فلما كانت الليلة ١١٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فلما رفصت ابنة عمي في صدرها، انقلبت على طرف الإيوان، فجاء الوتد في جبينها، فانفتح جبينها وسال دمها، فسكتَتْ ولم تنطق بحرف واحد، ثم إنها قامت في الحال وأحرقَتْ حراقًا، وحشَتْ به ذلك الجرح، وتعصَّبَتْ بعصابة، ومسحت الدم الذي سال على البساط، وكأنَّ ذلك شيء ما كان، ثم إنها أتتني وتبسَّمت في وجهي، وقالت لي بلين الكلام: والله يا ابن عمي ما قلتُ هذا الكلام استهزاءً بك ولا بها، وقد كنتُ مشغولةً بوجع رأسي ومسح الدم، وفي هذه الساعة قد خفت رأسي وخفت جبهتي، فأخبرني بما كان من أمرك في هذا اليوم. فحكيت لها جميع ما وقع لي منها في ذلك اليوم، وبعد كلامي بكيت فقالت لي: يا ابن عمي، أبشِرْ بنجاح قصدك، وبلوغ أملك، إن هذه علامة القبول، وذلك أنها غابت عنك لأنها تريد أن تختبرك وتعرف هل أنت صابر أو لا، وهل أنت صادق في محبتها أو لا؟ وفي غدٍ توجَّهْ إليها في مكانك الأول، وانظر ماذا تشير به إليك، فقد قربت أفراحك، وزالت أحزانك. وصارت تسلِّيني على ما بي، وأنا لم أزل متزايد الهموم والغموم، ثم قدَّمَتْ لي الطعام فرفصته برجلي، فانكبَّتْ كل زبدية في ناحية، وقلت: كل مَن كان عاشقًا فهو مجنون، لا يميل إلى طعام، ولا يلتذُّ بمنام. فقالت لي ابنة عمي عزيزة: والله يا ابن عمي، إن هذه علامة المحبة. وسالت دموعها، ولمَّتْ شقافة الزبادي، ومسحت الطعام، وجلست تسايرني، وأنا أدعو الله أن يصبح الصباح.
فلما أصبح الصباح وأضاء بنوره ولاح، توجَّهت إليها ودخلت ذلك الزقاق بسرعة، وجلست على تلك المصطبة، وإذا بالطاقة قد انفتحت، وأبرزت رأسها منها وهي تضحك، ثم غابت ورجعت ومعها مرآة وكيس وقصرية ممتلئة بزرع أخضر، وفي يدها قنديل، فأول ما فعلت أخذت المرآة في يدها، وأدخلتها في الكيس، ثم ربطته ورمته في البيت، ثم أرخت شعرها على وجهها، ثم وضعت القنديل على رأس الزرع لحظةً، ثم أخذت جميع ذلك وانصرفت به، وأغلقت الطاقة، فانفطر قلبي من هذا الحال، ومن إشاراتها الخفية، ورموزها المخفية، وهي لم تكلمني بكلمة قطُّ، فاشتدَّ لذلك غرامي، وزاد وَجْدي وهيامي، ثم إني رجعت على عقبي، وأنا باكي العين حزين القلب حتى دخلت البيت، فرأيت ابنة عمي قاعدةً، ووجهها إلى الحائط، وقد احترَقَ قلبها من الهمِّ والغمِّ والغيرة، ولكن محبتها منعتها أن تخبرني بشيء مما عندها من الغرام، لما رأت ما أنا فيه من كثرة الوَجْد والهيام، ثم نظرتُ إليها فرأيت على رأسها عصابتين: إحداهما من الوقعة على جبهتها، والأخرى على عينها بسبب وجعٍ أصابها من شدة بكائها، وهي في أسوأ الحالات تبكي وتنشد هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها نظرَتْ إليَّ فرأتني وهي تبكي، فمسحت دموعها، ونهضت إليَّ ولم تقدر أن تتكلم مما هي فيه من الوَجْد، ولم تزل ساكتةً برهة من الزمان، ثم بعد ذلك قالت: يا ابن عمي، أخبرني بما حصل لك منها في هذه المرة. فأخبرتها بجميع ما حصل لي، فقالت لي: اصبر فقد آنَ أوان وصالك، وظفرت ببلوغ آمالك، أما إشارتها لك بالمرآة وكونها أدخلتها في الكيس، فإنها تقول لك اصبر إلى أن تغطس الشمس؛ وأما إرخاؤها شعرها على وجهها فإنها تقول لك إذا أقبل الليل وانسدل سواد الظلام على نور النهار فتعال؛ وأما إشارتها لك بالقصرية التي فيها زرع، فإنها تقول لك إذا جئتَ فادخل البستان الذي وراء الزقاق؛ وأما إشارتها لك بالقنديل، فإنها تقول لك إذا دخلت البستان فامشِ فيه، وأي موضع وجدتَ فيه القنديل مضيئًا فتوجَّه إليه، واجلس تحته وانتظرني؛ فإن هواك قاتلي. فلما سمعتُ كلام ابنة عمي صحت من فرط الغرام وقلت: كم تعديني وأتوجه إليها، ولا أحصل مقصودي، ولا أجد لتفسيرك معنًى صحيحًا. فعند ذلك ضحكَتْ بنت عمي وقالت لي: بقي عليك من الصبر أن تصبر بقية هذا اليوم إلى أن يولي النهار، ويقبل الليل بالاعتكار؛ فتحظى بالوصال وبلاغ الآمال، وهذا الكلام صدق بغير مَيْن، ثم أنشدت هذين البيتين:
ثم إنها أقبلت عليَّ وصارت تسليني بلين الكلام، ولم تجسر أن تأتيني بشيء من الطعام؛ مخافةً من غضبي عليها، ورجاء ميلي إليها، ولم يكن لها قصد إلا أنها أتَتْ إليَّ وقلَّعتني ثيابي، ثم قالت: يا ابن عمي، اقعد معي حتى أحدِّثك بما يسليك إلى آخِر النهار، وإن شاء الله تعالى ما يأتي الليل إلا وأنت عند محبوبتكَ. فلم ألتفِتْ إليها، وصرتُ أنتظر مجيءَ الليل، وأقول: يا رب عجِّلْ بمجيء الليل، فلما أتى الليل بكَتِ ابنةُ عمي بكاءً شديدًا، وأعطتني حبَّةَ مسك خالص، وقالت لي: يا ابن عمي، اجعل هذه الحبة في فمك، فإذا اجتمعْتَ بمحبوبتك، وقضيت منها حاجتك، وسمحَتْ لك بما تمنَّيْتَ، فأنشدها هذا البيت:
ثم إنها قبَّلتني وحلَّفتني أني لا أنشدها ذلك البيت الشعر إلا بعد خروجي من عندها، فقلتُ لها: سمعًا وطاعة. ثم خرجت وقت العشاء ومشيت، ولم أَزَلْ ماشيًا حتى وصلتُ إلى البستان، فوجدتُ بابه مفتوحًا فدخلتُه، فرأيتُ نورًا على بُعْدٍ فقصَدْتُه، فلما وصلتُ إليه وجدتُ مقعدًا عظيمًا معقودًا عليه قبة من العاج والأبنوس والقنديل معلَّق في وسط تلك القبة، وذلك المقعد مفروش بالبُسُط الحرير المزركشة بالذهب والفضة، وهناك شمعة كبيرة موقودة في شمعدان من الذهب تحت القناديل، وفي وسط المقعد فسقية فيها أنواع التصاوير، وبجانب تلك الفسقية سفرة مغطَّاة بفوطة من الحرير، وإلى جانبها باطية كبيرة من الصيني مملوءة خمرًا، وفيها قدح من بلور مزركش بالذهب، وإلى جانب الجميع طبق كبير من فضة مغطًّى، فكشفْتُه فرأيتُ فيه من سائر الفواكه ما بين تين ورمان، وعنب ونارنج، وبينها أنواع الرياحين من ورد وياسمين، وآس ونسرين ونرجس ومن سائر المشمومات، فهِمْتُ بذلك المكان، وفرحت غايةَ الفرح، وزال عني الهم والترح، لكني ما وجدتُ في هذه الدار أحدًا من خلق الله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.