فلما كانت الليلة ١٠٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك ضوء المكان لما حضر الوزير والحاجب ورستم وبهرام، التفت إلى الوزير دندان، وقال: اعلم أيها الوزير أن الليل قد أقبل، وسدل جلابيبه علينا وأسبل، ونريد أن تحكي لنا ما وعدتنا به من الحكايات. فقال الوزير: حبًّا وكرامة.
حكاية عزيز وعزيزة والملك سليمان
اعلم أيها الملك السعيد أنه بلغني من حكاية العاشق والمعشوق والمتكلم بينهما، وما جرى لهم من العجائب والغرائب، ما يزيل الهمَّ عن القلوب، ويسلي عن مثل حزن يعقوب، وهو أنه كان في سالف الزمان، مدينة وراء جبال أصبهان، يقال لها المدينة الخضراء، وكان بها ملك يقال له الملك سليمان، وكان صاحب جود وإحسان، وعدل وأمان، وفضل وامتنان، وسارت إليه الركبان من كل مكان، وشاع ذكره في سائر الأقطار والبلدان، وأقام في المملكة مدة مديدة من الزمان، وهو في عزٍّ وأمان، إلا أنه كان خاليًا من الأولاد والزوجات، وكان له وزير يقاربه في الصفات من الجود والهبات، فاتفق أنه أرسل إلى وزيره يومًا من الأيام وأحضَرَه بين يديه، وقال له: يا وزيري، إنه قد ضاق صدري، وعيل صبري، وضعف مني الجلد؛ لكوني بلا زوجة ولا ولد، وما هذا سبيل الملوك الحكَّام على كل أمير وصعلوك، فإنهم يفرحون بخلفة الأولاد، وتتضاعف لهم بهم العدد والأعداد، وقد قال النبي ﷺ: «تناكحوا تناسلوا؛ فإني مباهٍ بكم الأممَ يوم القيامة.» فما عندك من الرأي يا وزير، فأَشِرْ عليَّ بما فيه النصح من التدبير.
فلما سمع الوزير ذلك الكلام فاضت الدموع من عينَيْه بالانسجام، وقال له: هيهات يا ملك الزمان أن أتكلم فيما هو من خصائص الرحمن، أتريد أن أدخل النار بسخط الملك الجبار؟ فقال له الملك: اعلم أيها الوزير أن الملك إذا اشترى جاريةً لا يعلم حَسَبها، ولا يعرف نَسَبها، فهو لا يدري خساسة أصلها حتى يجتنبها، ولا شرف عنصرها حتى يتسرى بها، فإذا أفضى إليها ربما حملت منه، فيجيء الولد منافِقًا ظالمًا سافكًا للدماء، ويكون مثلها مثل الأرض السبخة؛ إذا زُرِع فيها زرع فإنه يخبث نباته، ولا يحسن ثباته، ويكون ذلك الولد متعرِّضًا لسخط مولاه، ولا يفعل ما أمره به، ولا يجتنب ما عنه نهاه، فأنا لا أتسبَّب في هذا بشراء جارية أبدًا، وإنما مرادي أن تخطب لي بنتًا من بنات الملوك يكون نَسَبها معروفًا، وجمالها موصوفًا، فإن دللتني على ذات النَّسَب والدين من بنات ملوك المسلمين، فإني أخطبها وأتزوَّج بها على رءوس الأشهاد؛ ليحصل لي بذلك رضا رب العباد. فقال له الوزير: إن الله قضى حاجتك، وبلَّغك أمنيتك. فقال له: وكيف ذلك؟ فقال له: اعلم أيها الملك أنه بلغني أن الملك زهر شاه صاحب الأرض البيضاء، له بنت بارعة الجمال، يعجز عن وصفها القيل والقال، ولم يوجد لها في هذا الزمان مثيل لأنها في غاية الكمال، قويمة الاعتدال، ذات طرف كحيل، وشعر طويل، وخصر نحيل، وردف ثقيل، إن أقبلَتْ فتنَتْ، وإن أدبرت قتلت، تأخذ القلبَ والناظرَ، كما قال فيها الشاعر:
فلما فرغ الوزير من وصف تلك الجارية، قال للملك سليمان شاه: الرأي عندي أيها الملك أن ترسل إلى أبيها رسولًا فَطِنًا خبيرًا بالأمور، مجرِّبًا لتصاريف الدهور، ليتلطف في خطبتها لك من أبيها؛ فإنها لا نظيرَ لها في قاصي الأرض ودانيها، وتحظى منها بالوجه الجميل، ويرضى عليك الرب الجليل؛ فقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: «لا رهبانية في الإسلام.» فعند ذلك توجَّهَ إلى الملك كمالُ الفرح، واتسع صدره وانشرح، وزال عنه الهم والغم، ثم أقبل على الوزير وقال له: اعلم أيها الوزير أنه لا يتوجَّه إلى هذا الأمر إلا أنت؛ لكمال عقلك وأدبك، فقُمْ إلى منزلك واقضِ أشغالك، وتجهَّزْ في غدٍ واخطب لي هذه البنت التي أشغلتَ بها خاطري، ولا تعُدْ إليَّ إلا بها. فقال: سمعًا وطاعة.
ثم إن الوزير توجَّه إلى منزله، واستدعى الهدايا التي تصلح للملوك من ثمين الجواهر، ونفيس الذخائر، وغير ذلك مما هو خفيف في الحمل، وثقيل في الثمن، ومن الخيل العربية، والدروع الداودية، وصناديق المال التي يعجز عن وصفها المقال، ثم حملوها على البغال والجمال، وتوجَّهَ الوزير ومعه مائة مملوك، ومائة عبد، ومائة جارية، وانتشرت على رأسه الرايات والأعلام، وأوصاه الملك أن يأتي إليه في مدة قليلة من الأيام. وبعد توجُّهِه صار الملك سليمان شاه على مقالي النار، مشغولًا بحبها في الليل والنهار، وسار الوزير ليلًا ونهارًا، يطوي براري وقفارًا، حتى بقي بينه وبين المدينة التي هو متوجِّه إليها يوم واحد، ثم نزل على شاطئ نهر، وأحضر بعض خواصه، وأمره أن يتوجَّه إلى الملك زهر شاه بسرعة، ويخبره بقدومه عليه، فقال: سمعًا وطاعة. ثم توجَّهَ بسرعة إلى تلك المدينة، فلما قدِمَ عليها وافَقَ قدومه أن الملك زهر شاه كان جالسًا في بعض المنتزهات قدام باب المدينة، فرآه وهو داخل، وعرف أنه غريب، فأمر بإحضاره بين يديه، فلما حضر الرسول أخبره بقدوم وزير الملك الأعظم سليمان شاه صاحب الأرض الخضراء وجبال أصفهان؛ ففرح الملك زهر شاه، ورحَّبَ بالرسول، وأخذه وتوجَّهَ إلى قصره وقال: أين فارقْتَ الوزير؟ فقال: فارقتُه في أول النهار على شاطئ النهر الفلاني، وفي غد يكون واصلًا إليك، وقادمًا عليك، أدام الله نعمته عليك، ورحِمَ والديك. فأمر زهر شاه بعضَ وزرائه أن يأخذ معظم خواصه وحجابه ونوَّابه وأرباب دولته، ويخرج بهم إلى مقابلته تعظيمًا للملك سليمان شاه؛ لأن حكمه نافذ في الأرض.
هذا ما كان من أمر الملك زهر شاه، وأما ما كان من أمر الوزير، فإنه استقر في مكانه إلى نصف الليل، ثم رحَلَ متوجِّهًا إلى المدينة، فلما لاحَ الصباح، وأشرقت الشمس على الروابي والبطاح، لم يشعر إلا ووزير الملك زهر شاه وحجَّابه وأرباب دولته، وخواص مملكته، قدموا عليه واجتمعوا به على فراسخ من المدينة، فأيقن الوزير بقضاء حاجته، وسلَّمَ على الذين قابلوه، ولم يزالوا سائرين قدامه حتى وصلوا إلى قصر الملك، ودخلوا بين يديه في باب القصر إلى سابع دهليز، وهو المكان الذي لا يدخله الراكب؛ لأنه قريب من الملك، فترجَّلَ الوزير، وسعى على قدمَيْه حتى وصل إلى إيوانٍ عالٍ، وفي صدر ذلك الإيوان سرير من المرمر، مرصَّع بالدر والجوهر، وله أربعة قوائم من أنياب الفيل، وعلى ذلك السرير مرتبة من الأطلس الأخضر مطرزة بالذهب الأحمر، ومن فوقها سرادق مرصَّع بالدر والجوهر، والملك زهر شاه جالس على ذلك السرير، وأرباب دولته واقفون في خدمته. فلما دخل الوزير عليه وصار بين يديه، ثبت جنانه، وأطلق لسانه، وأبدى فصاحةَ الوزراء، وتكلَّمَ بكلام البلغاء. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.