فلما كانت الليلة ٢٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن امرأة الخياط لما لقمتِ الأحدبَ جزلة السمك فمات لانقضاء أجله في وقته، فقال الخياط: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذا المسكين ما كان موته إلا هكذا على أيدينا! فقالت المرأة: وما هذا التواني، أَمَا سمعتَ قول الشاعر:
فقال لها زوجها: وما أفعله؟ قالت: قُمْ واحمله في حضنك، وانشر عليه فوطة حرير، وأخرج أنا قدامك وأنت ورائي في هذه الليلة، وقُلْ: هذا ولدي وهذه أمه، ومرادنا أن نؤديه إلى الطبيب ليداويه. فلما سمع الخياط هذا الكلامَ، قام وحمل الأحدب في حضنه، وزوجته تقول: يا ولدي، سلامتك، أين محل وجعك؟ وهذا الجدري كان لك في أي مكان؟ فكلُّ مَن رآهما يقول: معهما طفل مصاب بالجدري. ولم يزالَا سائرين وهما يسألان عن منزل الطبيب حتى دلُّوهما على بيت طبيب يهودي، فقرعَا الباب فنزلَتْ لهما جاريةٌ سوداء، وفتحتِ البابَ ونظرَتْ، وإذا بإنسان حاملٍ صغيرًا وأمه معه، فقالت الجارية: ما خبركم؟ فقالت امرأة الخياط: معنا صغير مرادنا أن ينظره الطبيب، فخذي هذا الربع دينار، وأعطيه لسيدك ودعيه ينزل ليرى ولدي، فقد لحقه ضعف. فطلعت الجارية، ودخلت زوجة الخياط داخل العتبة وقالت لزوجها: دَعِ الأحدب هنا ونفوز بأنفسنا. فأوقفه الخياط، وأسنده إلى الحائط، وخرج هو وزوجته، وأما الجارية فإنها دخلت على اليهودي وقالت له: في أسفل البيت ضعيف مع امرأة ورجل، وقد أعطياني ربع دينار لك، وتصف لهما ما يوافقه.
فلما رأى اليهودي الربعَ دينار فرح، وقام عاجلًا، ونزل في الظلام، فأول ما نزل عثرت رجله في الأحدب وهو ميت، فقال: يا للعزيز، يا للمولى، والعشر كلمات! يا لهارون ويوشع بن نون! كأني عثرتُ في هذا المريض، فوقع إلى أسفل فمات، فكيف أخرج بقتيلي من بيتي؟ فحمله وطلع به من حوش البيت إلى زوجته، وأعلمها بذلك، فقالت له: وما قعودك ها هنا؟! فإنْ قعدتَ هنا إلى طلوع النهار راحت أرواحنا، فأنا وأنت نطلع به السطح ونرميه في بيت جارنا المسلم؛ فإنه رجل مباشر على مطبخ السلطان، وكثيرًا ما تأتي القطط في بيته وتأكل ممَّا فيه من الأطعمة والفئران، وإنِ استمر فيه ليلة تنزل عليه الكلاب من السطوح وتأكله جميعه. فطلع اليهودي وزوجته وهما حاملان الأحدب، وأنزلاه بيدَيْه ورجلَيْه إلى الأرض، وجعلاه ملاصقًا للحائط، ثم نزلَا وانصرفَا، ولم يستقر نزول الأحدب إلا والمباشِر قد جاء إلى البيت وفتحه وطلع البيت ومعه شمعة مضيئة، فوجد ابن آدم واقفًا في الزاوية في جانب المطبخ، فقال ذلك المباشر: ما هذا؟ والله إن الذي يسرق حوائجنا، ما هو إلا ابن آدم فيأخذ ما وجده من لحم أو دهن، ولو خبأته من القطط والكلاب؛ وإنْ قتلتُ قطط الحارة وكلابها جميعًا لا يفيد؛ لأنه ينزل من السطوح. ثم أخذ مطرقة عظيمة ووكزه بها فصار عنده، ثم ضربه بها على صدره فوقع، فوجده ميتًا، فحزن وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وخاف على نفسه وقال: لعن الله الدهن واللحم وهذه الليلة، كيف فرغَتْ منية ذلك الرجل على يدي؟ ثم نظر إليه فإذا هو أحدب، فقال: أَمَا يكفي أنك أحدب حتى تكون حراميًّا، وتسرق اللحم والدهن؟! يا ستَّار، استرني بسترك الجميل.
ثم حمله على أكتافه، ونزل به من بيته في آخر الليل، وما زال سائرًا به إلى أول السوق، فأوقفه بجانب دكان في رأس عطفة وتركه وانصرف، وإذا بنصراني وهو سمسار السلطان، وكان سكرانَ، فخرج يريد الحمام فقال له سكره: إن المسبح قريب. فما زال يمشي ويتمايل حتى قرب من الأحدب، وجعل يريق الماء قباله، فلاحت منه التفاته فوجد واحدًا واقفًا، وكان النصراني قد خطفوا عمامته في أول الليل، فلما رأى الأحدب واقفًا اعتقد أنه يريد خطف عمامته، فطبق كفه ولكم الأحدب على رقبته، فوقع في الأرض، وصاح النصراني على حارس السوق، ثم نزل على الأحدب من شدة سكره ضربًا، وصار يخنقه خنقًا، فجاء الحارس فوجد النصراني باركًا على المسلم وهو يضربه، فقال الحارس: قُمْ عنه. فقام فتقدَّمَ إليه الحارس فوجده ميتًا، فقال: كيف يقتل النصراني مسلمًا؟ ثم قبض على النصراني وكتَّفَه، وجاء به إلى بيت الوالي، والنصراني يقول في نفسه: يا مسيح، يا عذراء، كيف قتلتُ هذا؟ وما أسرع ما مات في لكمة، قد راحت السكرة وجاءت الفكرة.
ثم إن الأحدب والنصراني باتا في بيت الوالي، وأمر الوالي أن يُنادَى على السياف، ونصب للنصراني خشبة وأوقفه تحتها، وجاء السياف ورمى في رقبة النصراني الحبل، وأراد أن يعلقه، وإذا بالمباشر قد شَقَّ الناس، فرأى النصراني وهو واقف تحت المشنقة، ففسح الناس وقال للسياف: لا تفعل، أنا الذي قتلتُه. فقال له الوالي: لأي شيء قتلتَه؟ قال: إني دخلتُ الليلةَ بيتي فرأيته نزل من السطح، وسرق مصالحي فضربته بمطرقة على صدره فمات، فحملته وجئتُ به إلى السوق، وأوقفته في موضع كذا في عطفة كذا. ثم قال المباشِر: ما كفاني أني قتلتُ مسلمًا حتى يُقتَل بسببي نصراني! فلا تشنق غيري. فلما سمع الوالي كلامَ المباشِر أطلق النصراني السمسار، وقال للسياف: اشنق هذا باعترافه. فأخذ الحبل من رقبة النصراني، ووضعه في رقبة المباشِر، وأوقفه تحت الخشبة، وأراد أن يعلِّقه، وإذا باليهودي الطبيب قد شقَّ الناس، وصاح على السياف وقال له: لا تفعل، فما قتله إلا أنا؛ وذلك أنه جاءني في بيتي ليتداوى، فنزلتُ إليه فعثرتُ فيه برجلي فمات، فلا تقتل المباشِرَ، واقتلني.
فأمر الوالي بقتل اليهودي الطبيب، فأخذ السيافُ الحبلَ من رقبة المباشِر، ووضعه في رقبة اليهودي الطبيب، وإذا بالخياط جاء وشقَّ الناس، وقال للسياف: لا تفعل، فما قتله إلا أنا، وذلك أني كنت بالنهار أتفرج، وجئت وقت العشاء فلقيتُ هذا الأحدب سكران ومعه دف وهو يغني بفرحة، فوقفت أتفرج عليه، وجئت به إلى بيتي واشتريت سمكًا وقعدنا نأكل، فأخذَتْ زوجتي قطعةَ سمك ولقمةً ودستهما في فمه، فزور فمات لوقته، فأخذته أنا وزوجتي وجئنا به لبيت اليهودي، فنزلت الجارية وفتحت لنا الباب، فقلت لها: قولي لسيدك إن بالباب امرأة ورجلًا ومعهما ضعيف تعال انظره وصِفْ له دواءً. وأعطيتها ربع دينار، فطلعتْ لسيدها، وأسندتُ الأحدبَ إلى جهة السلم، ومضيت أنا وزوجتي، فنزل اليهودي فعثر فيه فظن أنه قتله. ثم قال الخياط لليهودي: أصحيح هذا؟ قال: نعم. والتفت الخياط للوالي، وقال له: أطلق اليهودي واشنقني. فلما سمع الوالي كلامه تعجَّبَ من أمر الأحدب، وقال: إن هذا أمر يُؤرَّخ في الكتب. ثم قال للسياف: أطلق اليهودي، واشنق الخياط باعترافه. فقدَّمَه السياف وقال: هل نقدِّم هذا ونؤخِّر هذا، ولا نشنق واحدًا؟ ثم وضع الحبل في رقبة الخياط.
فهذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر الأحدب، فقيل إنه كان مسخرة للسلطان، وكان السلطان لا يقدر أن يفارقه، فلما سكر الأحدب غاب عنه تلك الليلة، وثاني يوم إلى نصف النهار، فسأل عنه بعض الحاضرين فقالوا له: يا مولانا، طلع به الوالي وهو ميت، وأمر بشنق قاتله، فنزل الوالي ليشنق القاتل، فحضر له ثانٍ وثالث، وكلٌّ يقول: ما قتله إلا أنا، وكل واحد يذكر للوالي سببَ قتله له. فلما سمع الملك هذا الكلامَ صرخ على الحاجب وقال له: انزل إلى الوالي، وَأْتِني بهم جميعًا. فنزل الحاجب فوجد السياف كاد أن يقتل الخياط، فصرخ عليه الحاجب وقال: لا تفعل، وأَعْلِمِ الواليَ أن القضية بلغت الملك. ثم أخذه وأخذ الأحدب معه محمولًا، والخياط واليهودي والنصراني والمباشِر، وطلع بالجميع إلى الملك، فلما تمثَّلَ الوالي بين يديه قبَّلَ الأرض، وحكى له جميع ما جرى من الجميع، وليس في الإعادة إفادة، فلما سمع الملك هذه الحكاية تعجَّبَ وأخذه الطرب، وأمر أن يُكتَب ذلك بماء الذهب، وقال للحاضرين: هل سمعتم مثل قصة هذا الأحدب؟ فعند ذلك تقدَّمَ النصراني، وقال: يا ملك الزمان، إن أذنتَ لي حدَّثْتُكَ بشيء جرى لي، وهو أعجب وأغرب وأطرب من قصة الأحدب. فقال الملك: حدِّثنا بما عندك.
حكاية النصراني
فقال النصراني: اعلم يا ملك الزمان أني لما دخلتُ تلك الديار أتيتُ بمتجر، وأوقفني المقدور عندكم، وكان مولدي بمصر، وأنا من قبطها، وتربَّيْتُ بها، وكان والدي سمسارًا، فلما بلغتُ مبلغَ الرجال توفي والدي، فعملت سمسارًا مكانه، فبينما أنا قاعد يومًا من الأيام، وإذا بشاب أحسن ما يكون، وعليه أفخر ملبوس، وهو راكب حمارًا، فلما رآني سلَّم عليَّ، فقمتُ إليه تعظيمًا له، فأخرج منديلًا وفيه قدر من السمسم، وقال: كَمْ يساوي الإردبُّ من هذا؟ فقلت له: مائة درهم. فقال لي: خذ التراسين والكيالين، واعمد إلى خان الجوالي في باب النصر تجدني فيه. وتركني ومضى، وأعطاني السمسم بمنديله الذي فيه العينة، فدرتُ على المشترين، فبلغ ثمن كل أردبٍّ مائةً وعشرين درهمًا، فأخذت معي أربعة تراسين، ومضيت إليه فوجدتُه في انتظاري، فلما رآني قام إلى المخزن وفتحه، فكيَّلناه فجاء جميع ما فيه خمسين إردبًّا، فقال الشاب: لك في كل إردبٍّ عشرة دراهم سمسرة، واقبض الثمن واحفظه عندك، وقدر الثمن خمسة آلاف، لك منها خمسمائة، ويبقى لي أربعة آلاف وخمسمائة، فإذا فرغ بيع حواصلي جئتُ إليك وأخذتها. فقلت له: الأمر كما تريد. ثم قبَّلْتُ يديه، ومضيتُ من عنده، فحصل لي في ذلك اليوم ألف درهم، وغاب عني شهرًا، ثم جاء وقال لي: أين الدراهم؟ فقلتُ: ها هي حاضرة. فقال: احفظها حتى أجيء إليك فآخذها. فقعدت أنتظره فغاب عني شهرًا، ثم جاء وقال لي: أين الدراهم؟ فقمتُ وسلَّمْتُ عليه وقلت له: هل لك أن تأكل عندنا شيئًا؟ فأبى وقال لي: احفظ الدراهم حتى أمضي وأجيء فآخذها منك. ثم ولَّى فقمتُ وأحضرتُ له الدراهم، وقعدتُ أنتظره، فغاب عني شهرًا، ثم جاء وقال: بعد هذا اليوم آخذها منك. ثم ولَّى فقمتُ وأحضرت له الدراهم، وقعدت أنتظره، فغاب عني شهرًا، فقلت في نفسي: إن هذا الشاب كامل السماحة. ثم بعد الشهر جاء وعليه ثياب فاخرة، وهو كالقمر ليلة البدر وكأنه قد خرج من الحمام، ووجهه كالقمر، وهو بخد أحمر وجبين أزهر وشامة كأنها قرص عنبر، وفي مثل ذلك قال الشاعر:
فلما رأيتُه قبَّلتُ يدَيْه ودعوت له، وقلتُ له: يا سيدي، أَمَا تقبض دراهمك؟ فقال: مهلًا عليَّ حتى أفرغ من قضاء مصالحي، وآخذها منك. ثم ولَّى فقلتُ في نفسي: والله إذا جاء لَأضيِّفنه لكوني انتفعتُ بدراهمه، وحصل لي منها مال الكثير، فلما كان آخِر السنة جاء وعليه بدلة أفخر من الأولى، فحلفتُ عليه أن ينزل عندي ويضيفني، فقال لي: بشرط أن ما تنفقه من مالي الذي عندك. قلتُ: نعم. وأجلستُه ونزلتُ هيَّأتُ ما ينبغي من الأطعمة والأشربة وغير ذلك، وأحضرتُه بين يدَيْه، وقلت له: باسم الله. فتقدَّمَ إلى المائدة، ومد يده الشمال، وأكل معي، فتعجَّبْتُ منه، فلما فرغنا غسل يده وناولتُه ما يمسحها به، وجلسنا للحديث فقلت: يا سيدي، فرِّجْ عني كربةً، لأيِّ شيء أكلتَ بيدك الشمال، لعل في يدك اليمين شيئًا يؤلمك؟ فلما سمع كلامي أنشد هذين البيتين:
ثم أخرج يده من كمه، وإذا هي مقطوعة زندًا بلا كف، فتعجبت من ذلك، فقال لي: لا تعجب، ولا تقل في خاطرك إني أكلتُ معك بيدي الشمال عجبًا، ولكن لقطع يدي اليمين سبب من العجب. فقلت له: وما سبب ذلك؟ فقال: اعلم أني من بغداد، ووالدي من أكابرها، فلما بلغت مبلغ الرجال سمعت السياحين والمسافرين والتجار يتحدثون بالديار المصرية، فبقي ذلك في خاطري حتى مات والدي، فأخذت أموالًا كثيرًا، وهيَّأت متجرًا من قماش بغدادي وموصلي، ونحو ذلك من البضائع النفيسة، وحزمت ذلك وسافرت من بغداد، وكتب الله السلامة لي حتى دخلت مدينتكم هذه، ثم بكى وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره قال: فدخلت مصر، ونزَّلت القماش في خان سرور، وفككت أحمالي وأدخلتها، وأعطيت الخادم دراهم ليشتري لنا بها شيئًا نأكله، ونِمت قليلًا، فلما قمت ذهبت بين القصرين، ثم رجعت وبت ليلتي، فلما أصبحت فتحت رزمة من القماش، وقلت في نفسي: أقوم لأشق في بعض الأسواق، وأنظر الحال. فأخذتُ بعضَ القماش، وحملتُه لبعض غلماني، وسرتُ حتى وصلت قيسرية جرجس، فاستقبلني السماسرة، وكانوا علموا بمجيئي، فأخذوا مني القماش، ونادوا عليه فلم يبلغ ثمنُه رأسَ ماله، فقال لي شيخ الدلَّالين: يا سيدي، أنا أعرف لك شيئًا تستفيد به، وهو أن تعمل مثل ما يعمل التجار، فتبيع متجرك إلى مدة معلومة بكاتب وشاهد وصيرفي، وتأخذ ما تحصَّل من ذلك في كل يوم خميس وإثنين قدرًا، فتكسب الدراهم كل درهم اثنين، وزيادة على ذلك تتفرج على مصر ونيلها. فقلت: هذا رأي سديد.
فأخذت معي الدلالين، وذهبت إلى الخان، فأخذوا القماش إلى القيسرية، فبعته إلى التجار، وكتبت عليهم وثيقة ودفعت الوثيقة إلى الصيرفي، وأخذت عليه وثيقة بذلك، ورجعت إلى الخان، وأقمت أيامًا كل يوم أفطر على قدح من الشراب، وأحضر اللحم الضاني والحلويات، حتى دخل الشهر الذي استُحِقَّت فيه الجباية، فبقيت كل خميس وإثنين أقعد على دكاكين التجار، ويمضي الصيرفي والكاتب فيجيئان بالدراهم من التجار ويأتياني بها، إلى أن دخلت الحمام يومًا من الأيام، وخرجت إلى الخان، ودخلت موضعي، وأفطرت على قدح من الشراب، ثم نمت وانتبهت، فأكلت دجاجةً وتعطَّرْتُ، وذهبت إلى دكان رجل تاجر يقال له بدر الدين البستاني، فلما رآني رحَّب بي، وتحدث معي ساعة في دكانه، فبينما نحن كذلك وإذا بامرأة جاءت وقعدت بجانبي، وعليها عصابة مائلة، وتفوح منها روائح الطيب، فسلبت عقلي بحسنها وجمالها، ورفعَتِ الإزارَ فنظرتُ إلى أحداق سود، ثم سلَّمَتْ على بدر الدين فردَّ عليها السلام، ووقف وتحدَّث معها، فلما سمعت كلامها تمكَّنَ حبُّها من قلبي، فقالت لبدر الدين: هل عندك تفصيلة من القماش المنسوج من خالص الذهب؟ فأخرج لها تفصيلة، فقالت للتاجر: هل آخذها وأذهب، ثم أرسل إليك ثمنها؟ فقال لها التاجر: لا يمكن يا سيدتي؛ لأن هذا صاحب القماش، وله عليَّ قسط. فقالت: ويلك! إن عادتي أن آخذ منك كل قطعة قماش بجملة دراهم، وأُربِحك فيها فوق ما تريد، ثم أرسل إليك ثمنها. فقال: نعم، ولكني مضطر إلى الثمن في هذا اليوم. فأخذت التفصيلة ورمته بها في صدره، وقالت: إن طائفتكم لا تعرف لأحد قدرًا. ثم قامت مولية، فظننتُ أن روحي راحت معها، فقمت ووقفت، وقلت لها: يا سيدتي، تصدَّقي عليَّ بالالتفات، وارجعي بخطواتك الكريمة. فرجعت وتبسَّمت وقالت: لأجلك رجعت. وقعدَتْ قصادي على الدكان، فقلت لبدر الدين: هذه التفصيلة كم ثمنها عليك؟ قال: ألف ومائة درهم. فقلت له: ولك مائة درهم فائدة. فهات ورقة فأكتب لك فيها ثمنها. فأخذتُ التفصيلة منه، وكتبتُ له ورقة بخطي، وأعطيتها التفصيلة، وقلتُ لها: خذي أنت وروحي، وإن شئتِ هاتي ثمنها إليَّ في السوق، وإن شئتِ هي ضيافتك مني. فقالت: جزاك الله خيرًا، ورزقك مالي، وجعلك بعلي.
فتقبَّلَ الله الدعوة، وقلتُ لها: يا سيدتي، اجعلي هذه التفصيلة لك، ولك أيضًا مثلها، ودعيني أنظر وجهكِ. فكشفَتِ القناعَ عن وجهها، فلما نظرت وجهها نظرة أعقبتني ألف حسرة، وتعلق قلبي بمحبتها، فصرت لا أملك عقلي، ثم أرخت القناع وأخذت التفصيلة، وقالت: يا سيدي، لا توحشني. وقد ولتْ وقعدتُ في السوق إلى بعد العصر، وأنا غائب العقل، وقد تحكَّمَ الحبُّ عندي، فمن شدة ما حصل لي من الحب سألت التاجر عنها حين أردتُ القيام، فقال لي: إن هذه صاحبة مال، وهي بنت أمير، مات والدها وخلَّف لها مالًا كثيرًا. فودَّعتُه وانصرفتُ، وجئتُ إلى الخان فقدَّمَ إليَّ العشاء، فتذكرتُها فلم آكل شيئًا، ونمت فلم يأتني نوم، فسهرت إلى الصباح، ثم قمتُ فلبست بدلةً غير التي كانَتْ عليَّ، وشربتُ قدحًا من الشراب، وفطرتُ على شيء قليل، وجئتُ إلى دكان التاجر فسلَّمتُ عليه وجلست عنده، فجاءت الصبية وعليها بدلة أفخر من الأولى، ومعها جارية، فجلسَتْ وسلَّمَتْ عليَّ دون بدر الدين، وقالت لي بلسان فصيح ما سمعتُ أعذب ولا أحلى منه: أرسِلْ معي مَن يقبض الألف والمائتي درهم ثمنَ التفصيلة. فقلتُ لها: ولأي شيء العجلة؟ فقالت: لا عدمناك. وناولتني الثمن، وقعدت أتحدَّث معها، فأومأت إليها بالإشارة، ففهمت أني أريد وصالها، فقامت على عجل منها، واستوحشت مني وقلبي متعلق بها.
وخرجت أنا خارج السوق في إثرها، وإذا بجارية أتتني وقالت: يا سيدي، كلِّمْ سيدتي. فتعجبتُ وقلت: ما يعرفني هنا أحدٌ. فقالت الجارية: ما أسرع ما نسيتَها! سيدتي التي كانت اليومَ على دكان التاجر فلان. فمشيت معها إلى الصيارف، فلما رأتني أزوتني لجانبها، وقالت: يا حبيبي، وقعت بخاطري وتمكَّنَ حبك من قلبي، ومن ساعة رأيتُكَ لم يَطِبْ لي نوم ولا أكل ولا شرب. فقلت لها: عندي أضعاف ذلك، والحال يُغنِي عن الشكوى. فقالت: يا حبيبي، أجيء عندك أو تجيء عندي؟ فقلتُ لها: أنا رجل غريب، وما لي مكان يأويني إلا الخان، فإن تصدَّقْتِ عليَّ بأن أكون عندك يكمل الحظ. قالت: نعم، لكن الليلة ليلة الجمعة ما فيها شيء، إلا إن كان في غدٍ بعد الصلاة، فصَلِّ واركب حمارك، واسأل عن الحبَّانية، فإن وصلتَ فاسأل عن قاعة بركات النقيب المعروف بأبي شامة، فإني ساكنة هناك، ولا تبطئ فإني في انتظارك.
ففرحت فرحًا زائدًا، ثم افترقنا، وجئتُ للخان الذي أنا فيه، وبتُّ طول الليل سهرانَ، فما صدقت أن الفجر لاحَ حتى قمتُ وغيَّرتُ ملبوسي، وتعطَّرْتُ وتطيَّبْتُ، وأخذت معي خمسين دينارًا في منديل، ومشيت من خان مسرور إلى باب زويلة، فركبت حمارًا وقلت لصاحبه: امض بي إلى الحبانية. فمضى في أقل من لحظة، فما أسرع ما وقف على درب يقال له درب المنقري، فقلت له: ادخل الدرب، واسأل عن قاعة النقيب. فغاب قليلًا وقال: انزل. فقلت: امشِ قدامي إلى القاعة. فمشى حتى أوصلني إلى المنزل، فقلت له: في غدٍ تجيئني هنا وتوديني. فقال الحَمَّار: باسم الله. فناولته ربع دينار ذهبًا، فأخذه وانصرف، فطرقتُ البابَ فخرج لي بنتان صغيرتان، وبكران منهدتان كأنهما قمران، فقالتا: ادخل إن سيدتنا في انتظارك، لم تَنَمِ الليلةَ لولعها بك. فدخلت قاعة مغلقة بسبعة أبواب، وفي دائرها شبابيك مطلة على بستان فيه من الفواكه جميع الألوان، وبه أنهار دافقة، وطيور ناطقة، وهي مبيضة بياضًا سلطانيًّا، يرى الإنسان وجهه فيها، وسقفها مقربص بذهب، وفي دائرها طرازات مكتوبة باللازورد، قد حوت أوصافًا حسنة، وأضاءت للناظرين، وأرضها مفروشة بالرخام المجزَّع، وفي وسطها فسقية، وفي أركان تلك الفسقية الدر والجوهر مفروشة بالبسط الحرير الملونة والمراتب، فلما دخلتُ جلستُ. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.