فلما كانت الليلة ١١٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فهِمْتُ بذلك المكان، وفرحت غايةَ الفرح، لكني ما وجدتُ فيه أحدًا من خلق الله تعالى، ولم أَرَ عبدًا ولا جارية، ولا مَن يعاني هذه الأمور، فجلست في ذلك المقعد أنتظِر مجيءَ محبوبة قلبي، إلى أن مضَتْ أول ساعة من الليل، وثاني ساعة، وثالث ساعة، فلم تأتِ، واشتدَّ بي ألمُ الجوع؛ لأن لي مدة من الزمان ما أكلتُ طعامًا لشدة وَجْدي، فلما رأيت ذلك المكان، وظهر لي صِدْق بنت عمي في فهم إشارة معشوقتي استرحتُ، ووجدتُ ألَمَ الجوع، وقد شوَّقتني روائحُ الطعام الذي على السفرة لما وصلتُ إلى ذلك المكان، واطمأنت نفسي بالوصال، فاشتهت نفسي الأكل، فتقدَّمتُ إلى السفرة وكشفتُ الغطاء، فوجدتُ في وسطها طبقًا من الصيني، وفيه أربع دجاجات محمرة ومتبلة بالبهارات، وحول ذلك الطبق أربع زبادي: واحدة حلوى، والأخرى حب الرمان، والثالثة بقلاوة، والرابعة قطائف، وتلك الزبادي ما بين حلو وحامض، فأكلت من القطائف وقطعة لحم، وعمدت إلى البقلاوة وأكلتُ منها ما تيسَّرَ، ثم قصدت الحلوى وأكلت ملعقة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، وأكلت بعض دجاجة، وأكلت لقمة؛ فعند ذلك امتلأَتْ بطني، وارتخَتْ مفاصلي، وقد كسلت عن السهر، فوضعتُ رأسي على وسادة بعد أن غسلتُ يدي، فغلبني النوم، ولم أعلم بما جرى لي بعد ذلك، فما استيقظت حتى أحرقني حرُّ الشمس؛ لأن لي أيامًا ما ذقتُ منامًا، فلما استيقظتُ وجدتُ على بطني ملحًا وفحمًا، فانتصبتُ قائمًا، ونفضت ثيابي، وقد تلفَّتُّ يمينًا وشمالًا فلم أجد أحدًا، ووجدتني كنتُ نائمًا على الرخام من غير فرش؛ فتحيَّرتُ في عقلي، وحزنت حزنًا عظيمًا، وجرت دموعي على خدي، وتأسَّفت على نفسي، فقمتُ وقصدتُ البيت، فلما وصلتُ إليه وجدتُ ابنة عمي تدقُّ بيدها على صدرها، وتبكي بدمع يباري السُّحُبَ الماطرات، وتنشد هذه الأبيات:
فلما رأتني قامت مُسرِعةً ومسحت دموعها، وأقبلت عليَّ بلين كلامها، وقالت لي: يابن عمي، أنت في عشقك قد لطف الله بك حيث أحَبَّكَ مَن تحبُّ، وأنا في بكائي وحزني على فراقك مَن يلومني؟ ولكن لا أخذك الله من جهتي. ثم إنها تبسَّمَتْ في وجهي تبسُّم الغيظ ولاطفَتْني، وقلَّعتني أثوابي ونشرتها، وقالت: والله ما هذه روائحُ مَنْ حظِيَ بمحبوبه، فأخبرني بما جرى لك يا ابن عمي. فأخبرتها بجميع ما جرى لي؛ فتبسَّمَتْ تبسُّمَ الغيظ ثانيًا، وقالت: إن قلبي ملآن موجع، فلا عاش مَن يوجع قلبك، وهذه المرأة تتعزَّز عليك تعزُّزًا قويًّا، والله يا ابن عمي إني خائفة عليك منها، واعلم يا ابن عمي أن تفسير الملح هو أنك مستغرِق في النوم، فكأنك دلع الطعم بحيث تعافك النفوس، فينبغي لك أن تتملَّحَ حتى لا تمجَّكَ الطباع؛ لأنك تدَّعِي أنك من العشَّاق الكرام، والنوم على العشَّاق حرام، فدعواك المحبةَ كاذبةٌ، وكذلك هي محبتها لك كاذبة؛ لأنها لما رَأَتْكَ نائمًا لم تنبِّهك، ولو كانت محبتها لك صادقة لَنبَّهَتْكَ. وأما الفحم فإن تفسير إشارته: سوَّدَ اللهُ وجهَكَ؛ حيث ادَّعيت المحبةَ كذبًا، وإنما أنت صغير ولم يكن لك همة إلا الأكل والشرب والنوم؛ فهذا تفسير إشارتها، فالله تعالى يخلصك منها. فلما سمعتُ كلامَها ضربت بيدي على صدري، وقلت: والله إن هذا هو الصحيح؛ لأني نمتُ والعشاق لا ينامون، فأنا الظالم لنفسي، وما كان أضر عليَّ من الأكل والنوم، فكيف يكون الأمر؟ ثم إني زدتُ في البكاء، وقلت لابنة عمي: دلِّيني على شيء أفعله، وارحميني يرحمك الله وإلا أموت. وكانت بنت عمي تحبني محبةً عظيمة. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.