فلما كانت الليلة ١٠١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان هنَّأ أخاه ضوء المكان بالسلامة، وشكره على أفعاله، ثم إنهم توجَّهوا مُجِدِّين المسيرَ طالبين عساكرهم. هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي، فإنها لما لاقَتْ عسكر بهرام ورستم عادت إلى الغابة، وأخذت جوادها وركبته، وأسرعت في سيرها حتى أشرفت على عسكر المسلمين المحاصِرين للقسطنطينية، ثم إنها نزلت وأخذت جوادها، وأتَتْ به إلى السرادق الذي فيه الحاجب، فلما رآها نهض لها قائمًا، وأشار إليها بالإيماء، وقال: مرحبًا بالعابد الزاهد. ثم سألها عمَّا جرى، فأخبرته بخبرها المرجف وبهتانها المتلف، وقالت: إني أخاف على الأمير رستم والأمير بهرام؛ لأني قد لاقيتهما مع عسكرهما في الطريق، وأرسلتهما إلى الملك ومَن معه، وكانَا في عشرين ألف فارس، والكفار أكثر منهم، وإني أردتُ في هذه الساعة أن ترسل جملةً من عسكرك حتى يلحقوهم بسرعة لئلا يهلكوا عن آخِرهم. وقالت لهم: العَجَل العَجَل.
فلما سمع الحاجب والمسلمون منها ذلك الكلام، انحلَّتْ عزائمهم وبكوا، فقالت لهم ذات الدواهي: استعينوا بالله واصبروا على هذه الرزية، فلكم أسوة بمَن سلف من الأمة المحمدية، فالجنة ذات القصور أعدَّها لمَن يموت شهيدًا، ولا بد من الموت لكل أحد، ولكنه في الجهاد أحمد. فلما سمع الحاجب كلام اللعينة ذات الدواهي دعا بأخي الأمير بهرام، وكان فارسًا يقال له تركاش، وانتخب له عشرة آلاف فارس أبطالًا عوابس، وأمره بالسير، فسار في ذلك اليوم وطول الليل حتى قرب من المسلمين، فلما أصبح الصباح رأى شركان ذلك الغبار فخاف على المسلمين، وقال: إن هذه عساكر مُقبِلة علينا، فإما أن يكونوا من عسكر المسلمين، فهذا هو النصر المبين، وإما أن يكونوا من عسكر الكفار فلا اعتراضَ على الأقدار. ثم إنه أتى إلى أخيه ضوء المكان، وقال له: لا تَخَفْ أبدًا، فإني أفديك بروحي من الردى، فإن كان هؤلاء من عسكر الإسلام فهذا مزيد الإنعام، وإن كان هؤلاء أعداءنا فلا بد من قتالهم، لكن أشتهي أن أقابل العابد قبل موتي؛ لأسأله أن يدعو لي ألَّا أموت إلا شهيدًا.
فبينما هم كذلك وإذا بالرايات قد لاحَتْ مكتوبًا عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فصاح شركان: كيف حال المسلمين؟ قالوا: بعافية وسلامة، وما أتينا إلا خوفًا عليكم. ثم ترجَّلَ رئيس العسكر عن جواده، وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، وقال: يا مولانا، كيف السلطان والوزير دندان، ورستم وأخي بهرام، أَمَا هم الجميع سالمون؟ فقال: بخير. ثم قال له: ومَن الذي أخبركم بخبرنا؟ قال: الزاهد، وقد ذكر أنه لقي أخي بهرام ورستم، وأرسلهما إليكم، وقال لنا إن الكفار قد أحاطوا بهم وهم كثيرون، وما أرى الأمر إلا بخلاف ذلك، وأنتم منصورون. فقالوا له: وكيف وصول الزاهد إليكم؟ فقالوا له: كان سائرًا على قدمَيْه، وقطع في يوم وليلة مسيرة عشرة أيام للفارس المُجِدِّ. فقال شركان: لا شك أنه ولي الله، وأين هو؟ قالوا له: تركناه عند عسكرنا أهل الإيمان يحرِّضهم على قتال أهل الكفر والطغيان. ففرح شركان بذلك، وحمد الله على سلامتهم وسلامة الزاهد، وترحَّموا على مَن قُتِل منهم، وقالوا: كان ذلك في الكتاب مسطورًا. ثم ساروا مُجِدِّين في سيرهم، فبينما هم كذلك وإذا بغبار قد طار حتى سدَّ الأقطار، وأظلم منه النهار، فنظر إليه شركان وقال: إني أخاف أن يكون الكفار قد كسروا عسكر الإسلام؛ لأن هذا الغبار سدَّ المشرقين، وملأ الخافقين. ثم لاح من تحت ذلك الغبار عمودٌ من الظلام أشد سوادًا من حالك الأيام، وما زالت تقرب منهم تلك الدعامة، وهي أشد من هول يوم القيامة، فتسارعت إليها الخيل والرجال لينظروا ما سبب سوء هذا الحال، فرأوا الزاهد المشار إليه، فازدحموا على تقبيل يدَيْه وهو ينادي: يا أمة خير الأنام، ومصباح الظلام، إن الكفار غدروا بالمسلمين، فأدرِكوا عساكرَ الموحدين، وأنقذوهم من أيدي الكفرة اللئام، فإنهم هجموا عليهم في الخيام، ونزل بهم العذاب المهين، وكانوا في مكانهم آمنين.
فلما سمع شركان ذلك الكلام طار قلبه من شدة الخفقان، وترجَّلَ عن جواده وهو حيران، ثم قبَّلَ يد الزاهد ورجلَيْه، وكذلك أخوه ضوء المكان، وبقية العسكر من الرجال والركبان، إلا الوزير دندان، فإنه لم يترجَّل عن جواده وقال: والله إن قلبي نافر من هذا الزاهد؛ لأني ما عرفت للمتنطِّعين في الدين غير المفاسد، فاتركوه وأدركوا أصحابكم المسلمين، فإن هذا من المطرودين عن باب رحمة رب العالمين، فكم غزوت مع الملك عمر النعمان، ودستُ أراضي هذا المكان. فقال له شركان: دَعْ هذا الظنَّ الفاسد، أَمَا نظرت إلى هذا العابد وهو يحرِّض المؤمنين على القتال، ولا يبالي بالسيوف والنبال؟ فلا تغتبه؛ لأن الغيبة مذمومة، ولحوم الصالحين مسمومة، وانظر إلى تحريضه لنا على قتال أعدائنا، ولولا أن الله تعالى يحبه ما طوى له البعيدَ بعدَ أن أوقَعَه سابقًا في العذاب الشديد. ثم إن شركان أمر أن يقدموا بغلةً نوبية إلى الزاهد ليركبها، وقال له: اركب أيها الزاهد الناسك العابد. فلم يقبل ذلك، وامتنع عن الركوب، وأظهَرَ الزُّهْدَ لينالَ المطلوب، وما دروا أن هذا الزاهد العاهر هو الذي قال في مثله الشاعر:
ثم إن ذلك الزاهد ما زال ماشيًا بين الخيل والرجال، كأنه الثعلب المحتال للاغتيال، وسار رافعًا صوته بتلاوة القرآن، وتسبيح الرحمن، وما زالوا سائرين حتى أشرفوا على عسكر الإسلام، فوجدهم شركان في حالة الانكسار، والحاجب قد أشرف على الهزيمة والفرار، والسيف يعمل بين الأبرار والفجَّار. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.