فلما كانت الليلة ٢
قالت دنيازاد لأختها شهرزاد: يا أختي، أتممي لنا حديثك الذي هو حديث التاجر والجني. قالت: حبًّا وكرامة، إنْ أذِنَ لي الملك في ذلك. فقال لها الملك: احكي. فقالت: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد أنه لما رأى بكاء العجل حنَّ قلبه إليه، وقال للراعي: أبقِ هذا العجل بين البهائم. كلُّ ذلك والجني يتعجَّب من حكاية ذلك الكلام العجيب، ثم قال صاحب الغزالة: يا سيديي ملوك الجان، كل ذلك جرى وابنة عمي هذه الغزالة تنظر وترى وتقول: اذبح هذا العجل فإنه سمين، فلم يَهُنْ عليَّ أن أذبحه، وأمرتُ الراعي أن يأخذه، فأخذه وتوجَّه به، ففي ثاني يوم وأنا جالس وإذا بالراعي مقبل عليَّ، وقال: يا سيدي، إني أقول شيئًا تُسَرُّ به ولي البشارة. فقلت: نعم. فقال: أيها التاجر، إن لي بنتًا كانت تعلَّمَتِ السحر في صغرها من امرأةٍ عجوز كانت عندنا، فلما كنَّا بالأمس وأعطيتني العجلَ دخلْتُ به عليها، فنظرت إليه بنتي وغطَّتْ وجهها وبكت، ثم إنها ضحكت وقالت: يا أبي، قد خَسَّ قدري عندك حتى تُدخِل عليَّ الرجالَ الأجانب؟ فقلت لها: وأين الرجال الأجانب؟ ولماذا بكيتِ وضحكتِ؟ فقالت لي: إن هذا العجل الذي معك ابنُ سيدي التاجر، ولكنه مسحور وسحرته زوجة أبيه هو وأمه، فهذا سبب ضحكي، وأما سبب بكائي فمن أجل أمه حيث ذبحها أبوه. فتعجَّبْتُ من ذلك غاية العجب، وما صدقت بطلوع الصباح حتى جئتُ إليك لأُعلِمك. فلما سمعتُ أيها الجني كلامَ هذا الراعي خرجتُ معه وأنا سكران من غير مُدام من كثرة الفرح والسرور الذي حصل لي، إلى أن أتيت إلى داره، فرحَّبت بي ابنة الراعي وقبَّلَتْ يدي، ثم إن العجل جاء إليَّ وتمرَّغَ عليَّ، فقلت لابنة الراعي: أحقٌّ ما تقولينه عن ذلك العجل؟ فقالت: نعم يا سيدي، إنه ابنك وحشاشة كبدك. فقلتُ لها: أيتها الصبية، إنْ أنت خلَّصتِه، فلك عندي ما تحت يد أبيك من المواشي والأموال. فتبسَّمَتْ وقالت: يا سيدي، ليس لي رغبة في المال إلا بشرطين: الأول أن تزوِّجني به، والثاني أن أسحر مَن سحرَتْه وأحبسها؛ وإلا فلستُ آمن مكرها.
فلما سمعتُ أيها الجني كلامَ بنت الراعي قلتُ: ولك فوق ذلك جميع ما تحت يد أبيك من الأموال زيادة، وأما بنت عمي فدمُها لك مباح، فلما سمعتْ كلامي أخذت طاسة وملأتها ماء، ثم إنها عزمت عليها ورشَّت بها العجل، وقالت له: إن كان الله خلقك عجلًا فدُمْ على هذه الصفة ولا تتغير، وإن كنتَ مسحورًا فعُدْ إلى خلقَتِك الأولى بإذن الله تعالى. وإذا به انتفض، ثم صار إنسانًا، فوقعتُ عليه وقلتُ له: بالله عليك احْكِ لي جميع ما صنعَتْ بك وبأمك بنتُ عمي. فحكى لي جميع ما جرى لهما، فقلت: يا ولدي، قد قيَّضَ الله لك مَن خلَّصك وخلص حقك. ثم إني أيها الجني زوَّجتُه ابنة الراعي، ثم إنها سحرت ابنة عمي هذه الغزالة، وجئتُ إلى هنا فرأيتُ هؤلاء الجماعة فسألتهم عن حالهم، فأخبروني بما جرى لهذا التاجر، فجلستُ لأنظر ما يكون، وهذا حديثي.
فقال الجني: هذا حديث عجيب، وقد وهبتُ لك ثلث دمه، فعند ذلك تقدَّمَ الشيخ الثاني صاحب الكلبتين السلاقيتين، وقال له: اعلم يا سيد ملوك الجان أن هاتين الكلبتين أخواي، وأنا ثالثهما، ومات والدي وخلَّف لنا ثلاثة آلاف دينار، ففتحت أنا دكانًا أبيع فيه وأشتري، وسافر أخي بتجارته، وغاب عنَّا مدةَ سنة مع القوافل، ثمَّ أتى وما معه شيء، فقلت له: يا أخي، أَمَا أشرتُ عليك بعدم السفر؟! فبكى وقال: يا أخي، قدَّر الله — عز وجل — عليَّ بهذا ولم يَبْقَ لهذا الكلام فائدة، ولست أملك شيئًا. فأخذته وطلعت به إلى الدكان، ثم ذهبت به إلى الحمام وألبستُه حُلَّةً من الملابس الفاخرة، وأكلتُ أنا وإياه، وقلت له: يا أخي، إني أحسب ربح دكاني من السنة إلى السنة، ثم أقسمه دون رأس المال بيني وبينك. ثم إني عملتُ حسابَ الدكان من ربح مالي فوجدته ألفَيْ دينار؛ فحمدت الله — عز وجل — وفرحت غاية الفرح، وقسمت الربح بيني وبينه شطرين، وأقمنا مع بعضنا أيامًا، ثم إن أخويَّ طلبَا السفر أيضًا، وأرادَا أن أسافر معهما فلم أَرْضَ، وقلتُ لهما: أي شيء كسبتما في سفركما حتى أكسب أنا؟! فألحَّا عليَّ ولم أُطِعْهما، بل أقمنا في دكاكيننا نبيع ونشتري سنةً كاملة، وهما يعرضان عليَّ السفر حتى مضَتْ ستُّ سنوات كوامل، ثم وافقتهما على السفر وقلت لهما: يا أخويَّ، إننا نحسب ما عندنا من المال. فحسبناه فإذا هو ستة آلاف دينار، فقلت: ندفن نصفها تحت الأرض لينفعنا إذا أصابنا أمرٌ، ويأخذ كلُّ واحد منَّا ألفَ دينار ونتسبب فيها. قالَا: نِعْم الرأي. فأخذت المال وقسَّمتُه نصفين، ودفنت ثلاثة آلاف دينار، وأما الثلاثة آلاف دينار الأخرى، فأعطيت كلَّ واحد منَّا ألف دينار، وجهزنا بضائع، واكترينا مركبًا، ونقلنا فيها حوائجنا، وسافرنا مدة شهر كامل إلى أن دخلنا مدينة، وبِعْنَا بضائعنا، فربحنا في الدينار عشرة دنانير، ثم أردنا السفر فوجدنا على شاطئ البحر جارية عليها خلق مقطع، فقبَّلت يديَّ وقالت: يا سيدي، هل عندك إحسان ومعروف أجازيك عليهما؟ قلت: نعم، إن عندي الإحسان والمعروف ولو لم تجازِني. فقالت: يا سيدي، تزوَّجني وخذني إلى بلادك، فإني قد وهبتك نفسي، فافعل معي معروفًا؛ لأني ممَّن يُصنَع معه المعروف والإحسان ويجازي عليهما، ولا يغرَّنَّك حالي.
فلما سمعت كلامها حن قلبي إليها لأمر يريده الله — عز وجل — فأخذتها وكسوتها، وفرشت لها في المركب فرشًا حسنًا، وأقبلت عليها وأكرمتها، ثم سافرنا، وقد أحبها قلبي محبة عظيمة، وصرت لا أفارقها ليلًا ولا نهارًا، واشتغلت بها عن أخويَّ، فغارَا مني وحسداني على مالي، وكثرة بضاعتي، وطمحت عيونهما في المال جميعه، وتحدَّثَا بقتلي وأخذ مالي، وقالَا: نقتل أخانا ويصير المال جميعه لنا. وزيَّنَ لهم الشيطان أعمالهما، فجاءاني وأنا نائم بجانب زوجتي، وحملاني أنا وزوجتي ورميانا في البحر، فلما استيقظَتْ زوجتي انتفضَتْ فصارت عفريتة، وحملتني وأطلعتني على جزيرة، وغابت عني قليلًا، وعادت إليَّ عند الصباح، وقالت لي: أنا زوجتك التي حملتك ونجَّيْتُك من القتل بإذن الله تعالى، واعلم أني جنية، رأيتك فحَبَّك قلبي لله، وأنا مؤمنة بالله ورسوله ﷺ، فجئتك بالحال الذي رأيتني فيه فتزوَّجْتَ بي، وها أنا قد نجَّيْتُك من الغرق، وقد غضبتُ على أخوَيْك، ولا بد أن أقتلهما. فلما سمعت حكايتها تعجَّبْتُ، وشكرتها على فعلها، وقلت لها: أما هلاك أخويَّ فلا ينبغي. ثم حكيت لها ما جرى لي معهما من أول الزمان إلى آخره، فلما سمعت كلامي قالت: أنا في هذه الليلة أطير إليهما وأُغرِق مراكبهما وأُهلِكهما. فقلت لها: باللهِ عليك لا تفعلي؛ فإن صاحب المثل يقول: يا محسنًا لمَن أساء، كفى المسيء فعله. وهم أخواي على كل حال. قالت: لا بد من قتلهما. فاستعطفتها، ثم إنها حملتني وطارت فوضعتني على سطح داري، ففتحت الأبواب، وأخرجت الذي خبَّأته تحت الأرض، وفتحت دكاني بعدما سلَّمْتُ على الناس، واشتريت بضائع، فلما كان الليل دخلتُ داري فوجدت هذين الكلبين مربوطين فيها، فلما رأياني قامَا إليَّ وبكيَا، وتعلَّقَا بي، فلم أشعر إلا وزوجتي قالت: هذان أخواكَ. فقلت: مَن فعل بهما هذا الفعل؟ قالت: أنا أرسلتُ إلى أختي ففعلت بهما ذلك، ولا يتخلصان إلا بعد عشر سنوات. فجئتُ وأنا سائر إليها تخلصهما بعد إقامتهما عشر سنوات في هذه الحال، فرأيت هذا الفتى فأخبرني بما جرى له، فأردتُ ألَّا أبرح حتى أنظر ما يجري بينك وبينه، وهذه قصتي. قال الجني: إنها حكاية عجيبة، وقد وهبتُ لك ثلث دمه في جنايته.