فلما كانت الليلة ١٠٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان قال: أشتهي أن توافقوني على هذا الرأي، وهو لا يكون إلا خيرًا. فأجابوه إلى ذلك، وطلعوا فوق الجبل، وصاحوا بالتكبير، فكبَّرَتْ معهم الجبال والأشجار والأحجار من خشية الله، فسمعه الكفَّار، فصاحوا على بعضهم ولبسوا السلاح، وقالوا: قد هجم علينا الأعداء وحق المسيح، ثم قتلوا من بعضهم ما لا يعلم عدده إلا الله تعالى. فلما كان الصباح فتَّشوا على الأسارى، فلم يجدوا لهم أثرًا، فقال رؤساؤهم: إن الذي فعل بكم هذه الفعال هم الأسارى الذين كانوا عندنا، فدونكم والسعي خلفهم حتى تلحقوهم فتسقوهم كأس الوبال، ولا يحصل لكم خوف ولا انذهال. ثم إنهم ركبوا خيولهم، وسعوا خلفهم، فما كان إلا لحظة حتى لحقوهم وأحاطوا بهم، فلما رأى ضوء المكان ذلك ازداد به الفزع، وقال لأخيه: إن الذي خفتُ من حصوله قد حصل، وما بقي لنا حيلة إلا الجهاد. فلزم شركان السكوت عن المقال، ثم انحدر ضوء المكان من أعلى الجبل، وكبَّر وكبَّرت معه الرجال، وعوَّلوا على الجهاد، وبيع أنفسهم في طاعة رب العباد.
فبينما هم كذلك وإذا بأصوات يصيحون بالتهليل والتكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، فالتفتوا إلى جهة الصوت فرأوا جيوش المسلمين، وعساكر الموحدين مُقبِلين، فلما رأوهم قويت قلوبهم، وحمل شركان على الكافرين، وهلَّلَ وكبَّرَ هو ومَن معه من الموحدين، فارتجَّتِ الأرض كالزلازل، وتفرَّقت عساكر الكفار في عرض الجبال، فتبعهم المسلمون بالضرب والطعان، وأطاحوا منهم الرءوس عن الأبدان، ولم يزل ضوء المكان هو ومَن معه من المسلمين يضربون في أعناق الكافرين إلى أن ولَّى النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، ثم انحاز المسلمون إلى بعضهم، وباتوا مستبشرين طول ليلهم. فلما أصبح الصباح، وأشرق بنوره ولاح، رأوا بهرام مقدم الديلم، ورستم مقدم الأتراك، ومعهما عشرون ألف فارس مُقبِلين عليهم كالليوث العوابس، فلما رأوا ضوء المكان ترجَّلَ الفرسان، وسلَّموا عليه، وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه، فقال لهم ضوء المكان: أبشروا بنصر المسلمين، وهلاك القوم الكافرين. ثم هنَّئوا بعضهم بالسلامة، وعظيم الأجر في القيامة.
وكان السبب في مجيئهم إلى هذا المكان، أن الأمير بهرام والأمير رستم والحاجب الكبير لما ساروا بجيوش المسلمين والرايات على رءوسهم منشورة حتى وصلوا إلى القسطنطينية، رأوا الكفار قد طلعوا على الأسوار، وملكوا الأبراج والقلاع، واستعدوا في كل حصن مناع، حين علموا بقدوم العساكر الإسلامية، والأعلام المحمدية، وقد سمعوا قعقعة السلاح، وضجة الصياح، ونظروا فرأوا المسلمين، وسمعوا حوافر خيولهم من تحت الغبار، فإذا هم كالجراد المنتشر، والسحاب المنهمر، وسمعوا أصوات المسلمين بتلاوة القرآن، وتسبيح الرحمن، وكان السبب في إعلام الكفَّار بذلك ما دبَّرته العجوز ذات الدواهي من زورها وعهرها، وبهتانها ومكرها، حتى قربت العساكر كالبحر الزاخر من كثرة الرجال والفرسان، والنساء والصبيان، فقال أمير الترك لأمير الديلم: يا أمير، إننا بقينا على خطر من الأعداء الذين فوق الأسوار، فانظر إلى تلك الأبراج، وإلى هذا العالَم الذي كالبحر العجاج المتلاطم بالأمواج، إن هؤلاء الكفار قدرنا مائة مرة، ولا نأمن من جاسوس شره فيخبرهم أننا على خطر من الأعداء الذين لا يُحصَى عددهم، ولا ينقطع مددهم، خصوصًا مع غيبة الملك ضوء المكان وأخيه والوزير الأجَلِّ دندان، فعند ذلك يطمعون فينا لغيبتهم عنَّا؛ فيمحقوننا بالسيف عن آخِرنا، ولا ينجو منَّا ناجٍ، ومن الرأي أن تأخذ أنت عشرة آلاف فارس من المواصلة والأتراك، وتذهب بهم إلى دير مطروحني ومرج ملوخنا في طلب إخواننا وأصحابنا، فإن أطعتموني كنتم سببًا في الفرج عنهم إن كان الكفار قد ضيَّقوا عليهم، وإن لم تطيعوني فلا لوم عليَّ، وإذا توجَّهتم ينبغي أن ترجعوا إلينا مسرعين، فإن من الحزم سوء الظن. فعندها قَبِلَ الأميرُ المذكور كلامَه، وانتخبَا عشرين ألف فارس، وساروا يقطعون الطرقات طالبين المرج المذكور، والدير المشهور.
هذا ما كان من أمر سبب مجيئهم، وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي، فإنها لما أوقعت السلطان ضوء المكان وأخاه شركان والوزير دندان في أيدي الكفار، أخذت تلك العاهرة جوادًا وركبته وقالت للكفار: إني أريد أن ألحق عسكرَ المسلمين، وأتحيَّل على هلاكهم؛ لأنهم في القسطنطينية، فأُعلِمهم أن أصحابهم هلكوا، فإذا سمعوا ذلك مني تشتَّت شملُهم، وانصرم حبلهم، وتفرَّق جمعهم، ثم أدخل أنا على الملك أفريدون ملك القسطنطينية، وولدي الملك حردوب ملك الروم، وأخبرهما بهذا الخبر، فيخرجان بعساكرهما إلى المسلمين ويهلكونهم، ولا يتركون أحدًا منهم. ثم إنها سارت تقطع الأرض على ذلك الجواد طول الليل، فلما أصبح الصباح لاحَ لها عسكر بهرام ورستم، فدخلت بعض الغابات، وأخفت جوادها هناك، ثم خرجَتْ وتمشَّتْ قليلًا وهي تقول في نفسها: لعل عساكر المسلمين قد رجعوا منهزمين من حرب القسطنطينية. فلما قربت منهم نظرت إليهم، وتحقَّقت أعلامهم، فرأتها غير منكسة، فعلمت أنهم أتوا غير منهزمين، ولا خائفين على ملكهم وأصحابهم، فلما عايَنَتْ ذلك أسرعت نحوهم بالجري الشديد مثل الشيطان المريد إلى أن وصلت إليهم، وقالت لهم: العَجَل العَجَل يا جند الرحمن إلى جهاد حزب الشيطان. فلما رآها بهرام أقبَلَ عليها، وترجَّلَ وقبَّلَ الأرض بين يديها، وقال لها: يا ولي الله، ما وراءك؟ فقالت: لا تسأل عن سوء الحال، وشديد الأهوال، فإن أصحابنا لما أخذوا المال من دير مطروحني أرادوا أن يتوجَّهوا إلى القسطنطينية، فعند ذلك خرج عليهم عسكر جرَّار ذو بأس من الكفار.
ثم إن الملعونة أعادت عليهم الحديث إرجافًا ووجلًا، وقالت: إن أكثرهم هلك، ولم يبقَ منهم إلا خمسة وعشرون رجلًا. فقال بهرام: أيها الزاهد، متى فارقَتْهم؟ فقال: في ليلتي هذه. فقال بهرام: سبحان الذي طوى لك الأرض البعيدة، وأنت ماشٍ على قدمَيْك متكئًا على جريدة، لكنك من الأولياء الطيَّارة، الملهمين وحي الإشارة. ثم ركب على ظهر جواده وهو مدهوش وحيران بما سمعه من ذات الإفك والبهتان، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، لقد ضاع تعبنا، وضاقت صدورنا، وأُسِر سلطاننا ومَن معه، ثم جعلوا يقطعون الأرض طولًا وعرضًا ليلًا ونهارًا. فلما كان وقت السَّحَر أقبلوا على رأس الشعب، فرأوا ضوء المكان وأخاه شركان يناديان بالتهليل والتكبير، والصلاة والسلام على البشير النذير، فحمل هو وأصحابه وأحاطوا بالكفار إحاطة السيل بالقفار، وصاحوا عليهم صياحًا ضجَّتْ منه الأبطال، وتصدَّعَتْ منه الجبال، فلما أصبح الصباح، وأشرق بنوره ولاح، فاحَ لهم من ضوء المكان طِيبَه ونشره، وتعارفوا ببعضهم كما تقدَّم ذكره، فقبَّلوا الأرض بين يدي ضوء المكان وأخيه شركان، وأخبرهم شركان بما جرى لهم في المغارة، فتعجَّبوا من ذلك، ثم قالوا لبعضهم: أسرعوا بنا إلى القسطنطينية؛ لأننا تركنا أصحابنا هناك، وقلوبنا عندهم. فعند ذلك أسرعوا في المسير، وتوكَّلوا على اللطيف الخبير، وكان ضوء المكان يقوِّي المسلمين على الثبات، وينشد هذه الأبيات:
فلما فرغ ضوء المكان من شعره، هنَّأه أخوه شركان بالسلامة، وشكره على أفعاله، ثم إنهم توجَّهوا مُجِدِّين المسيرَ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.