فلما كانت الليلة ١٢٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب الذي اسمه عزيز قال لتاج الملوك: فلما دخلت الزقاق الذي يقال له زقاق النقيب، مشيت فيه، فبينما أنا ماشٍ في ذلك الزقاق، وإذا بعجوز ماشية وفي إحدى يديها شمعة مضيئة، وفي يدها الأخرى كتاب ملفوف، فتقدَّمت إليها وهي باكية العين، وتنشد هذين البيتين:
فلما رأتني قالت لي: يا ولدي، هل تعرف أن تقرأ؟ فقلت لها: نعم يا خالتي العجوز. فقالت لي: خذ هذا الكتاب واقرأه لي. وناولتني الكتاب، فأخذته منها وفتحته، وقرأت عليها مضمونه: إنه كتاب من عند الغياب بالسلام على الأحباب. فلما سمعته فرحت واستبشرت، ودعت لي وقالت لي: فرَّجَ الله همَّكَ كما فرَّجتَ همي. ثم أخذَتِ الكتاب ومشت خطوتين، وغلبني حصر البول، فقعدت في مكان لأُرِيقَ الماء، ثم إني قمت وتجمَّرت، وأرخيت أثوابي وأردت أن أمشي، وإذا بالعجوز قد أقبلَتْ عليَّ، وقبَّلت يدَيَّ، وقالت: يا مولاي، الله تعالى يهنيك بشبابك ولا يفضحك، أترجاك أن تمشي معي خطوات إلى ذلك الباب، فإني أخبرتهم بما أسمعتني إياه من قراءة الكتاب، فلم يصدِّقوني، فامشِ معي خطوتين واقرأ لهم الكتاب من خلف الباب، واقبل دعائي لك. فقلت لها: وما قصة هذا الكتاب؟ فقالت لي: يا ولدي، هذا الكتاب جاء من عند ولدي، وهو غائب عني مدة عشر سنين، فإنه سافر بمتجر، ومكث في الغربة تلك المدة، فقطعنا الرجاء وظننا أنه مات، ثم وصل إلينا منه هذا الكتاب، وله أخت تبكي عليه في مدة غيابه آناء الليل وأطراف النهار، فقلت لها إنه طيب بخير، فلم تصدقني وقالت لي: لا بد أن تأتيني بمَن يقرأ هذا الكتاب، فيخبرني حتى يطمئن قلبي، ويطيب خاطري. وأنت تعلم يا ولدي أن المحب مولع بسوء الظن، فأنْعِمْ عليَّ بقراءة هذا الكتاب وأنت واقف خلف الستارة، وأخته تسمع من داخل الباب، لأجل أن يحصل لك ثواب مَن قضى لمسلم حاجة ونفَّسَ عنه كربة، فقد قال رسول الله ﷺ: «مَن نفَّسَ عن مكروب كربة من كرب الدنيا، نفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.» وفي حديث آخَر: «مَن نفَّسَ عن أخيه كربة من كرب الدنيا، نفَّسَ الله عنه اثنتين وسبعين كربة من كرب يوم القيامة.» وأنا قصدتك فلا تخيبني. فقلت لها: سمعًا وطاعة، تقدمي قدامي. فمشت قدامي ومشيت خلفها قليلًا، حتى وصلت إلى باب دار عظيمة، وذلك الباب مصفَّح بالنحاس الأحمر، فوقفت خلف الباب، وصاحت العجوز بالعجمية، فما أشعر إلا وصبية قد أقبلت بخفة ونشاط، وهي مشمرة اللباس إلى ركبتَيْها، فرأيتُ لها ساقين تحيِّران الفكرَ والناظر، وهي كما قال في وصفها الشاعر:
وزَانَ ساقَيْها اللتين كأنهما عمودان من مرمر خلاخلُ الذهب المرصعة بالجوهر، وكانت تلك الصبية مشمرة ثيابها إلى تحت إبطَيْها، ومشمرة عن ذراعَيْها، فنظرت معاصمها البيض وفي يديها زوجان من الأساور، وفي أذنَيْها قرطان من اللؤلؤ، وفي عنقها عقد من ثمين الجواهر، وعلى رأسها كوفية دقَّ المطرقة مكلَّلة بالفصوص المثمَّنة، وقد رشقت أطراف قميصها من داخل دكة اللباس، وهي كأنها كانت تعمل شغلًا، فلما رأتني قالت بلسان فصيح عذب: ما سمعتُ أحلى منه يا أمي، أهذا الذي جاء يقرأ الكتاب؟ فقالت لها: نعم. فمدَّتْ يدها إليَّ بالكتاب، وكان بينها وبين الباب نحو نصف قصبة، فمددتُ يدي لأتناول منها الكتاب، وأدخلتُ رأسي وأكتافي من الباب لأقرب منها، فما أدري إلا والعجوز قد وضعت رأسها في ظهري ودفعتني ويدي ماسكة بالكتاب، فالتفَتُّ فرأيت نفسي في وسط الدار من داخل الدهليز، ودخلت العجوز أسرع من البرق الخاطف، ولم يكن لها شغل إلا قفل الباب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.