فلما كانت الليلة ١١٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فلما انقضى اليومان قالت لي ابنة عمي: طِبْ نفسًا، وقرَّ عينًا، وقوِّ عزْمَك، والبس ثيابك، وتوجَّهَ إليها على الميعاد. ثم إنها قامت وغيَّرت أثوابي وبخَّرتني، ثم شددتُ حيلي، وقوَّيتُ قلبي، وخرجت وتمشيت إلى أن دخلت الزقاق، وجلست على المصطبة ساعةً، وإذا بالطاقة قد انفتحت، فنظرتُ بعيني إليها، فلما رأيتها وقعتُ مغشيًّا عليَّ، ثم أفقتُ فشددتُ عزمي، وقوَّيت قلبي، ونظرت إليها ثانيًا، فغبت عن الوجود، ثم استفقت فرأيت معها مرآة ومنديلًا أحمر، وحين رأتني شمَّرت عن ساعديها، وفتحت أصابعها الخمس، ودقَّت بها على صدرها بالكف والخمس أصابع، ثم رفعت يديها، وأبرزت المرآة من الطاقة، وأخذت المنديل الأحمر، ودخلت به وعادت، وأدلَتْه من الطاقة إلى صوب الزقاق ثلاث مرات وهي تدليه وترفعه، ثم عصرته ولفَّته بيدها وطأطأت رأسها، ثم جذبتها من الطاقة، وأغلقت الطاقة، وانصرفت ولم تكلِّمني كلمة واحدة، بل تركتني حيران لا أعلم ما أشارت به، واستمررتُ جالسًا إلى وقت العشاء، ثم جئت إلى البيت قرب نصف الليل، فوجدتُ ابنةَ عمي واضعةً يدها على خدها، وأجفانها تسكب العَبَرات وهي تنشد هذه الأبيات:
فلما سمعتُ شعرها زاد ما بي من الهموم، وتكاثرت عليَّ الغموم، ووقعت في زوايا البيت، فنهضَتْ إليَّ وحملتني، وقلَّعتني أثوابي، ومسحت وجهي بكمِّها، ثم سألتني عمَّا جرى لي، فحكيت لها جميع ما حصل منها، فقالت: يا ابن عمي، أما إشارتها بالكف والخمس أصابع فإن تفسيره: تعال بعد خمسة أيام. وأما إشارتها بالمرآة وإبراز رأسها من الطاقة، فإن تفسيره: اقعد على دكان الصباغ حتى يأتيك رسولي. فلما سمعتُ كلامَها اشتعلَتِ النارُ في قلبي، وقلت: بالله يا بنت عمي إنك تصدقيني في هذا التفسير؛ لأني رأيتُ في الزقاق صبَّاغًا يهوديًّا. ثم بكيتُ، فقالت ابنة عمي: قوِّ عزمك، وثبِّتْ قلبك، فإن غيرك يشتغل بالعشق مدة سنين، ويتجلَّد على حرِّ الغرام، وأنت لك جمعة، فكيف يحصل لك هذا الجزع؟ ثم أخذت تسليني بالكلام، وأتت لي بالطعام، فأخذت لقمة، وأردت أن آكلها فما قدرت، فامتنعت من الشراب والطعام، وهجرتُ لذيذَ المنام، واصفرَّ لوني، وتغيَّرت محاسني؛ لأني ما عشقت قبل ذلك، ولا ذقت حرارةَ العشق إلا في هذه المرة؛ فضعفت وضعفت بنت عمي من أجلي، وصارت تذكر لي أحوال العشَّاق والمحبِّين على سبيل التسلِّي في كل ليلة إلى أن أنام. وكنتُ أستيقظ فأجدها سهرانةً من أجلي، ودمعها يجري على خدها، ولم أزَلْ كذلك إلى أن مضَتِ الخمسة أيام، فقامت ابنة عمي وسخَّنت لي ماء وحممتني به، وألبستني ثيابي، وقالت لي: توجَّهْ إليها قضى الله حاجتك، وبلَّغك مقصودك من محبوبتك. فمضيت ولم أزَلْ ماشيًا إلى أن أتيتُ إلى رأس الزقاق، وكان ذلك في يوم السبت، فرأيت دكان الصباغ مقفولة، فجلست عليها حتى أذان العصر، واصفرَّت الشمس، وأذن المغرب، ودخل الليل، وأنا لا أرى لها أثرًا، ولا أسمع حسًّا ولا خبرًا؛ فخشيت على نفسي، وأنا جالس وحدي، فقمتُ وتمشيت وأنا كالسكران إلى أن دخلت البيت، فلما دخلت رأيت ابنة عمي عزيزة، وإحدى يدَيْها قابضة على وتد مدقوق في الحائط، ويدها الأخرى على صدرها وهي تصعد الزفرات، وتنشد هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها التفتَتْ إليَّ فرأتني أبكي، فمسحَتْ دموعها ودموعي بكمِّها، وتبسَّمت في وجهي وقالت لي: يا ابن عمي، هنَّاك الله بما أعطاك، فلأي شيء لم تَبِت الليلةَ عند محبوبتك، ولم تقضِ منها أربك؟ فلما سمعتُ كلامها رفصتها برجلي في صدرها، فانقلبت على الإيوان، فجاءت جبهتها على طرف الإيوان، وكان هناك وتد فجاء في جبهتها، فتأملتها فرأيت جبينها قد انفتح وسال دمها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.