فلما كانت الليلة ١٠٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شركان لما أدرك المسلمين وهم في حالة الانكسار، والحاجب قد أشرف على الهزيمة والفرار، والسيف يعمل بين الأبرار والفجَّار، وكان السبب في خذل المسلمين أن اللعينة ذات الدواهي عدوة الدين لما رأت بهرام ورستم قد سارَا بعسكرهما نحو شركان وأخيه ضوء المكان، سارت هي نحو عسكر المسلمين، وأنفذت الأميرَ تركاش كما تقدَّمَ ذكره، وقصْدُها بذلك أن تفرِّق بين عسكر المسلمين لأجل أن يضعفوا، ثم تركتهم وقصدت القسطنطينية، ونادت بطارقة الروم بأعلى صوتها وقالت: أدلوا حبلًا لأربط فيه هذا الكتاب، وأوصلوه إلى ملككم أفريدون ليقرأه هو وولدي ملك الروم، ويعملان بما فيه من أمره ونواهيه. فأَدْلَوْا لها حبلًا، فربطت فيه الكتاب، وكان مضمونه: «من عند الداهية العظمى والطامة الكبرى ذات الدواهي إلى الملك أفريدون. أما بعدُ؛ فإني دبَّرت لكم حيلةً على هلاك المسلمين، فكونوا مطمئنين، وقد أسرتهم وأسرت سلطانهم ووزيرهم، ثم توجَّهتُ إلى عسكرهم، وأخبرتُهم بذلك فانكسرَتْ شوكتهم، وضعفت قوتهم، وقد خدعت العسكرَ المحاصرين للقسطنطينية حتى أرسلتُ منهم اثني عشر ألف فارس مع الأمير تركاش خلاف المأسورين، وما بقي منهم إلا القليل؛ فالمراد منكم أنكم تخرجون إليهم بجميع عسكركم في بقية هذا النهار، وتهجمون عليهم في خيامهم، ولكنكم لا تخرجون إلا سواء، واقتلوهم عن آخِرهم، فإن المسيح قد نظر إليكم، والعذراء تعطفت عليكم، وأرجو من المسيح ألَّا ينسى فعلي الذي قد فعلته.»
فلما وصل كتابها إلى الملك أفريدون فرح فرحًا شديدًا، وأرسل في الحال إلى ملك الروم ابن ذات الدواهي وأحضره، وقرأ الكتاب عليه ففرح، وقال: انظر مكر أمي، فإنه يُغنِي عن السيوف، وطلعتها تنوب عن هول اليوم المخوف. فقال الملك أفريدون: لا عدِمَ المسيحُ طلعةَ أمك، ولا أخلاك من مكرك ولؤمك. ثم إنه أمر البطارقة أن ينادوا بالرحيل إلى خارج المدينة، وشاع الخبر في القسطنطينية، وخرجت عساكر النصرانية والعصابة الصليبية، وجرَّدوا السيوف الحِدَاد، وأعلنوا بكلمة الكفر والإلحاد، وكفروا برب العباد، فلما نظر الحاجب إلى ذلك، قال: إن الروم قد وصلوا إلينا، وقد علموا أن سلطاننا غائب، فربما هجموا علينا وأكثر عسكرنا قد توجَّهَ إلى الملك ضوء المكان. واغتاظ الحاجب ونادى: يا عسكر المسلمين، وحماة الدين المتين، إن هربتم هلكتم، وأن صبرتم نُصِرتم، فاعلموا أن الشجاعة صبر ساعة، وما ضاق أمر إلا أوجد الله اتساعه، بارَكَ الله فيكم، ونظر إليكم بعين الرحمة.
فعند ذلك كبَّرَ المسلمون، وصاحَ الموحِّدون، ودارَتْ رحى الحرب بالطعن والضرب، وعملت الصوارم والرماح، وملأ الدم الأودية والبطاح، وقسس القسوس والرهبان، وشدوا الزنانير ورفعوا الصلبان، وأعلن المسلمون بتكبير الملك الديَّان، وصاحوا بتلاوة القرآن، واصطدم حزب الرحمن بحزب الشيطان، وطارت الرءوس عن الأبدان، وطافت الملائكة الأخيار على أمة النبي المختار، ولم يزل السيف يعمل إلى أن ولَّى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، وقد أحاط الكفار بالمسلمين، وحسبوا أن ينجوا من العذاب المهين، وطمع المشركون في أهل الإيمان إلى أن طلع الفجر وبان، فركب الحاجب هو وعسكره، ورجا أن الله ينصره، واختلطت الأمم بالأمم، وقامت الحرب على قدم وطارت القمم، وثبت الشجاع وتقدَّم، وولَّى الجبان وانهزم، وقضى قاضي الموت وحكم، حتى تطاوحت الأبطال عن السروج، وامتلأت بالأموات المروجُ، وتأخَّر المسلمون عن أماكنهم، وملك الروم بعض خيامهم ومساكنهم، وعزم المسلمون على الانكسار، والهزيمة والفرار.
فبينما هم كذلك، وإذا بقدوم شركان بعساكر المسلمين، ورايات الموحدين، فلما أقبل عليهم شركان حمل على الكفار وتبعه ضوء المكان، وحمل بعدهما الوزير دندان، وكذلك أمير الديلم بهرام، ورستم وأخوه تركاش، فإنهم لما رأوا ذلك طارت عقولهم، وغاب معقولهم، وثار الغبار حتى ملأ الأقطار، واجتمع المسلمون الأخيار بأصحابهم الأبرار، واجتمع شركان بالحاجب، فشكره على صبره، وهنَّأه بتأييده ونصره، وفرح المسلمون، وقويت قلوبهم، وحملوا على أعدائهم، وأخلصوا الله في جهادهم، فلما نظر الكفار إلى الرايات المحمدية، وعليها كلمة الإخلاص الإسلامية، صاحوا بالويل والثبور، واستغاثوا ببطارقة الديور، ونادوا حنا ومريم، والصليب المسخم، وانقبضت أيديهم عن القتال، وقد أقبل الملك أفريدون على ملك الروم، وصار أحدهما في الميمنة، والآخَر في الميسرة، وعندهم فارس مشهور يُسمَّى لاويا فوقف وسطًا، واصطفوا للنزال، وإن كانوا في فزع وزلزال، ثم صفَّ المسلمون عساكرهم، فعند ذلك أقبل شركان على أخيه ضوء المكان، وقال له: يا ملك الزمان، لا شكَّ أنهم يريدون البِراز، وهذا غاية مرادنا، ولكن أحِبُّ أن أقدِّم من العسكر مَن له عزم ثابت، فإن التدبير نصف المعيشة. فقال السلطان: ماذا تريد يا صاحب الرأي السديد؟ فقال شركان: أريد أن أكون في قلب عسكر الكفار، وأن يكون الوزير دندان في الميسرة، وأنت في الميمنة، والأمير بهرام في الجناح الأيمن، والأمير رستم في الجناح الأيسر، وأنت أيها الملك العظيم تكون تحت الأعلام والرايات؛ لأنك عمادنا، وعليك بعد الله اعتمادنا، ونحن كلنا نفديك من كل أمر يؤذيك. فشكره ضوء المكان على ذلك، وارتفع الصياح، وجُرِّدت الصفاح.
فبينما هم كذلك، وإذا بفارس قد ظهر من عسكر الروم، فلما قرب رأوه راكبًا على بغلة قطوف تفرُّ بصاحبها من وقع السيوف، وبرذعتها من أبيض الحرير، وعليها سجادة من شغل كشمير، وعلى ظهرها شيخ مليح الشيبة ظاهر الهيبة، عليه مدرعة من الصوف الأبيض، ولم يزل يُسرِع بها وينهض حتى قرب من عسكر المسلمين، وقال: إني رسول إليكم أجمعين، وما على الرسول إلا البلاغ، فأعطوني الأمانَ والإقالة حتى أبلغكم الرسالة. فقال له شركان: لك الأمان، فلا تخشَ حرب سيف، ولا طن سنان. فعند ذلك ترجَّلَ الشيخ، وقلع الصليب من عنقه بين يدَي السلطان، وخضع له خضوع راجي الإحسان، فقال له المسلمون: ما معك من الأخبار؟ فقال: إني رسول من عند الملك أفريدون، فإني نصحته ليمتنع عن تلف هذه الصور الإنسانية، والهياكل الرحمانية، وبيَّنْتُ له أن الصواب حقْنُ الدماء، والاقتصار على فارسين في الهيجاء، فأجابني إلى ذلك، وهو يقول لكم: إني فديتُ عسكري بروحي، فَلْيفعل ملك المسلمين مثلي ويفدي عسكره بروحه، فإن قتلني فلا يبقى لعسكر الكفار ثبات، وإن قتلته فلا يبقى لعسكر الإسلام ثبات.
فلما سمع شركان هذا الكلام قال: يا راهب، إنَّا أجبناه إلى ذلك، فإن هذا هو الإنصاف، فلا يكون منه خلاف، وها أنا أبرز إليه، وأحمل عليه، فإني فارس المسلمين، وهو فارس الكافرين، فإنْ قتلني فازَ بالظفر، ولا يبقى لعسكر المسلمين غير المفر، فارجع إليه أيها الراهب، وقل له إن البِراز يكون في غدٍ؛ لأننا أتينا من سفرنا على تعب في هذا اليوم، وبعد الراحة لا عتب ولا لوم. فرجع الراهب وهو مسرور، حتى وصل إلى الملك أفريدون وملك الروم، وأخبرهما بذلك؛ ففرح الملك أفريدون غاية الفرح، وزال عنه الهمُّ والترح، وقال في نفسه: لا شك أن شركان هذا هو أضربهم بالسيف، وأطعنهم بالسنان، فإذا قتلتُه انكسرت همتهم، وضعفت قوتهم. وقد كانت ذات الدواهي كاتبَتِ الملكَ أفريدون بذلك، وقالت له إن شركان هو فارس الشجعان، وشجاع الفرسان، وحذَّرت أفريدون من شركان، وكان أفريدون فارسًا عظيمًا؛ لأنه كان يقاتل كلَّ أنواع القتال، ويرمي بالحجارة والنبال، ويضرب بالعمود الحديد، ولا يخشى من البأس الشديد، فلما سمع قول الراهب من أن شركان أجاب إلى البِراز، كاد أن يطير من شدة الفرح؛ لأنه واثق بنفسه، ويعلم أنه لا طاقةَ لأحد به.
ثم بات الكفار تلك الليلة في فرح وسرور، وشرب خمور، فلما كان الصباح، أقبلت الفوارس بسمر الرماح، وبيض الصفاح، وإذا هم بفارس قد برز في الميدان وهو راكب على جواد من الخيل الجياد، مُعَدٍّ للحرب والجلاد، وله قوائم شداد، وعلى ذلك الفارس درعٌ من الحديد، مُعَدٌّ للبأس الشديد، وفي صدره مرآة من الجوهر، وفي يده صارم أبتر، وقنطارية خولنج من غريب عمل الإفرنج. ثم إن الفارس كشف عن وجهه وقال: مَن عرفني فقد اكتفاني، ومَن لم يعرفني فسوف يراني، أنا أفريدون المغمور ببركة شواهي ذات الدواهي. فما تمَّ كلامه حتى خرج في وجهه فارس المسلمين شركان وهو راكب على جواد أشقر، يساوي ألفًا من الذهب الأحمر، وعليه عدة مزركشة بالدر والجواهر، وهو متقلِّد بسيف هندي مجوهر، يقد الرقاب، ويهون الأمور الصعاب، ثم ساق جواده بين الصفين، والفرسان تنظره بالعين، ثم نادى أفريدون وقال له: ويلك يا ملعون، أتظنني كمَن لاقيتَ من الفرسان، ولا يثبت معك في حومة الميدان؟
ثم حمل كلٌّ منهما على صاحبه، فصار الاثنان كأنهما جبلان يصطدمان، أو بحران يلتطمان، ثم تقارَبَا وتباعَدَا، والتصَقَا وافترَقَا، ولم يزالَا في كرٍّ وفرٍّ، وهزلٍ وجدٍّ، وضرب وطعن، والجيشان ينظران إليهما، وبعضهم يقول: إن شركان غالب. والبعض يقول: إن أفريدون غالب. ولم يزل الفارسان على هذا الحال حتى بطل القيل والقال، وعلا الغبار وولَّى النهار، ومالت الشمس إلى الاصفرار، وصاح الملك أفريدون على شركان وقال له: وحق المسيح والاعتقاد الصحيح، ما أنت إلا فارس كرار، وبطل مغوار، غير أنك غدار، وطبعك ما هو طبع الأخيار؛ لأني أرى فعلك غير حميد، وقتالك قتال الصنديد، وقومك ينسبونك إلى العبيد، وها هم أخرجوا لك غير جوادك، وتعود إلى القتال، وإني وحق ديني قد أعياني قتالك، وأتعبني ضربك وطعانك، فإن كنتَ تريد قتالي في هذه الليلة فلا تغيِّر شيئًا من عدتك ولا جوادك؛ حتى يظهر للفرسان كرمك وقتالك.
فلما سمع شركان هذا الكلام اغتاظ من قول أصحابه في حقه، حيث ينسبونه إلى العبيد، فالتفَتَ إليهم شركان، وأراد أن يشير إليهم، ويأمرهم ألَّا يغيِّروا له جوادًا ولا عدة، وإذا بأفريدون هزَّ حربته، وأرسلها إلى شركان، فالتفت وراءه، فلم يجد أحدًا، فعلم أنها حيلة من الملعون، فردَّ وجهه بسرعة، وإذا بالحربة قد أدركته، فمال عنها حتى ساوى برأسه قربوص سرجه، فجرت الحربة على صدره، وكان شركان عالي الصدر، فكشطت الحربة جلدةَ صدره، فصاح صيحة واحدة، وغاب عن الدنيا؛ ففرح الملعون أفريدون بذلك، وعرف أنه قد قتله، فصاح على الكفار، ونادى بالفرح، فهاج أهل الطغيان وبكى أهل الإيمان، فلما رأى ضوء المكان أخاه مائلًا على الجواد حتى كاد أن يقع، أرسل نحوه الفرسان، فتسابقت إليه الأبطال وأتوا به إليه، وحمل الكفَّار على المسلمين، والتقى الجيشان، واختلط الصفان، وعمل اليماني، وكان أسبق الناس إلى شركان الوزير دندان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.