فلما كانت الليلة ١١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية لما ضحكت بعد غيظها، أقبلت على الجماعة وقالت: أخبروني بخبركم، فما بقي من عمركم إلا ساعة، ولولا أنتم أعزاء وأكابر قومكم أو حكَّام لَعجَّلْتُ جزاءَكم. فقال الخليفة: ويلك يا جعفر، عرِّفها بنا وإلا تقتلنا. فقال جعفر: من بعض ما نستحق. فقال له الخليفة: لا ينبغي الهزل في وقت الجد، كلٌّ منهما له وقت. ثم إن الصبية أقبلت على الصعاليك، وقالت لهم: هل أنتم إخوة؟ فقالوا لها: لا والله، ما نحن إلا فقراء الحجام. فقالت لواحد منهم: هل أنت وُلِدت أعور؟ فقال: لا والله، وإنما قد جرى لي أمر عجيب حين تَلِفَتْ عيني، ولهذا الأمر حكاية لو كُتِبَتْ بالإبر على آماق البصر لَكانت عبرةً لمَن اعتبر. فسألت الثاني والثالث فقالا لها مثل الأول، ثم قالوا: إنَّ كلَّ واحد مِنَّا من بلد وإن حديثنا عجيب، وأمرنا غريب. فالتفتَتِ الصبية لهم، وقالت: كل واحد منكم يحكي حكايته، وما سبب مجيئه إلى مكاننا، ثم يملِّس على رأسه، ويروح إلى حال سبيله. فأوَّلُ مَن تقدَّمَ الحمَّالُ، فقال: يا سيدتي، أنا رجل حمَّال حملتني هذه الدلَّالة، وأتت بي إلى هنا، وجرى لي معكن ما جرى، وهذا حديثي والسلام. فقالت له: مَلِّسْ على رأسك ورُحْ. فقال: واللهِ ما أروح حتى أسمع حديث رفقائي.
حكاية الصعلوك الأول
فتقدَّمَ الصعلوك الأول، وقال لها: يا سيدتي، اعلمي أن سبب حلق ذقني وتلف عيني أن والدي كان ملكًا وله أخ، وكان أخوه ملكًا على مدينة أخرى، واتفق أن أمي ولدتني في اليوم الذي وُلِد فيه ابن عمي، ثم مضت سنون وأعوام وأيام حتى كبرنا، وكنت أزور عمي في بعض السنين، وأقعد عنده أشهُرًا عديدة، فزرته مرة فأكرمني ابن عمي غاية الإكرام، وذبح لي الأغنام، وروَّق لي المُدام، وجلسنا للشراب، فلما تحكَّم الشراب فينا قال ابن عمي: يا ابن عمي، إن لي عندك حاجة مهمة، وأريد ألَّا تخالفني فيما أريد أن أفعله. فقلتُ له: حبًّا وكرامة.
فاستوثق مني بالأيمان العِظَام، ونهض من وقته وساعته، وغاب قليلًا ثم عاد وخلفه امرأة مُزَيَّنَة مطيبة، وعليها من الحلل ما يساوي مبلغًا عظيمًا، فالتفت إليَّ والمرأة خلفه، وقال: خذ هذه المرأة واسبقني على الجبَّانة الفلانية. ووصفها لي فعرفتُها، وقال لي: ادخل بها التربة، وانتظرني هناك. فلم يمكنني المخالفة، ولم أقدر على ردِّ سؤاله لأجل اليمين الذي حلفته، فأخذت المرأة وسرت إلى أن دخلت التربة أنا وهي، فلما استقر بنا الجلوس جاء ابن عمي ومعه طاسة فيها ماء وكيس فيه جبس وقادوم، ثم إنه أخذ القادوم وجاء إلى قبر في وسط التربة ففَكَّه، ونقض أحجاره إلى ناحية التربة، ثم حفر بالقادوم في الأرض حتى كشف عن طابق قدر الباب الصغير، فبان من تحت الطابق سلَّمٌ معقود، ثم التفت إلى المرأة بالإشارة، وقال لها: دونك وما تختارين. فنزلت المرأة على ذلك السلَّمِ، ثم التفَتَ إليَّ وقال: يا ابن عمي تمِّمِ المعروفَ، إذا نزلتُ أنا في ذلك الموضع فرُدَّ الطابق، ورُدَّ عليه الترابَ كما كان، وهذا تمام المعروف، وهذا الجبس الذي في الكيس، وهذا الماء الذي في الطاسة أعجن منه الجبس وجبِّس القبر في دائر الأحجار كما كان أولًا حتى لا يعرفه أحد، ولا يقول هذا فتح جديد وبطنه عتيق؛ لأن لي سنة كاملة وأنا أعمل فيه، وما يعلم به إلا الله، وهذه حاجتي عندك. ثم قال لي: لا أوحش الله منك يا ابن عمي. ثم نزل على السلم.
فلما غاب عني قمتُ ورددت الطابق، وفعلت ما أمرني به، حتى صار القبر كما كان، ثم رجعت إلى قصر عمي، وكان عمي في الصيد والقنص، فنمتُ تلك الليلة، فلما أصبح الصباح تذكرتُ الليلةَ الماضية وما جرى فيها بيني وبين ابن عمي، وندمت على ما فعلت معه حيث لا ينفع الندم، ثم خرجت إلى المقابر وفتَّشْتُ على التربة فلم أعرفها، ولم أزل أفتش حتى أقبل الليل، ولم أهتَدِ إليها، فرجعتُ إلى القصر ولم آكل ولم أشرب، وقد اشتغل خاطري بابن عمي من حيث لا أعلم له حالًا، فاغتممتُ غمًّا شديدًا، وبِتُّ ليلتي مغمومًا إلى الصباح، فجئتُ ثانيًا إلى الجبانة، وأنا أفكِّر فيما فعله ابن عمي، وندمتُ على سماعي منه، وقد فتَّشْتُ في الترب جميعًا، فلم أعرف تلك التربة، ولازمتُ التفتيشَ سبعةَ أيام فلم أعرف له طريقًا، فزاد بي الوسواس حتى كدتُ أن أجن، فلم أجد فرجًا دون أن سافرت، ورجعت إلى أبي، فساعة وصولي إلى مدينة أبي نهض إليَّ جماعة على باب المدينة وكتَّفوني، فتعجَّبْتُ كلَّ العجب لأني ابن سلطان المدينة، وهم خدم أبي وغلماني، ولحقني منهم خوف زائد، فقلت في نفسي: يا ترى ما جرى على والدي؟! وصرتُ أسأل الذين كتَّفوني عن سبب ذلك، فلم يردُّوا عليَّ جوابًا، ثم بعد حين قال لي بعضهم، وكان خادمًا عندي: إن أباك قد غدر به الزمان، وخانته العساكر، وقتله الوزير، ونحن نترقَّب وقوعك.
فأخذوني، وأنا غائب عن الدنيا بسبب هذه الأخبار التي سمعتها عن أبي، فلما تمثَّلْتُ بين يدي الوزير الذي قتل أبي، وكان بيني وبينه عداوة قديمة، وسبب تلك العداوة أني كنت مولعًا بضرب البندق، فاتفق أني كنتُ واقفًا يومًا من الأيام على سطح قصري، وإذا بطائر نزل على سطح قصر الوزير، وكان واقفًا هناك، فأردتُ أن أضرب الطيرَ، وإذا بالبندقة أخطأَتْ وأصابت عين الوزير، فأتلفَتْها بالقضاء والقدر، كما قال الشاعر:
وكما قال الآخر:
ثم قال ذلك الصعلوك: فلما أتلَفْتُ عينَ الوزير لم يقدر أن يتكلم لأن والدي كان ملك المدينة؛ فهذا سبب العداوة التي بيني وبينه، فلما وقفتُ قدامه وأنا مكتَّف، أمر بضرب عنقي، فقلتُ: أتقتلني بغير ذنب؟! فقال: أي ذنب أعظم من هذا؟ وأشار إلى عينه المُتلَفة، فقلتُ له: فعلتُ ذلك خطأً. فقال: إن كنتَ فعلتَه خطأً، فأنا أفعله بك عمدًا. ثم قال: قدِّموه بين يدي. فقدَّموني بين يدَيْه، فمدَّ أصبعه في عيني الشمال فأتلفها؛ فصرتُ من ذلك الوقت أعور كما تروني، ثم كتَّفني ووضعني في صندوق، وقال للسياف: تسلَّمْ هذا، وأشهِرْ حسامَك وخُذْه واذهب به إلى خارج المدينة، واقتله ودَعْه للوحوش تأكله. فذهب بي السياف، وسار حتى خرج من المدينة، وأخرجني من الصندوق، وأنا مكتوف اليدين مقيَّد الرجلين، وأراد أن يغمض عينيَّ ويقتلني، فبكيتُ وأنشدت هذه الأبيات:
وأنشدتُ أيضًا هذه الأبيات:
فلما سمع السياف شعري، وكان سيَّاف أبي، ولي عليه إحسان، قال: يا سيدي، كيف أفعل وأنا عبد مأمور؟! ثم قال لي: فُزْ بعمرك، ولا تَعُدْ إلى هذه الأرض فتهلك، وتهلكني معك، كما قال الشاعر:
فلما قال لي ذلك قبَّلت يدَيْه، وما صدقت بالنجاة حتى فررت، وهان عليَّ تلف عيني بنجاتي من القتل، وسافرتُ حتى وصلتُ إلى مدينة عمي، فدخلت عليه وأعلمته بما جرى لوالدي، وبما جرى لي من تلف عيني، فبكى بكاء شديدًا، وقال: لقد زدتَني همًّا على همي، وغمًّا على غمي؛ فإن ابن عمك قد فُقِدَ منذ أيام، ولم أعلم بما جرى له، ولم يخبرني أحد بخبره. وبكى حتى أغمي عليه، فلما استفاق قال: يا ولدي، لقد حزنت على ابن عمك حزنًا شديدًا، وأنت زدتني بما حصل لأبيك غمًّا على غمي، ولكن يا ولدي بعينك ولا بروحك.
ثم إني لم يمكني السكوت عن ابن عمي الذي هو ولده، فأعلمتُه بالذي جرى له كله، ففرح عمي بما قلته له فرحًا شديدًا عند سماع خبر ابنه، وقال: أرني التربة. فقلت: والله يا عمي لم أعرف مكانها؛ لأني رحت بعد ذلك مرات لأفتش عليها فلم أعرف مكانها. ثم ذهبتُ أنا وعمي إلى الجبانة، ونظرت يمينًا وشمالًا فعرفتها، ففرحت أنا وعمي فرحًا شديدًا، ودخلتُ أنا وإياه التربة، وأزحنا التراب، ورفعنا الطابق، ونزلت أنا وعمي مقدارَ خمسين درجة، فلما وصلنا إلى آخِر السلم، وإذا بدخان طلع علينا فغشي أبصارنا، فقال عمي الكلمةَ التي لا يخاف قائِلُها وهي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم مشينا وإذا نحن بقاعة ممتلئة دقيقًا وحبوبًا ومأكولًا، وغير ذلك، ورأينا في وسط القاعة ستارةً مسبولة على سرير، فنظر عمي إلى السرير فوجد ابنه هو والمرأة التي قد نزلَتْ معه صارَا فحمًا أسودَ، وهما متعانقان كأنهما أُلْقِيَا في جبِّ نار، فلما نظر عمي ذلك بصق في وجهه، وقال: تستحق يا خبيث، فهذا عذاب الدنيا، وبقي عذاب الآخرة وهو أشد وأبقى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.