعتباره موضوعًا لحسن النية. وهذا المطلب لا يعني النرجسية، بل يقوم على ملاحظةٍ ذكيةٍ تتمثَّل في أن الشخص يمكن أن يحب الآخرين فقط عندما يستطيع أن يحب نفسه؛ فالشخص الذي يعاني تَدَنِّيًا في تقدير الذات، أو الذي أضناه كُرْهُ نفسِه، لن يكون قادرًا على حب الآخرين حبًّا كاملًا. ويجب أن يُراجِع المتأمِّل نقاطه الجيدة والسيئة بموضوعيةٍ قَدْرَ الإمكان، ويضع في اعتباره في الوقت نفسه فكرة «تمنِّي نيل السعادة والتحرُّر من المعاناة». وبعد ذلك سيوسع تدريجيًّا دائرةَ الإحسان لتشمل الآخرين «مثلما يحدد الحرَّاث الماهر أرضَه ثم يغطيها»، فتضم العائلةَ والحيَّ والمدينةَ والبلدَ والأمَّة، ومع مرور الوقت ستشمل كلَّ المخلوقات الموجودة في العوالم الستة. ويجب أن يتذكَّر المتأمِّلُ في كلِّ فرصةٍ سانحةٍ الأفعالَ الطيبةَ التي قدَّمها له الآخرون، حتى في الحيوات السابقة؛ فإنْماء حُسن النية الشامل على هذا النحو يُحرِّر العقل من التحيُّز والهوى، ويبدأ المتأمِّل في التصرُّف تجاه الآخرين بحنانٍ ودون تفرقة. أما إنْماء الحالات المطلقة الثلاث المتبقية، فيتم على نحوٍ مُشابه؛ فمن خلال الشفقة يتوحَّد المتأمِّل مع الآخرين في معاناتهم، ومن خلال الفرح المتعاطف يبتهج لسعادتهم وحُسن حظهم. ويضمن إنْماء الاتِّزان أن تظل هذه الحالات المزاجية متوازنةً دائمًا ومتوائمةً مع الظروف.
التأمُّل وتصوُّر الكون
كما أوضحنا في الفصل الثاني، في التقسيم الثلاثي للكون الذي يتكوَّن — من منظور التصوُّر البوذي — من عالم الرغبات الحسية وعالم الشكل النقي وعالم اللاشكلية، تتداخل طبوغرافية العالم الروحي والعالم المادي. وفي هذا المخطط الذي يوضِّح التصوُّر البوذي للكون يوجد عالم البشر وعالم السموات الدنيا في الأسفل ضمن عالم الرغبات الحسية، في حين توجد مستويات «الجاهانا» المذكورة آنفًا في المستوى الثاني من المخطط؛ أي في عالم الشكل النقي. وعلى هذا النحو، فإن الآلهة الموجودة في المستويات المختلفة لعالم الشكل النقي تعيش في الحالة الذهنية نفسِها التي يستشعرها المتأمِّل في مستوى «الجاهانا» المرادف لهذا العالم. والنتيجة المباشرة لذلك تتمثَّل في أن التأمُّل يُشعِر المتأمِّل بحالة الوجود في السماء. وأُضيفتْ إلى المخطط الأساسي لمستويات غشية «جاهانا» أربعةُ مستوياتٍ أخرى ووُضحتْ في عالم اللاشكلية. وهذه المستويات الأربعة العليا أو «اللاشكلية» من غشية «جاهانا» (تسمَّى بهذا الاسم نظرًا لأن وجودها في العالم اللاشكلي يجعل موضوعها ذهنيًّا تمامًا، بعيدًا عن كل الأشكال) تُرادِف العوالم الكونية العليا الأربعة التي يمكن أن يحدث فيها الميلاد الجديد؛ ومن ثَمَّ فإن المخطط البوذي النهائي للكون التأمُّلي يتكوَّن من المستويات الثمانية لغشية «جاهانا» الموجودة في الثلثين العلويين للكون. على يد المعلم الأول اكتسب بوذا المستوى السابع من غشية جاهانا، وعلى يد معلمه الثاني اكتسب المستوى الثامن، وهو أعلى هذه المستويات. أما المستوى التاسع المعروف باسم «حالة التوقُّف» («نيرودا ساماباتي»)، فمذكورٌ أيضًا في بعض المصادر. وفي هذا المستوى تتعطَّل تمامًا كل العمليات الذهنية، بل يتوقَّف أيضًا نبض القلب والتنفُّس. وتستمر الحياة ببساطةٍ في صورةِ حرارةِ جسمٍ متبقية. وقيل لنا إن الشخص يمكن أن يظل على هذه الحالة لعدة أيام، ويخرج منها في نهاية الأمر بطريقةٍ عفويةٍ في الوقت الذي حدده سابقًا. وتعتبر هذه الحالة أقربَ حالةٍ يمكن لأي شخصٍ الوصول إليها للشعور بالنيرفانا الأخيرة وهو لا يزال على قيد الحياة، وتوصف هذه الحالة بأنها «ملامسة النيرفانا بالجسد».
تأمُّل التبصُّر (فيباسانا)
إذا كان التأمُّل أسلوبًا قويًّا لهذه الدرجة، فلماذا أدار بوذا ظهره لمعلِّمَيه؟ سبب ترك بوذا للتأمُّل هو أنه وجد أن الدخول في حالة غشيةٍ رغم ما يُكسِبه من حالة نعيمٍ وصفاءٍ لا يعدو كونَه مجرد سلوى مؤقتةٍ وليس حلًّا دائمًا للمعاناة؛ فحالات التأمُّل، مثل أي شيءٍ آخر في «السامسارا»، منتهية وغير دائمة. أما ما فشل في تقديمه هذان المعلمان وأساليبهما التأمُّلية، فهو توفير رؤيةٍ فلسفيةٍ عميقةٍ عن طبيعة الأشياء، تلك الرؤية المطلوبة للتحرُّر الكامل.
ولذلك وضع بوذا أسلوبًا تأمُّليًّا جديدًا تمامًا لإكمال الأساليب التي تعلمها من معلمَيْه. وأضاف بوذا إلى نوعية الأساليب الموصوفة للتو، التي يُطلَق عليها في البوذية اسمٌ عامٌّ هو «التأمل الباعث على الهدوء» («ساماتا»)، نوعًا جديدًا يُسمَّى «تأمُّل التبصُّر» («فيباسانا»). ولم يكن الهدف من هذا النوع من التأمُّل هو السلامَ والسكينة، بل توليد بصيرةٍ نافذةٍ وناقدةٍ («بانيانيا»). وفي حين أنه في التأمُّل الباعث على الهدوء يتراجع النشاط الفكري في مرحلةٍ مبكرة (عند الوصول إلى المستوى الثاني من غشية «جاهانا»)، فإنه في تأمُّل التبصُّر يكون هدف التمرين هو الاستغلالَ الكاملَ للملكات النقدية في تحليلٍ ذاتيٍّ للحالة الذهنية للمتأمِّل. وعمليًّا، فإن كلًّا من أسلوب التأمُّل الباعث على الهدوء وأسلوب تأمُّل التبصُّر يُستخدمان عادةً واحدًا تلو الآخر في الجلسة نفسِها، وقد يُستخدم أسلوب التأمُّل الباعث على الهدوء في البداية لتحقيق الصفاء الذهني، وبعد ذلك يُستخدم أسلوب التبصُّر في الاستقصاء والتحليل. إن أسلوب تأمُّل الاستبصار مذكور في مصدرٍ قديمٍ كلاسيكيٍّ يُعرَف باسم «الأسس الأربعة لليقظة» (ماهاساتيباتهانا سوتا)، وروَّجها في القرن الماضي المعلم العلماني البورمي «أو با كين» (١٨٩٩–١٩٧١) وتلميذها «إس إن جوينك» (وُلد في عام ١٩٢٤).
في تأمُّل التبصُّر يتفقَّد المتأمِّل كلَّ وجهٍ من وجوه تجربته الذاتية ويقسمها إلى أربع فئات، هي: الجسم وأحاسيسه المادية، والمشاعر، والحالة المزاجية، والأنماط الذهنية والأفكار. وقد تبدأ جلسة التأمل التقليدية بتوسيع نطاق الوعي بصعود وهبوط التنفُّس ليشمل بقيةَ أجزاء الجسم. ويجب أن يلاحَظ كل إحساسٍ صغيرٍ من أحاسيس الجسم مثل الوخزات والآلام والحكَّات والنبضات والرغبة في الحركة وحك الجلد. ويجب ألا يستجيب المتأمِّل لهذه المثيرات؛ لأن الهدف من التمرين هو ملاحظة كيف تظهر وتتراجع أحاسيس الجسم بمنتهى الانتباه ودون اتخاذ أيِّ ردِّ فعلٍ تجاهها بالطريقة العادية شبه التلقائية. ومن خلال تَعلُّم الملاحظة دون الانهماك يمكن أن تنفكَّ وتيرة المثير-الاستجابة التي تسيطر على السلوك البشري. وتدريجيًّا يدرك المتأمل أن المرء حرٌّ في اختيار طريقة رد فعله تجاه المواقف كلِّها، بصرف النظر عن الأساليب المستخدَمة في استثارته. وبهذه الطريقة ستضعف سيطرة العادات المتأصِّلة منذ وقتٍ طويلٍ وكذلك الدوافع القهرية، وسيحل محلها إحساس جديد بالحرية. وسيمتد هذا التحليل تدريجيًّا ليشمل كلَّ الجسم، وسيحمل المتأمل عقله مثل مشرط الجراح ليُشرِّح أجزاء ووظائف الجسم المختلفة. ومن هذا الوعي يتضح أن الجسم ليس أكثر من مجرد تركيبةٍ مؤقتةٍ مكونةٍ من عظامٍ وأعصابٍ وأنسجة، وليس بالتأكيد شيئًا يستحق الافتتانَ به أو التعلقَ به تعلقًا مفرطًا.
وبعد ذلك يوجَّه الانتباه نحو مختلِف أنواع المشاعر التي تراود المرء؛ فيلاحظ المتأمِّل المشاعرَ الجميلة والبغيضة عند ظهورها ورحيلها. وهذا الأمر يعزز إدراك عدم الديمومة ويؤدِّي إلى معرفة أنه حتى هذه الأمور التي تبدو لصيقةً بنا وأقربَ إلينا — مثل عواطفنا — هي حالات عابرة تأتي وترحل. وبعد ذلك يلاحظ المتأمل حالتَه المزاجية الحالية والتقلبات المستمرة في سمتها وطابعها ككلٍّ، وفي النهاية يتأمَّل فيضَ الأفكار الذي يجول بخاطره. ويجب أن يقاوم المتأملُ الرغبةَ في الاستغراق في أحلام اليقظة والتخيُّلات؛ فهذا أمرٌ حتميُّ الحدوث. وبدلًا من ذلك، يجب أن يلاحظ بتجرُّدٍ تامٍّ الأفكارَ والصور وهي تتبع إحداها الأخرى، وأن يعتبرها مثل السُّحب التي تمر عبر سماءٍ زرقاءَ صافية، أو أن يعتبرها مثل الفقاقيع التي تطفو إلى سطح الكوب. ومن خلال هذه الملاحظة المتجردة سيتضح تدريجيًّا أنه حتى العقل الواعي للإنسان ليس إلا عملية مثل غيره من الأمور الأخرى. ويَعتبر معظم الناس أن حياتهم العقلية هي جوهرهم الداخلي الحقيقي (فالمرء منهم يتمثَّل المقولة الشهيرة لديكارت: «أنا أفكر إذن أنا موجود.») لكنَّ تأمُّل التبصُّر يكشف أن تيار الوعي هو مجرد أحد أوجه التفاعل المعقَّد بين عوامل الفردية الخمسة، وليس «الحقيقة الفعلية» للفرد.
إن إدراك عدم وجود فاعلٍ خفيٍّ يمتلك هذه الأحاسيس والمشاعر والحالات المزاجية والأفكار المختلفة، وأن كل هذه الموجودات هي التجارب ذاتها؛ لهو تبصُّر يُمثِّل نقطةَ تحوُّلٍ تؤدي إلى التنوير. علاوةً على ذلك، فإن يقين المرء بأنه لا يوجد في نهاية المطاف كائن «لديه» رغبات يُضعِف ويُدمِّر في النهاية الشهوة إلى الأبد؛ فيجعلها «مثل نخلةٍ دُمرت جذورُها ولن تنموَ مجددًا أبدًا.» ومن الناحية التجريبية، يبدو الأمر كأنه حِمل ثقيل قد أُسقط عن كاهل المرء، فتصمت صيحات الأنا بأباطيلها وأوهامها وشهواتها وخيبات أملها. ولا تتمثَّل النتيجة في نوعٍ من السلبية الرواقية؛ لأن العاطفة لم تُكبَح، بل ببساطةٍ تحرَّرت من قوة جذب الأنا المُشتِّتة. وتبدأ مشاعر أخرى في الظهور على نحوٍ أكثر اكتمالًا في الأفق العاطفي للمرء مع تباطؤ وتوقُّف دوَّامة الشهوة والإشباع الأنانية، ويحل محلها إحساس عميق ودائم بالسلام والرضا.
تطوُّرات الماهايانا
يمكن أن نجد في الماهايانا مجموعةً معقدةً من أساليب التأمُّل، كما صاحب الطرقَ القديمةَ تأكيدٌ جديد على التمكين والفعل. ويمكن تحديد ثلاثة أنواع رئيسية في الممارسة التأملية. في النوع الأول، استمر النظام القديم المتمثِّل في التأمُّل الهادئ المستبصر الذي يتميز بالسكون والانسحاب، لكنه أصبح مشحونًا الآن باعتقادٍ قويٍّ جديدٍ يجعل التأمُّل أساس الفعل الأخلاقي في هذا العالم. ويُمثِّل النوع الثاني استعادةً للأساليب الحالمة والمنتشية السابقة لعهد البوذية التي كانت تهدف إلى تكوين أشكالٍ من الواقع البديل واكتساب قوةٍ سحرية. واعتمدتْ هذه الأساليب على عملية التخيُّل؛ حيث يُنتِج المتأمِّل لنفسه بالفعل واقعًا بديلًا مثل «الأرض النقية» التي يتخيل نفسَه فيها قد وُلد من جديد (انظر رؤية «الأرض النقية» التأملية أدناه)، وهذه الأساليب نفسها هي أساس تأملات «التانترات» المعقدة. وفي هذا الصدد، يخلق المتأمل عالمًا يرى نفسه فيه بمنزلة البوذا الرئيسي؛ حيث يعيش داخل مسكنٍ علويٍّ للمعرفة يُعرف باسم «ماندالا». وداخل هذا الواقع التأمُّلي الجديد، يتحكَّم المرء على نحوٍ خارقٍ في الرموز القوية لتحوُّله الذاتي، ويدفع نفسه إلى تحقيق التنوير الأمثل.
ويتضمَّن النوع الثالث من التمرين التأملي اكتسابَ أساليبَ جديدةٍ عفويةٍ لتحقيق تجربةٍ حرةٍ مباشرة. وهذا الازدهار الأخير للعبقري المتأمل البوذي يحدث خارج الأكاديميات. وفي هذا الصدد، كان البحث يسعى إلى أسلوبٍ يهدف مباشرةً إلى التنوير في العالم من خلال نوع فعلٍ متحررٍ وسط أحداث الحياة اليومية. ويبدو أن هذا البحث عن العفوية وثيق الارتباط بتقليد التانترا، وكان مصطلح «الرمز العظيم» («ماهامودرا») يُستخدم باعتباره مصطلحًا عامًّا للدلالة على مجموعةٍ كاملةٍ من مثل هذه الأساليب التأملية. وفي هذا النوع لا يُركِّز المتأمل على شيءٍ خارجيٍّ، بل يُركِّز على أفكاره، التي تعدُّ المصدرَ الفعليَّ لضلاله؛ فيراقب وميضَ أفكاره، ولا يحاول السيطرة عليها ولا الوقوع تحت سيطرتها. وتدريجيًّا يتعلَّم أن يجعل عقله في حالة تدفُّقه الطبيعي؛ فيطرح كلَّ التصنيفات ويتخلَّى حتى عن فعل الانتباه، بحيث يُترك عقله في حالته الأصلية؛ وبذلك يتعلَّم أن يُدرِك كل حدثٍ عقليٍّ على طبيعته الحقيقية؛ وهي الخواء. ومن خلال إدراك كل فكرةٍ يتحرَّر تلقائيًّا من كل فكرة؛ فيدرك أن كل حدثٍ يمرُّ به إنما هو فطري وعفوي، وأن كل حدث — نظرًا لأنه خاوٍ — تنويرٌ في حدِّ ذاته. وفي هذه المرحلة، لم يَعُدِ الشخص يمارس «التأمل» باعتباره ممارسة رسمية، بل يسكن عفويًّا في فيض الحياة اليومية.
رؤية «الأرض النقية» التأمُّلية
يجلس المتأمل مولِّيًا وجهه صَوب الغرب، ويتخيل أولًا غروب الشمس إلى أن يستطيع رؤية الغروب إما وعيناه مفتوحتان وإما وهما مغمضتان. يحدق في الماء، ويتخيل أن الماء أصبح ثلجًا، وأن ذلك الثلج أصبح بلورًا، وأنه على هذه الأرضية البلورية يوجد برج من الضوء الساطع. ويتخيل أن الأرض مملوءة بالذهب والجواهر اللامعة، وأن كلًّا منها واضح للغاية لدرجة أنها تظل دائمًا أمام عينيه. ويتخيل أشجارًا مرصَّعة بالجواهر ذات أوراق وزهور لامعة، حيث توجد مساكن أبناء الآلهة. ويتخيَّل جداول وبحيرات بلورية مملوءة بأزهار اللوتس، تتدفق على قيعانٍ ذات رمالٍ ذهبيةٍ وماسية. ويتخيل أن الأرض النقية كلها مملوءة بخمسمائة مليون خيمةٍ مرصَّعةٍ بالجواهر تمتلئ بالآلهة الذين يعزفون موسيقى سماوية مدحًا للقانون … وأخيرًا يتخيل نفسَه يُولَد في أرض السعادة الغربية هذه، وهو جالس داخل زهرة لوتس. لقد اكتنفته الزهرة داخلها، لكنها الآن تفتح بتلاتها. وتسطع أشعة الضوء على جسده عندما يفتح عينيه ويرى البُددة والبوديساتفات يملئون السماء!
والبحث نفسه عن كل ما هو طبيعي وعفوي يُميِّز أيضًا تقليد الزن، كما أشرنا في الفصل السابق. ويبدو أن المعلمين الأوائل قد علموا أساليب شديدة الشبه بتلك المستخدمة في أسلوب الرمز العظيم. وأصبحت حكايات الأفعال الغريبة والرائعة التي قام بها المعلمون بمنزلة النماذج الأولى للأصالة التي يتم تقليدها ثم أصبحت بمنزلة موضوعاتٍ للتأمل في حدِّ ذاتها؛ حيث اعتُقد أنها تشتمل على مفتاح الوصول إلى الحقيقة.
ملخص
للتأمُّل أهمية كبرى، ويُعد محور ممارسة الطريق الثُّماني. ومن خلال إنْماء توجُّهات مثل الإحسان، باستخدام أساليب التأمُّل الباعث على الهدوء، تتعزَّز المسئولية الأخلاقية العميقة تجاه الآخرين. واعتمادًا على هذه المسئولية يبدأ المرء عفويًّا في العمل على رفاهية الآخرين ووضع مصالحهم على قدم المساواة مع مصالحه الخاصة. وتوصي النسخة البوذية من القاعدة الذهبية القائلة أَحِبَّ لأخيك ما تحب لنفسك بما يلي: «نظرًا لأن كل الكائنات تسعى إلى السعادة وتتجنَّب المعاناة، يجب ألا يفعل المرء أبدًا بالآخرين ما لا يرغب في أن يفعلوه به.» ومن خلال التصرُّف وفقًا لمثل هذا النوع من المبادئ يُصبح المرء مثاليًّا في الفضيلة («سيلا»). وعن طريق إنْماء الفهم التحليلي، من خلال تأمُّل التبصُّر، تظهر الحكمة («بانيانيا»)، ويبدأ المرء في فهْم حقيقة المعاناة، وحقيقة نشأة المعاناة، وحقيقة إيقاف المعاناة، وحقيقة الطريق.
وهكذا فإن المكونات الثلاثة للطريق الثُّماني — الأخلاقيات والتأمُّل والحكمة — تشبه الجوانب الثلاثة للمثلث. ورغم ذلك، فالتأمُّل ليس مجرد وسيلةٍ للحصول على الفضيلة والحكمة، ولو كان كذلك لأصبح مجرد أسلوبٍ يمكن التخلي عنه بمجرد الوصول إلى الفضيلة والحكمة. ونظرًا لأن بوذا استمرَّ في ممارسة التأمُّل حتى بعد تنويره، فمن الممكن أن نستنتج بكل أريحية أن الحالات التي يشهدها المرء في التأمُّل هي في حدِّ ذاتها تجارب إنسانية قيِّمة.