تجربة البروفيسور
١
يمتلك نبيذ أفنتال الأحمر سمة مميزة، ألا وهي أنَّ قنينة صغيرة تجعلك لطيفًا ولكن حاسمًا، وقنينتَين تجعلانك ثرثارًا وعنيدًا، وثلاثًا تجعلك غير عاقل لدرجة التهور.
لو أن النادل في فندق برينس كارل بهايدلبرج يهتم بما هو خلاف ثمن الشراب، لكان قد حَسَب بدقة تأثير القنينات الست الصغيرة من الأفنتال التي أحضرها إلى غرفة الدكتور بلجلوري الموقر في عشاء الساعة السادسة لثلاثة أشخاص. بمعنى أنه ربما كان سيستنتج هذه القصة مقدمًا من خلال ملاحظة حقيقة أن من القنينات الست الصغيرة شربتِ الآنسة بلانش بلجلوري واحدة، وشرب الدكتور الموقر، أبوها، اثنتين، بينما كانت القنينات الباقية من نصيب ستراوت، وستراوت هو شابٌّ صغير من نيويورك من تلامذة البروفيسور شفانك في قسم الأمراض النفسية والعصبية بالجامعة.
لذا، أثناء الأمسية، عندما غفا الدكتور في مقعده انتهز ستراوت الشاب الفرصة ليطرح على الآنسة بلانش سؤالًا سبق أن طرحه عليها مرتين، مرةً في ساراتوجا سبرينجس ومرةً في مدينة نيويورك، حصل الشاب على الإجابة نفسها التي سمعها من قبلُ مرتين، ولكن بأسلوب أكثر حسمًا، وفي الوقت نفسه ليس أقل لطفًا. لقد أعربت الفتاة عن إصرارها غير المتزعزع على الالتزام برغبات والدها.
لم يكن الرد مبهجًا تمامًا لستراوت الشاب؛ فقد كان يعرف أكثر من أيِّ شخصٍ آخر أن الدكتور يبغض آراءه، رغم قبوله له اجتماعيًّا وإنسانيًّا. وكان الدكتور لا يلبث أنْ يُكرِّر: «ما من رجلٍ يُنكر الحقيقة الموضوعية للمعرفة المستقاة من الحدْس أو غيرها من الطُّرق الاستبطانية … ما من رجل يُنحِّي الحقيقة الجوهرية جانبًا في سعيه الأهوج نحو الظواهر يمكن أن يُصبح زوجًا صالحًا لطفلتي.»
وقال الدكتور الشيء نفسه ثانيةً بكلمات كثيرة للغاية وبمزيد من التأكيد، بعدما أفاق من غفوته، إثر انسحاب الآنسة بلانش بتحفُّظ.
قال ستراوت ملحًّا: «ولكن يا دكتوري العزيز، هذا شأن من شئون القلب، وليس له أدنى علاقة بالميتافيزيقا، سوف تغادران إلى نورنبيرج غدًا، وهذه فرصتي الأخيرة.»
ردَّ الدكتور: «أنت شابٌّ ممتاز من نواحٍ عديدة. تخلَّ عن ماديتك الشديدة وستكون بلانش مِلكك من كلِّ قلبي. أنت سليل أسرة لا غبارَ عليها، ولكنك مُتشبِّع فكريًّا بأخطر الهرطقات في هذا الزمان وغيره من الأزمنة. وإذا شجعتُ هذه الهرطقة بإعطائك ابنتي، فلن أستطيع أنْ أرفع عيني في وجه هيئة تدريس برينستون مرةً أخرى.»
أجاب ستراوت بإصرار: «أظن أن هيئة تدريس برينستون لا ناقة لها ولا جمل في هذا الأمر. إنه شأن يخصني أنا وبلانش.»
إذًا، أمامنا هنا ثلاثة أشخاص، اثنان منهم في مرحلة الشباب، ووقع كلٌّ منهما في حبِّ الآخر، وتُفرقهما مسألة ميتافيزيقية، وهي مسألة من أكثر المسائل التي أضاعت الجهد البشري تجريدًا وانعدام جدوى. ولكن هذه المسألة بعينها قسَّمت مدارس أوروبا لقرون وأسهمت إسهامًا كبيرًا في لائحة شهداء الرأي والفكر. وقد بُعِثَ هذا الجدل القديم الشهير إلى الحياة ثانيةً بواسطة قنينات النبيذ الست الصغيرة؛ ثلاث منها متمسكة برأيها بشدة أمام الثلاث الأخرى.
قالت قنينتا الدكتور: «ما من حُجَّة في العالم يمكن أن تزعزع قراري.» وراح في سُبات عميق مرة أخرى.
قالت قنينة الآنسة بلانش بعد مُضي ساعتين من الأمسية: «لا يوجد أيُّ قدر من الإقناع والملاطفة يمكن أن يجعلني أُعارض رغبات أبي، ولكنني …» وأكملت القنينة هامسة: «آسفة أنه عنيدٌ للغاية.»
ردَّت قنينات ستراوت الثلاث: «لا أُصدق هذا؛ فجمود قلبك لا يقل عن جمود أفكار والدك الشمولية. لستِ من لحم ودم كباقي النساء. ما أنت إلَّا مجرد امتداد، يتألَّف من كتلة من المفاهيم، ويدَّعي كونه كيانًا مستقلًّا، ويفرض وجوده غير الحقيقي على شيطانٍ بائسٍ مثلي. أقول إنكِ غير حقيقية. محض خلل في المنطق، خطأ في الإدراك، مغالطة في الاستدلال، أنت فرضية مغلوطة الموضع، وإلامَ ستئُولين؟ دخان! يتطاير في كلِّ مكان. لو لم تكوني كذلك، لكنتِ اهتممت بي. يا لي من أحمق كي أحبك! كأني بنفسي أحب ذكرى أو فكرة أو حلمًا أو صيغة رياضية أو قاعدة نحوية أو أي شيء آخر يفتقر إلى الوجود المحسوس.»
لم تنطق بكلمة، لكن اغرورقت عيناها بالدموع.
واصل حديثه لدى الباب قائلًا: «الوداع يا بلانش، فلتبارككِ السماء حين يُزوجُك أبوك في النهاية لقياسٍ منطقي!» وسحب قبعته فوق عينيه ولم يلحظ نظرةَ الألم والحيرة التي غمرت وجهها الجميل.
٢
ذهب ستراوت وهو يُصفِّر من فندق برينس كارل متجهًا إلى شارع بلوك. استرجع وداعه لبلانش، وقال في نفسه: «لعل هذا أفضل. فَقدْتُ حلمًا في الحياة، وأفسحتُ مجالًا أوسع للحقائق.» ورأى في الساعة المعلقة في السوق أن الساعة قد بلغت التاسعة والنصف، وأن البدر المكتمل المُطل على تل كونيجشتول يغمر المدينة والوادي بنوره. وفي أعلى جانب التل، برزت أطلال القلعة العتيقة العملاقة بجسارة من بين الأشجار.
توقَّف عن الصفير وكزَّ على أسنانه.
قال بصوتٍ عالٍ: «تبًّا! لا يَسَعُ المرءَ التخلي عن معتقداته كما يخلع زوجًا من الأحذية غير المريحة. على أيِّ حال، ما الحب إلا انحلال جزيئات بعينها من المخ أو النخاع وإعادة تجميعها، ولا تزال القوانين الدقيقة التي تحكم ذلك غير معروفة يقينًا.» وإذ يقول ذلك مندفعًا في طريقه اصطدم بشخصٍ بَدِين يسير في الشارع.
قال البروفيسور شفانك بصوته المبتهج: «مرحبًا! سيد ستراوت، إلى أين تذهب بهذه السرعة، وبأي فسيولوجيا تتحدَّث إلى القمر؟»
ردَّ ستراوت: «أنا أسير تحت تأثير ثلاث زجاجات من نبيذ أفنتال اللعين الذي نزل إلى قدميَّ يا سيدي البروفيسور، وأغازل القمر. إنها علاقة غرامية قديمة تلك التي تربط بيننا.»
تساءل البروفيسور البدين مقهقهًا: «ماذا عن صديقتك الأمريكية الجميلة؟»
أجاب ستراوت بحزن: «سترحل في قطار الصباح.»
قال البروفيسور متعجبًا: «يا للسماء! وأعماك الحزن لدرجة أن تندفع مصطدمًا ببطون الأكبر منك؟ فلتأتِ معي إلى شقتي، ولتُدخن إلى أن تصل إلى حالة عقلية فلسفية.»
كانت شقة البروفيسور شفانك تواجه مبنى الجامعة في لودفيج-بلاتس. استقرَّ ستراوت في مقعدٍ وثير بذراعين، واضعًا في فمه غليونًا به نوعية ممتازة من التبغ؛ ومِن ثَمَّ شعر بالانسجام التام مع محيطه. كان يجلس حينها في جوٍّ من النشاط العلمي الصحي والعملي يُهدِّئ رُوحه. لقد ذهب البروفيسور شفانك أبعد من أبرز معاصريه في توضيح الأساس الفسيولوجي المحض للعقل والفكر. واقترب أكثر من أيِّ رجل آخر في أوروبا من أسرار هالة الأعصاب، وأعماق المخ، وندوب ذاكرة العقد العصبية. كان رأيه الفلسفي يناقض، على سبيل المثال، رأي الدكتور بلجلوري المبجل. وعَكَست غرفة المكتب اهتمامات الرجل. في أحد الأركان قبع ملف رومكورف ضخم، وتناثرت الكتب في كلِّ مكان … على الأرفف وعلى المناضد وعلى المقاعد وعلى الأرض. كان ثمة صورة نصفية لأرسطو تُحدِّق عبر الغرفة في وجه صورة نصفية للايبنتس. صور فوتوغرافية لجال وبابنهايم وليفينهوك مُعلَّقة على الجدران. كان المكان يعجُّ بالحيوانات المُشرحة المطلية والمستحضرات المبتلة. وفي وعاء زجاجي على المنضدة الموضوعة تحت مرفق ستراوت، كان يطفو مخُّ فيلسوفٍ وضعي في كحول أصفر اللون، وبالقرب منه، أيضًا يتقلب في الكحول النخاع المستطيل للصٍّ مشهور.
كان منظر البروفيسور نفسه، وهو يجلس في مقعده الوثير أمام ستراوت، ساحبًا سحابات الدخان بهدوء وسكينة من مبسم غليونه الصيني الطويل بلون الكهرمان؛ منظرًا من النوع الذي يُبشر سلفًا بالتعاطف، ويُغري بالدخول في أحاديث خاصة. ليس فقط وجهه المتورِّد، المزين بلحيته الصفراء، بل أيضًا جسده الضخم ككلٍّ بدا أنه يُرسل لستراوت شعاعًا من الود والألفة. بدا كملاذٍ لمكسوري الفؤاد. ومدفوعًا على الرغم منه بابتسامة البروفيسور العطوفة المجامِلة وأسئلته الحصيفة المتحفِّظة، وجد ستراوت راحةً في البوح بكلِّ ما يعتمل في صدره من هموم. استمع البروفيسور بصبر، وهو يُدخن في صمت، إلى القصة الطويلة. ولو أن ستراوت كان أقل انشغالًا بمآسيه وآلامه، فلربما كان سيكتشف خلف هذا الاهتمام الودود الذي الْتمع في عدسات نظارة البروفيسور الذهبية، عينَين صغيرتَين رماديتَين بلون المعدن تراقبانه ببرود البحث العلمي الصارم الذي لا يلين.
وأخيرًا قال ستراوت: «ها قد رأيت يا سيدي البروفيسور أن حالتي ميئوس منها.»
رد البروفيسور: «زميلي العزيز، لستُ أرى شيئًا من هذا.»
أوضح ستراوت: «لكنها مسألة اعتقاد. لا يستطيع المرء إنكار الحقيقة حتى إذا كان ذلك للفوز بزوجة. هي نفسها ستحتقرني إذا فعلت.»
رد البروفيسور بحكمة وحصافة: «في هذا العالم كل شيء حقيقي ولا شيء حقيقي. يجب أن تغير معتقداتك.»
«هذا مستحيل!»
نفث البروفيسور سحابةً عظيمةً من الدخان وراقب الشاب بتعبير ينم عن الشفقة والاندهاش، وبدا لستراوت أن أرسطو ولايبنتس وليفينهوك وبابنهايم وجال كلهم ينظرون إليه بشفقة واندهاش.
رد البروفيسور شفانك: «أتقول مستحيل؟ على العكس يا بني العزيز، لا شيء أسهل من أنْ يُغيِّر المرء معتقداته. في ظل الوضع الحالي المتقدم للجراحة، هناك صعوبة ضئيلة للغاية.»
نظر ستراوت إلى معلمه المحترم نظرةً خاوية ذاهلة. واستأنف العالِم حديثه قائلًا: «ما تُطلق عليه معتقداتك ما هو إلا تكوين عقلي، يعتمد على ظروف عارضة. فأنت وضعي أو مثالي أو متشكك أو صوفي أو أيًّا ما يكن، لماذا؟ لأن الطبيعة والميول وطريقة احتواء العناصر العظمية جعلت جمجمتك أكثر سُمكًا في مكان ما، وأقل سُمكًا في آخر. وعندما يضغط الجدار القحفي بشدة على المخ في بقعة معينة يجعلك تسخر من آراء صديقك الدكتور بلجلوري. وعندما يتقيد نمو الأنسجة في بقعة أخرى يجعلك ترفض الإيمان بفلسفة معينة. وأنا أؤكد لك يا سيد ستراوت، لقد اكتشفنا وصنَّفنا بالفعل الجزء الأكبر من الأسباب الفيزيائية التي تحدد المعتقدات وتقيدها، ومِن ثَمَّ فإننا نعمل على اختزال النظام بسرعة إلى يقين العلم.»
قاطعه ستراوت الذي كان رأسه يدور بفعل التأثير المركَّب لنبيذ أفنتال ودخان التبغ والأفكار الجديدة المفاجئة: «أعجز عن فهم كيف يمكن أن يساعد ما تقوله في حالتي. للأسف الشديد لم تَعُد عظام جمجمتي غضروفية كالرُّضع. ولا يمكنك تشكيل فكري بواسطة الأربطة والعصابات.»
صاح شفانك: «آه، ها أنت تُسيء لكبريائي المهني. لو أنك فقط تضع نفسك بين يدي!»
«وماذا سيحدث عندئذٍ؟»
ردَّ البروفيسور بحماس: «عندئذٍ سأُعيد تشكيل تفكيرك ليناسب هذا الوضع الطارئ. تسألني كيف؟ إذا أصابتك ضربة على رأسك وسقطت شظية من العظام في المادة الرمادية التي تُبطِّن الدماغ، وأفقدتك الذاكرة، أو القدرة اللغوية، أو أي حاسة أخرى من الحواس، أيًّا كانت، فكيف سأواصل عملي؟ سوف أرفع جزءًا من العظام وأزيل الضغط. الأمر نفسه عندما يحُد التكوين الفيزيائي للجمجمة قدرتك على فهم وتصديق الفلسفة التي يُصر عالِم اللاهوت الأمريكي على وجودها في زوج ابنته. سوف أزيل الضغط، وأعطيك زوجة ساحرة، في حين يكسب العلم حقيقة رائعة قيِّمة. هذا ما أعرضه عليك يا سيد ستراوت!»
قال ستراوت: «بعبارة أخرى …»
صاح البروفيسور قافزًا من مقعده غير عابئٍ الآن بإخفاء حماسته: «بعبارةٍ أخرى، سوف أثقب جمجمتك.»
قال ستراوت ببطء، بعد أن سكت فترة طويلة، حاوَل خلالها اكتشاف السبب الذي جعل وجه جال المصور تبدو عليه نظرة انتصار: «حسنًا سيدي البروفيسور … حسنًا سيدي البروفيسور، أوافق على إجراء العملية. فلتثقب جمجمتي الآن … الليلة.»
اعترض البروفيسور اعتراضًا فاترًا على التعجل في هذا المسار، وقال منبهًا: «التجهيزات الضرورية.» فردَّ ستراوت: «لا يجب أن تستغرق أكثر من خمس دقائق؛ فغدًا قد أُغيِّر رأيي.»
كان هذا التلميح كافيًا لإجبار البروفيسور على التنفيذ الفوري، وسأل: «هل تسمح لي بأن أُرسل في طلب زميلي المحترم في الجامعة الدكتور أنتون ديجلمان؟» وافق ستراوت قائلًا: «افعل كلَّ ما تجده ضروريًّا لنجاح التجربة.»
رنَّ البروفيسور شفانك الجرس، وقال للخادم الأسود الذي يبدو على مُحيَّاه الغباء والذي ردَّ على الجرس: «أسرع عبر الميدان واطلب من الدكتور ديجلمان الحضور إليَّ فورًا، واطلب منه إحضار حقيبة أدوات الجراحة وأثير السلفوريك. وإذا وجدت الدكتور، فلستَ مضطرًّا للرجوع.»
مُنفِّذًا فكرة فجائية واتته، أخذ ستراوت ورقة ملقاة على منضدة البروفيسور وكتب عليها بضع كلمات بسرعة، وقال معطيًا الخادم قطعة ذهبية بعشرة ماركات: «خذ! سلِّم هذه الرسالة في فندق برينس كارل في الصباح … انتبه، في الصباح.»
بلانش، عندما تصلك رسالتي سأكون قد حللت المشكلة بطريقة أو بأخرى. أنا على وشك إجراء جراحة ثقب للجمجمة على يد صديقي البروفيسور شفانك. فإذا أُزيلت العقبة الفكرية التي تحُولُ دون لمِّ شملنا بالعملية الجراحية فسوف أتبعك إلى بافاريا وسويسرا. أما إذا لم تُسفر العملية عن النتائج المرجوة فتذكري بالخير تعيسك.
وصَّل فريتس الرسالة بإخلاص إلى الدكتور ديجلمان، ثم أسرع ناحية أقرب متجر خمور، إذ أبهرته القطعة الذهبية. وقال في نفسه: «يا له من سيدٍ نبيلٍ سخيٍّ ولطيف! عشرة ماركات لتوصيل الرسالة إلى برينس كارل في الصباح … عشرة ماركات، ألف بفنج، وزجاجة الجعة بخمسة بفنجات أي مائتي زجاجة جعة!» ملأتْه ضخامة الأمل المرتقب بالسعادة. كيف يُبدي امتنانه؟ فكَّر، وواتَته فكرة: «لن أنتظر حتى الصباح.» سوف أُوصِّل رسالة السيد الليلة، وعلى الفور. وسوف يقول: «فريتس، أنت شخص يقظ. أنت تُبلي بلاءً أحسن من المطلوب منك.»
٣
تمدَّد ستراوت على مقعدٍ قابل للفرد، وقد خلع معطفه وصُدرته. ووقف البروفيسور شفانك بجواره وفي يده جريدة ملفوفة على شكل مخروط فارغ. أمسك المخروط من قمته، وضغط بفتحة المخروط الواسعة في قاعدته على وجه ستراوت، مغطيًا كلَّ وجهه ما عدا عينيه وجبهته.
قال البروفيسور بصوت هادئ رتيب: «تنفسْ أنفاسًا طويلة وثابتة ومنتظمة. هذا صحيح، هذا صحيح، هذا … صحيح، هكذا … هكذا … هكذا!»
مع كلِّ شهيق كان ستراوت يستنشق البرودة الواخزة اللطيفة لأبخرة الأثير. في البداية كان تنفُّسه قسريًّا: في نهاية كلِّ نفَس كان يشعر للحظة كما لو كانت مياه مندفعة تتدفَّق عبر مخه. وبالتدريج امتدت فترة الشعور بالتدفق، إلى أن أضحت تبدأ مع بداية كل نفَس. بعد ذلك بدا أن الأثير سيطر على تنفُّسه، وتحكم في انبساط وانقباض صدره بعيدًا عن إرادته. كان الأثير يتنفس بالنيابة عنه؛ فسلَّم نفسه لتأثيره شاعرًا بالسعادة. وباتت التدفقات إيقاعية، وقصرت الفترات الفاصلة بينها أكثر وأكثر. بدا أن تفرده قد غُلِّف بالتدفقات، وبأنه يتبعها جيئةً وذهابًا في السريان والانحسار. وقال في نفسه: «سأفقد وعيي بعد لحظة واحدة.» وغرق وعيه في الفيضان الدوامي.
أومأ البروفيسور شفانك إلى الدكتور ديجلمان، الذي ردَّ عليه بإيماءة مماثلة.
كان الدكتور ديجلمان عجوزًا نحيلًا ضئيل الجسم، يزن بالكاد أكثر من مائة رطل. وكان يرتدي شعرًا مستعارًا أسود اللون، أكبر بكثير من رأسه. وكانت عيناه عميقتَين تحت حاجبَين متغضنَين، ويحفر وجهَه خطَّان واضحان يسيران من زاويتَي أنفه إلى زاويتَي فمه يضفيان على وجهه تعبيرًا ساخرًا هزيلًا، على نحو يتناقض بشدة مع البدانة الظريفة للبروفيسور شفانك. كان الدكتور ديجلمان صَمُوتًا، لكنه قويُّ الملاحظة. عند إيماء البروفيسور، فتح حقيبة أدوات الجراحة الخاصة به واختار مشرطًا ذا نصلٍ ملتوٍ حاد، وأيضًا قطعة معدنية لامعة تُشبه الجزء اللولبي الدوَّار من مثقب النجار ولها مقبض. وبعد أن تأكد بنفسه أن هذه الأدوات كانت في حالة جيدة، شمَّر عن ساعديه واقترب من ستراوت الفاقد الوعي.
همس البروفيسور شفانك بحماس: «عند الخط الناصف تقريبًا، خلف نقطة التقاء الدرز الإكليلي والدرز السهمي.»
رد ديجلمان: «نعم، أعرف … أعرف.»
كان على وشك قص بعض الشعر البني الذي يعوق إجراء العملية فوق قمة رأس ستراوت بمشرطه، عندما فُتح الباب بسرعة من الخارج ودلفت منه سيدة شابة، بصحبة خادمة، دون استئذان.
أَعلنت السيدة الشابة للعالمَين المندهشَين بعد أن استردت أنفاسها مباشرة: «أنا بلانش بلجلوري. جئت كي …»
في هذه اللحظة لاحظت جسد ستراوت المُسجَّي على المقعد القابل للفرد، وقد جذب انتباهها الأداة المعدنية اللامعة في يد الدكتور ديجلمان. أطلقت صرخة ضعيفة وجرت نحوهم.
صاحت قائلةً: «أوه، هذا فظيع! لقد تأخَّرتُ، وقد قتلتماه بالفعل.»
قال البروفيسور المهذب: «أرجوكِ، هدئي من رَوعك. لا شيء فظيع في هذه الظروف التي نَدِين لها بهذه الزيارة الجميلة من شابة ساحرة مثلك.»
أضاف الدكتور ديجلمان وهو يُكشِّر عن ابتسامة شيطانية ويفرك يديه: «يا له من شرفٍ عظيم!»
واستطرد البروفيسور: «وللأسف، لم تُثقَب جمجمة السيد ستراوت بعد؛ فقد كنا على وشك الشروع في العملية، عندما دخلتِ.»
أطلقت الآنسة بلجلوري زفرةَ ارتياحٍ وغاصت في أحد المقاعد.
شرح البروفيسور النظرية الكامنة وراء تجربته بكلمات قليلة مُنتقاة، مسهبًا بشكلٍ خاصٍّ في الحديث عن التأثير الذي كان متوقعًا لها أن تُحدثه على قَدرَي الشاب والفتاة. وعندما انتهى، كانت عينا الفتاة مغرورقتَين بالدموع، ولكن خطوط فمها الصارمة بيَّنت أنها قد اتخذت قرارها بالفعل.
قالت متعجبة: «يا لنُبل أخلاقه، أن يُخضِع نفسه لجراحة يثقب فيها جمجمته من أجل خاطري! ولكن هذا يجبُ ألَّا يحدث. لا يمكن أن أقبل أن يُشجَّ رأسه المسكين العزيز. ما كنت لأُسامح نفسي على الإطلاق. تنبع المشكلة كلها من قراري بألا أتزوجه دون موافقة أبي. ومن وجهة نظري الحالية للواجب، لا أستطيع أن أُغيِّر هذا القرار. ولكن ألا ترى …» وواصلت حديثها خافضة صوتها إلى درجة الهمس قائلة: «إنك إذا فتحت جمجمتي، فقد أرى واجبي من وجهة نظرٍ مختلفة؟»
أجاب البروفيسور، ملقيًا نظرة ذات معنًى على الدكتور ديجلمان الذي ردَّ عليه بغمزة غير واضحة بالمرة: «هذا محتمل جدًّا يا سيدتي الشابة العزيزة.»
قالت الآنسة بلانش وهي تنهض من مكانها وتشرع في خلع قبعتها: «إذًا، فأرجوك أن تبدأ ثقب جمجمتي على الفور. أنا أُصرُّ على ذلك.»
«ما كل هذا؟» سأل الصوت العميق للدكتور بلجلوري المبجل، الذي كان قد دخل الغرفة دون أن يَلحظه أحد بعد أن أرشده إليها فريتس. ثم أردف: «جئت بأقصى سرعةٍ ممكنة يا بلانش، ولكن يبدو أنني لم آتِ مبكرًا بما يكفي لأعرف الدوافع المبدئية لتصرفاتك الغريبة.»
قالت الآنسة بلجلوري: «أبي أيها السيدان.»
انحنى الألمانيان بلياقة، ورد الدكتور بلجلوري تحيتهما بأدبٍ جم.
وضَّحت الآنسة بلانش الأمر قائلة: «هذان السيدان يا أبي تفضلا بأن يأخذا على عاتقَيهما مسئولية إنهاء الخلاف في الرأي بيننا وبين جورج المسكين وذلك عن طريق عملية جراحية. أنا لا أفهمها على الإطلاق، ولكن جورج يفهمها، فقد وجد، كما ترى، أن من الأفضل له الخضوع للجراحة، التي كانا على وشك إجرائها عندما وصلت. والآن، لا يمكنني أن أسمح له بأن يعاني من جرَّاء عنادي؛ ولذا يا أبي العزيز، طلبت من السيدين أن يفتحا جمجمتي أنا بدلًا منه.»
كرَّر البروفيسور شفانك على مسامع الدكتور بلجلوري الشرح الذي شرحه للفتاة الشابة ليكون على علم بالأمر. وعندما علم الدكتور بلجلوري بما قرره ستراوت، تأثَّر جدًّا.
وقال: «لا يا بلانش، ليس على صديقنا الشاب أن يُجري العملية. على الرغم من أنني لا أستطيع في قرارة نفسي قَبوله كزوج لابنتي؛ نظرًا لاختلاف وجهة نظرنا في صدق المعرفة المادية اختلافًا جذريًّا، فإنني أستطيع على الأقل أن أقتدي باستعداده النبيل لفتح عقله للإيمان بمعتقدٍ جديد. أنا الذي سأخضع للعملية، فقط لو أن هذين السيدين النبيلَين قَبِلا أن يأخذاني بدلًا من المريض الذي بين أيديهم.»
قال البروفيسور شفانك والدكتور ديجلمان في وقت واحد: «سيكون ذلك من دواعي سرورنا.»
صاح الدكتور بلجلوري بمشاعر حقيقية: «شكرًا جزيلًا! شكرًا جزيلًا!»
لكن بلانش تدخَّلت في الحديث قائلة: «ولكني لن أسمح لك بأن تُضحيَ بمعتقداتك التي تمسَّكت بها طوال حياتك من أجل سعادتي يا أبي.» وأصر الدكتور على أنه لا يفعل إلا واجبه كأب. استمر الخلاف الودي بين الأب وابنته لبعض الوقت، وكان الألمانيان يستمعان له بلامبالاة. فما داما على يقين من أن هناك من سيخضع لتجربتهما على أي حال، فلم يعبآ أي الأمريكيين الثلاثة سيخضع لمشارطهما. وفي الوقت نفسه فتح ستراوت عينيه، ونهض بجسمه ببطء معتمدًا على مرفقه، ونظر حوله في الغرفة لثوانٍ قليلة نظرة خاوية، ثم استغرق مرة أخرى في سبات عميق، فاقدًا الوعي مؤقتًا.
أما البروفيسور شفانك، الذي أدرك أن كلًّا من الأب والابنة مصران بالدرجة نفسها على عزمهما، وأن كليهما من غير المرجح أن يتنازل للآخر، فقد كان على وشك أن يقترح أن تُحلَّ المسألة بإخضاع الاثنين للجراحة، وفي هذه اللحظة استعاد ستراوت وعيَه مرة أخرى. ونهض من رقدته جالسًا بظهر مفرود، ومحدقًا في الوعاء الزجاجي المحتوي على مخ الشخص الوضعي. ثم ضغط بكلتا يديه على رأسه ناطقًا بضع كلمات غير مترابطة. وتدريجيًّا، وهو يسترد حاسة تلو الأخرى من براثن الأثير، لمعت عيناه وبدا أنه قد تَعرَّف على الوجوه المحيطة به. وبعد بعض الوقت فتح شفتيه وتكلَّم.
قال متعجبًا: «رائع!»
اندفعت الآنسة بلجلوري نحوه آخذةً يده. وأسرع الدكتور متقدمًا نحوه، عازمًا على إعلان قراره بإجراء عملية ثقب الجمجمة. ضغط ستراوت على يد بلانش بشفتيه للحظة، وشدَّ على يد الدكتور بودٍّ، ثم أمسك بيد البروفيسور شفانك، وهزَّها بقوة تعبيرًا عن امتنانه واحترامه الشديدين للبروفيسور.
قال: «عزيزي البروفيسور، كيف أردُّ لك هذا الجميل؟ لقد نجحت التجربة أيَّما نجاح.»
شرع البروفيسور في الحديث مذهولًا: «ولكن …»
قاطعه ستراوت قائلًا: «لا تحاول أن تُقلِّل من شأن إسهامك في قدَرِي السعيد؛ فقد كانت النظرية نظريتك، ويرجع الفضل في النجاح العملي للتجربة لك ولمهارة الدكتور ديجلمان.»
ثم استدار ستراوت، الذي كان لا يزال ممسكًا بيد بلانش، إلى والدها.
وقال: «ليس هناك عقبات الآن أمام زواجنا يا دكتور. بفضل عملية البروفيسور شفانك، أرى الآن الخطأ الأعمى لآرائي السابقة حول الاستبطان. وأنا أعترف أمامكم بخطئي. لم أعد وضعيًّا. لقد تخطى عقلي الحدود الضيقة التي كانت تُقيِّده. وأنا الآن أعرف أن هناك في فلسفتنا ما هو أكثر مما يمكن قياسه بالمسطرة المترية أو وزنه بميزان كولوم. منذ أن استسلمت لتأثير الأثير، رحت أسبح في اللانهائية، وتحرَّرت من قيود الزمان والمكان، وفقدت فرديتي في سبيل المجموع. عشرات المرات استغرقت في البراهما، وعشرات المرات تحرَّرت منه، لقد أصبحت إنسانًا جديدًا، ونسيت ذاتي القديمة. لقد وقفت وجهًا لوجه أمام الأوم الرهيب والصوفي، وطَفَت رُوحي الدنيوية، المنحدرة إلى المتناهي، بهدوء فوق محيط من نبيذ الأفنتال. وقفز وعيي للماضي إلى أن وصل للقرن الثلاثين قبل ميلاد المسيح وللمستقبل إلى أن وصل للقرن الأربعين. لا يوجد زمان، لا يوجد مكان، لا وجود فردي، لا شيء سوى المجموع، والإيمان الذي يرشد العقل عبر الظلام الدائم. لقد ظلت هُويَّتي لأكثر من مليون عام هي ذلك الوضعي المحبوس في الوعاء الزجاجي هناك. واسمح لي يا بروفيسور شفانك، لكن هويتك ظلَّت لنفس الفترة الزمانية هي ذلك اللص في الوعاء الآخر. يا للسماء! كم كنتُ مخطئًا إلى الليلة التي تولَّيتَ فيها أنت يا سيدي البروفيسور مصيري الفكري.»
صمت لوهلة ليلتقط أنفاسه، ولكن بريق نشوة الصوفي كان لا يزال يُضيء ملامحه الوسيمة. وساد في الغرفة صمت حَرِج لفترة طويلة. ثم قطعه صوت الدكتور ديجلمان الجاف الخشن: «أنت ترزح تحت نير وهمٍ سخيف مُنافٍ للحقيقة أيها الشاب. لم تُجرَ لك العملية بعد.»
نظر ستراوت باندهاش لأصدقائه واحدًا تلو الآخر، ولكن وجوههم أكدت زعم الطبيب.
قال لاهثًا: «ماذا كان ذلك إذن؟»
رد الطبيب باقتضاب: «أثير السلفوريك.»
قاطعهما الدكتور بلجلوري: «لكن أيًّا يكن، لا يهم الطريقة التي فتحت عقل صديقنا لإدراك الحقيقة. إن انتفاء الحاجة للعملية الجراحية مدعاة للتهنئة.»
تبادل الألمانيان نظرات القلق، وهمس البروفيسور لديجلمان: «سوف نفقد فرصة إجراء التجربة.» ثم أكمل بصوتٍ عالٍ موجهًا حديثه لستراوت: «أنصحك بأن تخضع للجراحة، على أي حال. لن يكون هناك شفاء ذهني دائم دونها، وسرعان ما ستزول آثار الأثير هذه.»
رد ستراوت الذي نجح أخيرًا في قراءة التعبير البارد الأناني الذي يقبع خلف نظارة العالِم: «شكرًا لك، شكرًا لك، أنا راضٍ تمامًا عن نفسي كما أنا.»
أصر شفانك: «لكن بإمكانك، من أجل العلم، أن توافق …»
كرر ديجلمان: «نعم، من أجل العلم.»
أجاب ستراوت بعنف: «فليذهب العلم إلى الجحيم. ألا تعرف أنني لم أعد أومِن بالعلم؟»
بدأت بلانش أيضًا تفهم الدوافع الحقيقية وراء تدخُّل البروفيسور الألماني في علاقتها الغرامية. وتطلعت إلى ستراوت بنظرة ملؤها الاستحسان والرضا عمَّا يقوله ونهضت كي تغادر المكان. تحرك الأمريكيون الثلاثة تجاه الباب، وكزَّ البروفيسور شفانك والدكتور ديجلمان على أسنانهما غضبًا. استدارت الآنسة بلجلوري وانحنت لهما بأدب.
وقالت بأعذب ابتسامة: «إذا كان عليكما أن تثقبا رأس أحد من أجل العلم أيها السادة، يمكنكما إجراء قرعة لتحديد من منكما سيَثقب جمجمة الآخر.»