فلما كانت الليلة ١٠٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما دخل على أخيه شركان وجده جالسًا والعابد عنده، ففرح وأقبل عليه وهنَّأه بالسلامة، فقال شركان: إننا كلنا في بركة هذا الزاهد، وما انتصرتم إلا بدعائه، فإنه ما برح اليوم وهو يدعو للمسلمين، وكنت وجدت في نفسي قوة حين سمعت تكبيرَكم، فعلمت أنكم منصورون على أعدائكم، فاحكِ لي يا أخي ما وقع لك. فحكى له جميع ما وقع له مع الملعون أفريدون، وأخبره أنه قتله وراح إلى لعنة الله، فأثنى عليه وشكر مسعاه. فلما سمعت ذات الدواهي، وهي في صفة الزاهد، بقتل ولدها الملك أفريدون، انقلب لونها بالاصفرار، وتغرغرت عيناها بالدموع الغزار، ولكنها أخفَتْ ذلك، وأظهرت للمسلمين أنها فرحت، وأنها تبكي من شدة الفرح، ثم إنها قالت في نفسها: وحقِّ المسيح ما بقي في حياتي فائدة إنْ لم أحرق قلبه على أخيه شركان، كما أحرق قلبي على عماد الملة النصرانية، والعصابة الصليبية، الملك أفريدون. ولكنها كتمت ما بها، ثم إن الوزير دندان والملك شركان والحاجب استمروا جالسين عند شركان حتى عملوا له اللزق والأدهان، وأعطوه الدواء، فتوجَّهَتْ إليه العافية، وفرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وأعلموا به العساكر فتباشَرَ المسلمون، وقالوا: في غدٍ يركب معنا، ويباشر الحصار. ثم إن شركان قال لهم: إنكم قاتلتم اليومَ وتعبتم من القتال، فينبغي أن تتوجَّهوا إلى أماكنكم وتناموا ولا تسهروا. فأجابوه إلى ذلك، وتوجَّهَ كلٌّ منهم إلى سرادقه، وما بقي عند شركان سوى قليل من الغلمان والعجوز ذات الدواهي، فتحدَّثَ معها قليلًا من الليل، ثم اضطجع لينام، وكذلك الغلمان، ثم غلب عليهم النومُ فصاروا مثل الأموات.
هذا ما كان من أمر شركان وغلمانه، وأما ما كان من أمر العجوز ذات الدواهي، فإنها بعد نومهم صارت يقظانة وحدها في الخيمة، ونظرت إلى شركان، فوجدته مستغرقًا في النوم، فوثبت على قدميها كأنها دبة معطاء، أو آفة غطاء، وأخرجت من وسطها خنجرًا مسمومًا لو وُضِع على صخرة لأذابها، ثم جرَّدته من غمده، وأتت عند رأس شركان وجرَّته على رقبته فذبحته، وأزالت رأسه عن جسده، ثم وثبت على قدمَيْها وأتَتْ إلى الغلمان النيام وقطعت رءوسهم لئلا يتنبهوا، ثم خرجت من الخيمة وأتت إلى خيام السلطان، فوجدت الحراس غير نائمين، فمالت إلى خيمة الوزير دندان، فوجدته يقرأ القرآن، فوقعت عينه عليها، فقال: مرحبًا بالزاهد العابد. فلما سمعت ذلك من الوزير ارتجف قلبها وقالت له: إن سبب مجيئي إلى هنا في هذا الوقت أني سمعت صوت ولي من أولياء الله، وأنا ذاهب إليه. ثم ولَّت، فقال الوزير دندان في نفسه: والله لأتبع هذا الزاهد في هذه الليلة. فقام ومشى خلفها، فلما أحَسَّتِ الملعونة بمشيه عرفت أنه وراءها؛ فخشيت أن تفتضح، وقالت في نفسها: إنْ لم أخدعه بحيلةٍ فإني أفتضِح معه. فأقبلت إليه من بعيد وقالت: أيها الوزير، إني سائر خلف هذا الولي لأعرفه، وبعد أن أعرفه أستأذنه في مجيئك إليه، وأقبل عليك وأخبرك، لأني أخاف أن تذهب معي بغير استئذان الولي، فيحصل له نفرة مني إذا رآك معي.
فلما سمع الوزير كلامها استحى أن يردَّ عليها جوابًا، فتركها ورجع إلى خيمته، وأراد أن ينام فما طاب له منام، وكادت الدنيا أن تنطبق عليه، فقام وخرج من خيمته، وقال في نفسه: أنا أمضي إلى شركان وأتحدَّث معه إلى الصباح. فسار إلى أن دخل خيمة شركان، فوجد الدم سائلًا منه كالقناة، ونظر الغلمان مذبوحين، فصاح صيحةً أزعجَتْ مَن كان نائمًا، فتسارع الخلق إليه، فرأوا الدم سائلًا فضجوا بالبكاء والنحيب، فعند ذلك استيقظ السلطان ضوء المكان، وسأل عن الخبر فقيل له: إن شركان أخاك والغلمان مقتولون. فقام مسرعًا إلى أن دخل الخيمة، فوجد الوزير دندان يصيح ووجد جثة أخيه بلا رأس، فغاب عن الدنيا، وصاح كل العساكر وبكوا وداروا حول ضوء المكان ساعةً حتى استفاق، ثم نظر إلى شركان وبكى بكاءً شديدًا، وفعل مثله الوزير ورستم وبهرام، وأما الحاجب فإنه صاح وأكثر من النواح، ثم طلب الارتحال لما به من الأوجال، فقال الملك: أَمَا علمتم بالذي فعل بأخي هذه الفعال؟ وما لي لا أرى الزاهد الذي عن متاع الدنيا متباعد؟ فقال الوزير: ومَن جلب هذه الأحزان إلا هذا الزاهد الشيطان؟ فوالله إن قلبي نفر منه في الأول والآخِر؛ لأنني أعرف أن كلَّ متنطع في الدين خبيث ماكر. ثم إن الناس ضجوا بالبكاء والنحيب، وتضرَّعوا إلى القريب المجيب، أن يوقع بين أيديهم ذلك الزاهد، الذي هو لآيات الله جاحد، ثم جهَّزوا شركان ودفنوه في الجبل المذكور، وحزنوا على فضله المشهور. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.