فلما كانت الليلة ١١٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال لتاج الملوك: فلما أصبح الصباح أردتُ الانصراف، وإذا بها أمسكتني وقالت: قف حتى أخبرك بشيء وأوصيك وصية. فوقفتُ فحلَّتْ منديلًا، وأخرجت هذه الخرقة ونشرَتْها قدامي، فوجدتُ فيها صورة غزال على هذا المثال، فتعجَّبْتُ منها غاية العجب، فأخذته وتواعدتُ أنا وإياها أن أسعى إليها كلَّ ليلة في ذلك البستان، ثم انصرفتُ من عندها وأنا فرحان، ومن فرحي أنسيت الشعر الذي أوصتني به بنت عمي، وحين أعطتني الخرقة التي فيها صورة الغزال قالت لي: هذا عمل أختي. فقلت لها: وما اسم أختك؟ قالت: اسمها نور الهدى، فاحتفظ بهذه الخرقة. ثم ودَّعتُها وانصرفت وأنا فرحان، ومشيت إلى أن دخلت على ابنة عمي فوجدتها راقدة، فلما رأتني قامت ودموعها تتساقط، ثم أقبلت عليَّ وقبَّلت صدري وقالت: هل فعلت ما أوصيتُكَ به من إنشاد بيت الشعر؟ فقلتُ لها: إني نسيته، وما أشغلني عنه إلا صورة هذا الغزال. ورميتُ الخرقة قدامها، فقامت وقعدت، ولم تُطِق الصبرَ وأفاضَتْ دمعَ العين، وأنشدت هذين البيتين:
فلما فرغَتْ من شعرها قالت: يا ابن عمي، هَبْ لي هذه الخرقة. فوهبتها لها، فأخذتها ونشرتها ورأت ما فيها، فلما جاء وقت ذهابي قالت ابنة عمي: اذهب مصحوبًا بالسلامة، ولكن إذا انصرفْتَ من عندها فأنشدها بيت الشعر الذي أخبرتُك به أولًا ونسيتَه. فقلتُ لها: أَعِيدِيه عليَّ. فأعادته، ثم مضيت إلى البستان، ودخلت المقعد، فوجدت الصبية في انتظاري، فلما رأتني قامت وقبَّلتني، وأجلستني في حجرها، ثم أكلنا وشربنا وقضينا غرضنا كما تقدَّمَ، ولا حاجة إلى الإعادة. فلما أصبح الصباح، أنشدتُها بيتَ الشعر وهو:
فلما سمعَتْه، هملت عيناها بالدموع وأنشدت تقول:
فحفظته وفرحت بقضاء حاجة ابنة عمي، ثم خرجت وأتيت إلى ابنة عمي فوجدتها راقدة، وأمي عند رأسها تبكي على حالها، فلما دخلتُ عليها قالت لي أمي: تبًّا لك من ابن عم، كيف تترك بنت عمك على غير استواء، ولا تسأل عن مرضها؟ فلما رأتني ابنة عمي رفعَتْ رأسها وقعدت، وقالت لي: يا عزيز، هل أنشدْتَها البيتَ الذي أخبرتك به؟ قلت لها: نعم، فلما سمعَتْه بكَتْ، وأنشدتني بيتًا آخَر وحفظته. فقالت بنت عمي: أَسْمِعني إياه. فلما أسمعتها إياه بكت بكاءً شديدًا، وأنشدت هذا البيت:
ثم قالت لي ابنة عمي: إذا ذهبْتَ إليها على عادتك فأنشدها هذا البيت الذي سمعْتَه. فقلت لها: سمعًا وطاعة. ثم ذهبت إليها في البستان على العادة، وكان بيننا ما كان ممَّا يقصر عن وصفه اللسان، فلما أردتُ الانصراف أنشدتُها ذلك البيت، وهو: لقد حاول … إلى آخره. فلما سمعته سالت مدامعها في المحاجر، وأنشدت قول الشاعر:
فحفظته وتوجَّهت إلى البيت، فلما دخلت على ابنة عمي وجدتها ملقاةً مغشيًّا عليها، وأمي جالسة عند رأسها، فلما سمعَتْ كلامي فتحَتْ عينَيْها وقالت: يا عزيز، هل أنشدتَها بيتَ الشعر؟ قلتُ لها: نعم، ولما سمعته بكت وأنشدتني هذا البيت: فإن لم يجد … إلى آخره. فلما سمعَتْه بنت عمي غُشِي عليها ثانيًا، فلما أفاقَتْ أنشدت هذا البيت وهو:
ثم لما أقبل الليل مضيتُ إلى البستان على جري عادتي، فوجدتُ الصبية في انتظاري، فجلسنا وأكلنا وشربنا، وعملنا حظنا، ثم نمنا إلى الصباح، فلما أردتُ الانصراف أنشدتها ما قالته ابنة عمي، فلما سمعت ذلك صرخت صرخة عظيمة وتضجرت، وقالت: والله إن قائلة هذا الشعر قد ماتَتْ. ثم بكَتْ وقالت: ويلك، ما تقرب لك قائلةُ هذا الشعر؟ قلتُ لها: إنها ابنة عمي. قالت: كذبت والله، لو كانت ابنة عمك لَكان عندك لها من المحبة مثل ما عندها لك، فأنت الذي قتلْتَها قتلَكَ اللهُ كما قتلتها، والله لو أخبرتَني أن لك ابنةَ عمٍّ ما قرَّبتُكَ مني. فقلت لها: إنها ابنة عمي، وكانت تفسِّر لي الإشارات التي كنتِ تشيرين بها إليَّ، وهي التي علَّمتني ما أفعل معك، وما وصلت إليك إلا بحُسْن تدبيرها. فقالت: وهل عرفت بنا؟ قلت: نعم. قالت: حسَّرَكَ الله على شبابك كما حسَّرتها على شبابها. ثم قالت لي: رح انظرها. فذهبت وخاطري متشوش، وما زلتُ ماشيًا حتى وصلت إلى زقاقنا، فسمعت عياطًا، فسألت عنه فقيل لي: إن عزيزة وجدناها خلف الباب ميتة. ثم دخلت الدار، فلما رأتني أمي قالت: إن خطيئتها في عنقك، فلا سامحك الله من دمها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.