فلما كانت الليلة ١١٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فرفعت رأسي إلى فوق لأنظر من أين سقط هذا المنديل، فوقعت عيني في عين صاحبة هذا الغزال، وإذا بها مطلة من طاقة من شبَّاك من نحاس لم تَرَ عيني أجمل منها، وبالجملة يعجز عن وصفها لساني، فلما رأتني نظرتُ إليها وضعَتْ إصبعها في فمها، ثم أخذت إصبعها الوسطاني وألصقته بإصبعها الشاهد، ووضعتهما على صدرها بين نهدَيْها، ثم أدخلت رأسها من الطاقة، وسدَّت باب الطاقة وانصرفت، فانطلقَتْ في قلبي النار، وزاد بي الاستعار، وأعقبتني النظرةُ ألفَ حسرة، وتحيَّرت لأني لم أسمع ما قالت، ولم أفهم ما به أشارت، فنظرت إلى الطاقة ثانيًا فوجدتها مطبوقة، فصبرت إلى مغيب الشمس، فلم أسمع حسًّا ولم أَرَ شخصًا، فلمَّا يئست من رؤيتها قمت من مكاني، وأخذت المنديل معي، ثم فتحته ففاحت منه رائحة المسك، حصل لي من تلك الرائحة طرب عظيم، حتى صرت كأنني في الجنة، ثم نشرته بين يديَّ، فسقطت منه ورقة لطيفة، ففتحت الورقة فرأيتها مضمَّخةً بالروائح الذكيات، ومكتوبًا فيها هذه الأبيات:
ثم بعد أن قرأت الأبيات، أطلقت في بهجة المنديل نظر العين، فرأيتُ في إحدى حاشيتيه تسطير هذين البيتين:
ومسطَّر في الحاشية الأخرى هذان البيتان:
فلما رأيت ما على المنديل من الأشعار، انطلق في فؤادي لهيب النار، وزادت بي الأشواق والأفكار، وأخذت المنديل والورقة، وأتيت بهما إلى البيت وأنا لا أدري لي حيلة في الوصال، ولا أستطيع في العشق تفصيل الإجمال، فما وصلت إلى البيت إلا بعد مدة من الليل، فرأيت بنت عمي جالسة تبكي، فلما رأتني مسحت دموعها وأقبلَتْ عليَّ وقلعتني الثياب، وسألتني عن سبب غيابي، وأخبرتني أن جميع الناس من أمراء وكبراء وتجار وغيرهم قد اجتمعوا في بيتنا، وحضر القاضي والشهود، وأكلوا الطعام واستمروا مدة جالسين ينتظرون حضوري من أجل كتب الكتاب، فلما يئسوا من حضوري تفرَّقوا، وذهبوا إلى حال سبيلهم، وقالت لي: إن أباك اغتاظ بسبب ذلك غيظًا شديدًا، وحلف أنه لا يكتب كتابنا إلا في السنة المقبلة؛ لأنه غرم في هذا الفرح مالًا كثيرًا. ثم قالت لي: ما الذي جرى لك في هذا اليوم حتى تأخرت إلى هذا الوقت، وحصل ما حصل بسبب غيابك؟ فقلت لها جرى لي كذا وكذا، وذكرت لها المنديل، وأخبرتها بالخبر من أوله إلى آخره، فأخذَتِ الورقةَ والمنديل، وقرأت ما فيهما، وجرت دموعها على خدودها، وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إنها قالت لي: فما قالَتْ لك وما أشارَتْ به إليك؟ فقلت لها: ما نطقَتْ بشيء غير أنها وضعت إصبعها في فمها، ثم قرنتها بالإصبع الوسطى، وجعلت الإصبعين على صدرها، وأشارت إلى الأرض، ثم أدخلَتْ رأسها وأغلقت الطاقة، ولم أَرَها بعد ذلك، فأخذت قلبي معها، فقعدت إلى غياب الشمس أنتظر أنها تطل من الطاقة ثانيًا، فلم تفعل، فلما يئست منها قمت من ذلك المكان، وهذه قصتي وأشتهي منك أن تعينيني على ما بُلِيت به. فرفعت رأسها إليَّ وقالت: يابن عمي، لو طلبتَ عيني لأخرجتُها لك من جفوني، ولا بد أن أساعدك على حاجتك، وأساعدها على حاجتها؛ فإنها مغرمة بك كما إنك مغرم بها. فقلت لها: وما تفسير ما أشارَتْ به؟ قالت: أما وضع إصبعها في فمها، فإنه إشارة إلى أنك عندها بمنزلة روحها من جسدها، وإنما تعضُّ على وصالك بالنواجذ، وأما المنديل فإنه إشارة إلى سلام المحبين على المحبوبين، وأما الورقة فإنها إشارة إلى أن روحها متعلقة بك، وأما وضع إصبعَيْها على صدرها بين نهدَيْها، فتفسيره أنها تقول لك بعد يومين تعال هنا ليزول عني بطلعتك العناء. اعلم يابن عمي أنها لك عاشقة، وبك واثقة، وهذا ما عندي من التفسير لإشاراتها، ولو كنتُ أدخل وأخرج لجمعتُ بينك وبينها في أسرع وقت، وأستركما بذيلي. قال الغلام: فلما سمعتُ ذلك منها شكرتُها على قولها، وقلت في نفسي: أنا أصبر يومين. ثم قعدتُ في البيت يومين لا أدخل ولا أخرج، ولا آكل ولا أشرب، ووضعت رأسي في حجر ابنة عمي وهي تسلِّيني وتقول: قوِّ عزمك وهمتك، وطيِّب قلبك وخاطرك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.