فلما كانت الليلة ١٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية: يا سيدتي، ثم إن بنت الملك أخذت بيدها سكينًا مكتوبًا عليها أسماء عبرانية، وخطَّتْ بها دائرة في وسط القصر، وكتبَتْ فيها أسماء وطلاسم، وعزمَتْ بكلام، وقرأَتْ كلامًا لا يُفهَم، فبعد ساعة أظلمت علينا جهات القصر حتى ظننا أن الدنيا قد انطبقت علينا، وإذا بالعفريت قد تدلَّى علينا في أقبح صفة بأيدٍ كالمداري، ورجلين كالصواري، وعينَيْن كالمشعلين يوقدان نارًا، ففزعنا منه فقالت بنت الملك: لا أهلًا بك ولا سهلًا. فقال العفريت وهو في صورة أسد: يا خائنة، كيف خنتِ اليمين؟ أَمَا تحالفنا على أنه لا يتعرَّض أحدٌ للآخر؟ فقالت له: يا لعين، ومن أين لك يمين؟ فقال العفريت: خذي ما جاءك. ثم انقلب أسدًا، وفتح فاه، وهجم على الصبية، فأسرعَتْ وأخذت شعرة من شعرها بيدها، وهمهمت بشفتيها فصارت الشعرة سيفًا ماضيًا، وضربت ذلك الأسد فصار نصفين، فصارت رأسه عقربًا، وانقلبت الصبية حية عظيمة، وهمَّتْ على هذا اللعين وهو في صفة عقرب فتقاتَلَا قتالًا شديدًا، ثم انقلب العقرب عقابًا، فانقلبت الحية نسرًا وصارت وراء العقاب، واستمرت ساعةً زمانية، ثم انقلب العقاب قطًّا أسود، فانقلبت الصبية ذئبًا، فتشاحنا في القصر ساعةً زمانيةً، وتقاتَلَا قتالًا شديدًا، فرأى القط نفسه مغلوبًا، فانقلب وصار رمانة حمراء كبيرة، ووقعت تلك الرمانة في بركة، فقصدها الذئب، فارتفعت في الهواء ووقعت على بلاط القصر فانكسرت، وانتثر الحبُّ كلُّ حبة وحدها، وامتلأت أرض القصر حبًّا، فانقلب ذلك الذئب ديكًا لأجل أن يلتقط ذلك الحب حتى لا يترك منه حبة، فبالأمر المقدر تدارت حبة في جانب الفسقية، فصار الديك يصيح ويرفرف بأجنحته، ويشير إلينا بمنقاره ونحن لا نفهم ما يقول، ثم صرخ علينا صرخةً تخيل لنا منها أن القصر قد انقلب علينا، ودار في أرض القصر كلها حتى رأى الحبة التي تدارت في جانب الفسقية فانقضَّ عليها ليلتقطها، وإذا بالحبة سقطت في وسط الماء الذي في البركة فصارت سمكة، وقد غاصت في الماء، فانقلب الديك حوتًا كبيرًا، ونزل خلفها، وغاب ساعة وإذا بنا قد سمعنا صراخًا عاليًا فارتجفنا، فبعد ذلك طلع العفريت وهو شعلة نار فألقى من فمه نارًا، ومن عينيه ومنخريه نارًا ودخانًا، وانقلبت الصبية لُجَّة نار، فأردنا أن نغطس في ذلك الماء خوفًا على أنفسنا من الحريق والهلاك، فما نشعر إلا والعفريت قد صرخ من تحت النيران، وصار عندنا في الليوان، ونفخ في وجوهنا بالنار، فلحقته الصبية ونفخت في وجهه بالنار أيضًا، فأصابنا الشررُ منها ومنه؛ فأما شررها فلم يؤذينا، وأما شرره فلحقني منه شرارة في عيني، فأتلفتها في صورة القرد، ولحق الملك شرارة منه في وجهه، فأحرقت نصفه التحتاني بذقنه وحنكه، ووقعت أسنانه التحتانية، ووقعت شرارة في صدر الطواشي فاحترق ومات من وقته وساعته، فأيقنَّا بالهلاك، وقطعنا رجاءنا من الحياة.
فبينما نحن كذلك وإذا بقائل يقول: الله أكبر، الله أكبر، قد فتح ربي ونصر، وخذل مَن كفر، بدين محمد سيد البشر. وإذا بالقائل بنت الملك قد أحرقت العفريت؛ فنظرنا إليه فرأيناه قد صار كوم رماد، ثم جاءت الصبية إلينا، وقالت: الحقوني بطاسة ماء. فجاءوا بها إليها فتكلَّمَتْ عليها بكلامٍ لا نفهمه، ثم رشَّتني بالماء وقالت: اخلص بحق الحق، وبحق اسم الله الأعظم إلى صورتك الأولى. فصرتُ بشرًا كما كنتُ أولًا، ولكنْ تلفَتْ عيني، فقالت الصبية: النار النار يا والدي، أنا ما بقيت أعيش لأني موعودة بالقتل، ولو كان من الإنس لقتلته من أول الأمر، وما تعبت إلا وقت فرط الرمانة حين لقطت حبها ونسيت الحبة التي فيها روح الجني، فلو لقطتُها لَمَات من ساعته، ولكن ما رأيتها بالقضاء والقدر، ولم أشعر إلا وهو قد أتى وجرى لي منه حرب شديدة تحت الأرض وفي الهواء والماء، وكلما فتح عليَّ بابًا فتحتُ عليه بابًا أعظم منه، إلى أن فتح عليَّ بابَ النار، وقلَّ من فُتِح عليه بابُ النار ونجا منه، إنما ساعدني عليه القدرُ حتى أحرقتُه قبلي، وكنتُ أعهد منه التديُّن بدين الإسلام، وها أنا ميتة والله خليفتي عليكم.
ثم إنها لم تزل تستغيث من النار، وإذا بشرر أسود قد طلع إلى صدرها وطلع إلى وجهها، فلما وصل إلى وجهها بكت وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. ثم نظرنا إليها ورأيناها كوم رماد بجانب كوم العفريت، فحَزِنَّا عليها، وتمنيتُ لو كنتُ مكانها، ولا أرى ذلك الوجه المليح الذي عمل فيَّ هذا المعروف يصير رمادًا، لكن حكم الله لا يُرَدُّ، فلما رأى الملك ابنته صارت كوم رماد نتف بقية لحيته، ولطم على وجهه، وشقَّ ثيابه، وفعلتُ كما فعل، وبكينا عليها، ثم جاء الحُجَّاب وأرباب الدولة، فوجدوا السلطان في حالة العدم، وعنده كومان رمادًا، فتعجَّبوا وداروا حول الملك ساعةً، فلما أفاق أخبرهم بما جرى لابنته مع العفريت، فعظمت مصيبتهم، وصرخ النساء والجواري، وعملوا العزاء سبعة أيام.
ثم إن الملك أمَرَ أن يُبنَى على رماد ابنته قبة عظيمة، وأوقدوا فيها الشموع والقناديل، وأما رماد العفريت فإنهم ذروه في الهواء إلى لعنة الله. ثم مرض السلطان مرضًا أشرف منه على الموت، واستمر مرضه شهرًا، وعادت إليه العافية، فطلبني وقال لي: يا فتى، قد قضينا زماننا في أهنأ عيش آمنين من نوائب الزمان حتى جئتنا، فأقبلَتْ علينا الأكدارُ، فليتنا ما رأيناك ولا رأينا طلعتك القبيحة التي بسببها صرنا في حالة العدم؛ فأولًا عدمت ابنتي التي كانت تساوي مائة رجل، وثانيًا جرى لي من الحريق ما جرى، وعُدِمتُ أضراسي، ومات خادمي، ولكن ما بيدك حيلة، بل جرى قضاء الله علينا وعليك، والحمد لله حيث خلَّصَتْك ابنتي، وأهلكت نفسها، فاخرج يا ولدي من بلدي، وكفى ما جرى بسببك، وكلُّ ذلك مقدَّر علينا وعليك، فاخرج بسلام.
فخرجت يا سيدتي من عنده، وما صدقت بالنجاة، ولا أدري أين أتوجَّه، وخطر على قلبي ما جرى لي، وكيف خلُّوني في الطريق سالمًا منهم، ومشيتُ شهرًا، وتذكَّرْتُ دخولي في المدينة غريبًا، واجتماعي بالخياط، واجتماعي بالصبية تحت الأرض، وخلاصي من العفريت بعد أن كان عازمًا على قتلي، وتذكَّرْتُ ما حصل لي من المبتدأ إلى المنتهى، فحمدتُ الله، وقلتُ بعيني ولا بروحي؛ ودخلت الحمام قبل أن أخرج من المدينة، وحلقتُ ذقني، وجئتُ يا سيدتي، وفي كل يوم أبكي، وأتفكَّر المصائبَ التي عاقِبَتُها تلَفُ عيني، وكلما أتذكَّر ما جرى لي أبكي وأنشد هذه الأبيات:
ثم سافرتُ الأقطارَ، ووردت الأمصار، وقصدت دار السلام بغداد لعلي أتوصَّل إلى أمير المؤمنين، وأخبره بما جرى لي، فوصلتُ إلى بغداد هذه الليلة، فوجدتُ أخي هذا الأول واقفًا متحيِّرًا، فقلتُ: السلام عليك. وتحدَّثت معه، وإذا بأخينا الثالث قد أقبل علينا، وقال: السلام عليكم، أنا رجل غريب. فقلنا له: ونحن غريبان، وقد وصلنا هذه الليلة المباركة، فمشينا نحن الثلاثة وما فينا أحد يعرف حكايةَ أحدٍ، فساقتنا المقادير إلى هذا الباب، ودخلنا عليكم، وهذا سبب حلق ذقني، وتلَفِ عيني. فقالت له: إنَّ حكايتك غريبة، فمَلِّسْ على رأسك، واخرج إلى حال سبيلك. فقال: لا أخرج حتى أسمع حديث رفيقي.
حكاية الصعلوك الثالث
تقدَّمَ الصعلوك الثالث، وقال: أيتها السيدة الجليلة، ما قصتي مثل قصتهما، بل قصتي أعجب؛ وذلك أن هذين جاءهما القضاء والقدر، وأما أنا فسبب حلق ذقني وتلف عيني أنني جلبت القضاء لنفسي، والهم لقلبي؛ وذلك أني كنت ملكًا ابن ملك، ومات والدي، وأخذت الملك من بعده، وحكمت وعدلت، وأحسنت للرعية، وكان لي محبة في السفر في البحر، وكانت مدينتي على البحر، والبحر متسع وحولنا جزائر مُعَدَّة للقتال، فأردت أن أتفرج على الجزائر، فنزلت في عشرة مراكب، وأخذت معي مئونة شهر كامل، وسافرت عشرين يومًا؛ ففي ليلة من الليالي هبَّتْ علينا رياح مختلفة إلى أن لاح الفجر، فهدأ الريح وسكن البحر، حتى أشرقت الشمس.
ثم إننا أشرفنا على جزيرة، وطلعنا على البر، وطبخنا شيئًا نأكله، فأكلنا ثم أقمنا يومين، وسافرنا عشرين يومًا، فاختلفَتْ علينا المياه وعلى الريس، واستغرب الريس البحر، فقلنا للناظور: انظر البحر بتأمُّل. فطلع الصاري، ثم نزل ذلك الناظور وقال للريس: يا ريس، رأيت عن يميني سمكًا على وجه الماء، ونظرت إلى وسط البحر فرأيت سوادًا من بعيدٍ يلوح تارةً أسود، وتارةً أبيض. فلما سمع الريس كلام الناظور ضرب الأرض بعمامته، ونتف لحيته، وقال للناس: أبشروا بهلاكنا جميعًا، ولم يسلم منَّا أحد. وشرع يبكي، وكذلك نحن الجميع نبكي على أنفسنا، فقلت: أيها الريس، أخبرنا بما رأى الناظور. فقال: يا سيدي، اعلم أننا تهنا يومَ جاءت علينا الرياح المختلفة، ولم يهدأ الريح إلا بكرة النهار، ثم أقمنا يومين فتهنا في البحر، ولم نَزَلْ تائهين أحد عشر يومًا من تلك الليلة، وليس لنا ريح يُرجِعنا إلى ما نحن قاصدون آخِر النهار، وفي غدٍ نصل إلى جبل من حجر أسود يُسمَّى حجر المغناطيس، وتجرُّنا المياه غصبًا إلى جهته، فتتمزَّق المركب، ويروح كل مسمار في المركب إلى الجبل ويلتصق به؛ لأن الله وضع في حجر المغناطيس سرًّا، وهو أن جميع الحديد يذهب إليه، وفي ذلك الجبل حديد كثير لا يعلمه إلا الله تعالى، حتى إنه تكسَّرَ من قديم الزمان مراكب كثيرة بسبب ذلك الجبل، ويلي ذلك البحر قبة من النحاس الأصفر معمودة على عشرة أعمدة، وفوق القبة فارس على فرس من نحاس، وفي يد ذلك الفارس رمح من نحاس، ومعلَّق في صدر الفارس لوح من رصاص، منقوش عليه أسماء وطلاسم فيها أيها الملك، ما دام هذا الفارس راكبًا على هذا الفرس تنكسر المراكب التي تفوت من تحته، ويهلك ركابها جميعًا، ويلتصق جميع الحديد الذي في المركب بالجبل، وما الخلاص إلا إذا وقع هذا الفارس من فوق تلك الفرس.
ثم إن الريس يا سيدتي بكى بكاء شديدًا، فتحقَّقنا أننا هالكون لا محالة، وكلٌّ منَّا ودَّعَ صاحبه، فلما جاء الصباح قربنا من ذلك الجبل، وساقتنا المياه إليه غصبًا، فلما صارت المراكب تحته انفتحت وفرَّتِ المساميرُ منها وكلُّ حديد فيها نحو حجر المغناطيس، ونحن دائرون حوله في آخر النهار، وتمزَّقت المراكب، فمنَّا مَن غرق، ومنَّا مَن سلم، ولكن أكثرنا غرق، والذين سلموا لم يعلموا ببعضهم؛ لأن تلك الأمواج واختلاف الرياح أدهشتهم، وأما أنا يا سيدتي فنجَّاني الله تعالى لما أراده من مشقتي وعذابي وبلوتي، فطلعت على لوح من الألواح، فألقاه الريح والأمواج إلى جبل، فأصبْتُ طريقًا متطرقًا إلى أعلاه على هيئة السلالم منقورة في الجبل، فسميت الله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.