فلما كانت الليلة ٢٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب لما قال للدلال: اقبض الألف درهم. وسمع الدلال ذلك، عرف أن قضيته مشكلة، فتوجَّهَ بالعقد إلى كبير السوق وأعطاه إياه، فأخذه وتوجَّهَ به إلى الوالي وقال له: إن هذا العقد سُرِق من عندي، ووجدنا الحرامي لابسًا لباس أولاد التجار. فلم أشعر إلا والظَّلَمة قد أحاطوا بي، وأخذوني وذهبوا بي إلى الوالي، فسألني الوالي عن ذلك العقد، فقلتُ له ما قلتُه للدلال؛ فضحك الوالي وقال: ما هذا كلام الحق، فلم أدرِ إلا وحواشيه جرَّدوني من ثيابي، وضربوني بالمقارع على جميع بدني، فأحرقني الضرب، فقلت: أنا سرقتُه. وقلت في نفسي: إن الأحسن أني أقول أنا سرقته، ولا أقول إن صاحبته مقتولة عندي فيقتلوني فيها. فلما قلت إني سرقته قطعوا يدي، وقلوها في الزيت؛ فغُشِي عليَّ فسقوني الشراب حتى أفقتُ، فأخذتُ يدي وجئتُ إلى القاعة، فقال صاحب القاعة: حيث ما جرى لك هذا فأخلِ القاعة، وانظر لك موضعًا آخر؛ لأنك متَّهم بالحرام. فقلت له: يا سيدي، اصبر عليَّ يومين أو ثلاثة حتى أنظر لي موضعًا. قال: نعم. ومضى وتركني، فبقيت قاعدًا أبكي وأقول: كيف أرجع إلى أهلي، وأنا مقطوع اليد؟ والذي قطع يدي لم يعلم أني بريء، فلعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا.
وصرت أبكي بكاء شديدًا، فلما مضى صاحب القاعة عني لحقني غمٌّ شديد، فتشوشت يومين، وفي اليوم الثالث ما أدري إلا وصاحب القاعة جاءني، ومعه بعض الظَّلَمة وكبير السوق الذي ادَّعى عليَّ أني سرقتُ العقد، فخرجت لهم وقلت: ما الخبر؟ فلم يمهلوني، بل كتفوني، ووضعوا في رقبتي جنزيرًا، وقالوا لي: إن العقد الذي كان معك طلع لصاحب دمشق ووزيرها وحاكمها. وقالوا: إن هذا العقد قد ضاع من بيت الصاحب من مدة ثلاث سنين، ومعه ابنته. فلما سمعت هذا الكلام منهم، ارتعدَتْ مفاصلي وقلتُ في نفسي: هم يقتلونني ولا محالة، والله لا بد أنني أحكي للصاحب حكايتي، فإن شاء قتلني، وإن شاء عفا عني. فلما وصلنا إلى الصاحب أوقفني بين يدَيْه، فلما رآني قال: أهذا الذي سرق العقد ونزل به ليبيعه؟ إنكم قطعتم يده ظلمًا. ثم أمر بسجَّان كبير السوق، وقال له: أعطِ هذا دية يده، وإلا أشنقك وآخذ جميع مالك. ثم صاح على أتباعه فأخذوه وجرُّوه، وبقيت أنا والصاحب وحدنا بعد أن فكوا الغل من عنقي بإذنه، وحلوا وثاقي.
ثم نظر إليَّ الصاحب وقال لي: يا ولدي، حدِّثني واصدقني كيف وصل إليك هذا العقد؟ قلت: يا مولاي، إني أقول لك الحق. ثم حدَّثتُه بجميع ما جرى لي مع الصبية الأولى، وكيف جاءتني بالثانية، وكيف ذبحَتْها من الغيرة، وذكرتُ له الحديثَ بتمامه، فلما سمع كلامي هزَّ رأسه، وحط منديله على وجهه وبكى ساعة، ثم أقبل عليَّ وقال لي: اعلم يا ولدي أن الصبية الكبيرة بنتي، وكنتُ أحجر عليها، فلما بلغَتْ أرسلتُها إلى ولد عمها بمصر فمات، فجاءتني وقد تعلَّمَتِ العهرَ من أولاد مصر، وجاءتك أربع مرات، ثم جاءتك بأختها الصغيرة، والاثنتان شقيقتان، وكانتا مُحِبَّتين لبعضهما، فلما جرى للكبيرة ما جرى، أخرجَتْ سرَّها على أختها، فطلبت مني الذهاب معها ثم رجعت وحدها، فسألتها عنها فوجدتها تبكي عليها، وقالت: لا أعلم لها خبرًا. ثم قالت لأمها سرًّا جميع ما جرى من ذبحها أختها، فأخبرتني أمها سرًّا، ولم تزل تبكي وتقول: والله لا أزال أبكي عليها حتى أموت. وكلامك يا ولدي صحيح، فإني أعلم بذلك قبل أن تخبرني به، فانظر يا ولدي ما جرى، وأنا أشتهي منك ألَّا تخالفني فيما أقول لك، وهو أني أريد أن أزوِّجك ابنتي الصغيرة، فإنها ليسَتْ شقيقة لهما وهي بِكْر، ولا آخذ منك مهرًا، وأجعل لكما راتبًا من عندي، وتبقى عندي بمنزلة ولدي. فقلتُ له: الأمر كما تريد يا سيدي، ومن أين لي أن أصل إلى ذلك؟ فأرسل الصاحب في الحال من عنده بريدًا، وأتاني بمالي الذي خلفه والدي، وأنا اليوم في أرغد عيش. فتعجَّبْتُ منه، وأقمتُ عنده ثلاثة أيام، وأعطاني مالًا كثيرًا، وسافرت من عنده فوصلت إلى بلدكم هذه، فطابت لي فيها المعيشة، وجرى لي مع الأحدب ما جرى.
فقال ملك الصين: ما هذا بأعجب من حديث الأحدب، ولا بد لي من شنقكم جميعًا، وخصوصًا الخياط الذي هو رأس كل خطيئة. ثم قال: يا خياط، إنْ حدَّثْتَني بشيء أعجب من حديث الأحدب، وهبتُ لكم ذنوبكم.
حكاية الخياط
فعند ذلك تقدَّمَ الخياط وقال: اعلم يا ملك الزمان أن الذي جرى لي أعجب ممَّا جرى للجميع؛ لأني كنتُ قبل أن أجتمع بالأحدب أول النهار في وليمةٍ لبعض أصحابي أرباب الصنائع من خياطين وبزازين ونجارين وغير ذلك، فلما طلعت الشمس حضر الطعام لنأكل، وإذا بصاحب الدار قد دخل علينا ومعه شاب غريب مليح من أهل بغداد، وعلى ذلك الشاب أحسن ما يكون من الثياب، وهو أحسن ما يكون من الجمال، غير أنه أعرج، فدخل علينا وسلَّم، فقمنا له، فلما أراد الجلوس رأى فينا إنسانًا مزينًا، فامتنع من الجلوس وأراد أن يخرج من عندنا، فمنعناه نحن وصاحب المنزل، وشددنا عليه، وحلف عليه صاحب المنزل وقال له: ما سبب دخولك وخروجك؟ فقال: بالله يا مولاي لا تتعرض لي بشيء، فإن سبب خروجي هذا المزين الذي هو قاعد. فلما سمع منه صاحب الدعوة هذا الكلام تعجَّبَ غايةَ العجب وقال: كيف يكون هذا الشاب من بغداد وتشوَّش خاطره من هذا المزين؟ ثم التفتنا إليه وقلنا له: احكِ لنا ما سبب غيظك من هذا المزين. فقال الشاب: يا جماعة، إنه جرى لي مع هذا المزين أمر عجيب في بغداد بلدي، وكان هو سبب عرجي وكسر رجلي، وحلفت أني ما بقيت أقاعده في مكان، ولا أسكن في بلد هو ساكن فيها، وقد سافرتُ من بغداد ورحلت منها وسكنت في هذه المدينة، وأنا الليلة لا أبيت إلا مسافرًا، فقلنا له: بالله عليك أن تحكي لنا حكايتك معه.
حكاية الأعرج مع مزين بغداد
فاصفرَّ لونُ المزين حين سألنا الشاب، ثم قال الشاب: اعلموا يا جماعة الخير أن والدي من أكابر تجار بغداد، ولم يرزقه الله تعالى بولد غيري، فلما كبرت وبلغت مبلغ الرجال توفي والدي إلى رحمة الله تعالى، وخلف لي مالًا وخدمًا وحشمًا، فصرتُ ألبس أحسن الملابس، وآكل أحسن المآكل، وكان الله سبحانه بغَّضني في النساء، إلى أن كنت ماشيًا يومًا من الأيام في أَزِقَّة بغداد، وإذا بجماعة تعرَّضوا لي في الطريق، فهربت ودخلت زقاقًا لا ينفذ، وارتكنت في آخره على مصطبة، فلم أقعد غير ساعة، وإذا بطاقة قصاد المكان الذي أنا فيه فتحت، وطلَّتْ منها صبية كالبدر في تمامه، لم أَرَ في عمري مثلها، ولها زرع تسقيه، وذلك الزرع تحت الطاقة، فالتفتَتْ يمينًا وشمالًا ثم قفلت الطاقة وغابت عني، فانطلقت في قلبي النار، واشتغل خاطري بها، وانقلب بغضي للنساء محبة، فما زلت جالسًا في هذا المكان إلى المغرب، وأنا غائب عن الدنيا من شدة الغرام، وإذا بقاضي المدينة راكب وقدامه عبيد ووراءه خدم، فنزل ودخل البيت الذي طلَّتْ منه تلك الصبية، فعرفت أنه أبوها، ثم إني جئت منزلي وأنا مكروب، ووقعت على الفراش مهمومًا، فدخلت عليَّ جواريَّ وقعدن حولي، ولم يعرفن ما بي، وأنا لم أُبْدِ لهن أمرًا، ولم أردَّ لخطابهن جوابًا، وعظم مرضي، فصارت الناس تعودني، فدخلت عليَّ عجوز، فلما رأتني لم يخفَ عليها حالي، فقعدت عند رأسي ولاطفتني، وقالت لي: يا ولدي، قل لي خبرك. فحكيت لها حكايتي، فقالت: يا ولدي، إن هذه بنت قاضي بغداد، وعليها الحجر، والموضع الذي رأيتها فيه هو طبقتها، وأبوها له قاعة كبيرة أسفل، وهي وحدها وأنا كثيرًا ما أدخل عندهم، ولا تعرف وصالها إلا مني، فشد حيلك. فتجلَّدْتُ وقوَّيتُ نفسي حين سمعت حديثها، وفرح أهلي في ذلك اليوم، وأصبحت متماسك الأعضاء، مترجِّيًا تمامَ الصحة.
ثم مضت العجوز، ورجعت ووجهها متغير، فقالت: يا ولدي، لا تسأل عمَّا جرى منها لما قلتُ لها ذلك، فإنها قالت لي: إن لم تسكتي يا عجوز النحس عن هذا الكلام لَأفعلنَّ بك ما تستحقينه. ولا بد أن أرجع إليها ثاني مرة. فلما سمعتُ ذلك منها ازددتُ مرضًا على مرضي، فلما كان بعد أيام أتت العجوز وقالت: يا ولدي، أريد منك البشارة. فلما سمعتُ ذلك منها رُدَّتْ روحي إلى جسمي، وقلت لها: لك عندي كل خير. فقالت: إني ذهبت بالأمس إلى تلك الصبية، فلما نظرتني وأنا منكسرة الخاطر باكية العين، قالت: يا خالتي، ما لي أراكِ ضيقةَ الصدر؟ فلما قالت لي ذلك بكيتُ وقلت لها: يا بنتي وسيدتي، إني أتيتك الأمس من عند فتًى يهواكِ، وهو مشرف على الموت من أجلك. فقالت وقد رقَّ قلبها: ومن أين يكون هذا الفتى الذي تذكرينه؟ قلت: هو ولدي وثمرة فؤادي، ورآكِ من الطاقة من أيامٍ مضَتْ وأنت تسقين زرعك، ورأى وجهك، فهام بك عشقًا، وأنا أول مرة أعلمته بما جرى لي معك، فزاد مرضه ولزم الوساد، وما هو إلا ميت ولا محالة. فقالت وقد اصفرَّ لونها: هل هذا كله من أجلي؟ قلت: إيْ والله، فماذا تأمرين؟ قالت: امضي إليه، وأقرئيه مني السلام، وأخبريه أن عندي أضعافَ ما عنده، فإذا كان يوم الجمعة قبل الصلاة يجيء إلى الدار وأنا أقول افتحوا له الباب، وأطلعه عندي، وأجتمع أنا وإياه ساعة، ويرجع قبل مجيء أبي من الصلاة.
فلما سمعتُ كلامَ العجوز زال ما كنتُ أجده من الألم، واستراح قلبي، ودفعتُ إليها ما كان عليَّ من الثياب وانصرفت، وقالت لي: طيِّبْ قلبك. فقلت لها: لم يَبْقَ فيَّ شيء من الألم، وتباشر أهل بيتي وأصحابي بعافيتي، ولم أزل كذلك إلى يوم الجمعة، وإذا بالعجوز دخلت عليَّ وسألتني عن حالي، فأخبرتها أني بخير وعافية، ثم لبست ثيابي وتعطَّرتُ، ومكثت أنتظر الناس يذهبون إلى الصلاة حتى أمضي إليها، فقالت العجوز: إن معك في الوقت اتساعًا زائدًا، فلو مضيتَ إلى الحمام وأزلتَ شعرَك، لا سيما من أثر المرض، لَكان في ذلك صلاحك. فقلتُ لها: إن هذا هو الرأي الصواب، لكن أحلق رأسي أولًا، ثم أدخل الحمام. فأرسلتُ خلف المزين ليحلق لي رأسي، وقلت للغلام: امض على السوق وائتني بمزين يكون عاقلًا قليلَ الفضول، لا يصدع رأسي بكثرة كلامه. فمضى الغلام وأتى بهذا الشيخ، فلما دخل سلَّم عليَّ فردَدْتُ عليه السلام، فقال: أذهَبَ اللهُ غمَّكَ وهمَّكَ، والبؤس والأحزان. فقلت: تقبَّلَ الله منك. فقال: أبشِرْ يا سيدي، فقد جاءتك العافية، تريد تقصير شعرك وإخراج دم؟ فإنه ورد عن ابن عباس أنه قال: مَن قصَّرَ شعره يوم الجمعة، صرف الله عنه سبعين داءً. ورُوِي عنه أيضًا أنه قال: مَن احتجم يومَ الجمعة، لا يأمن ذهاب البصر وكثرة المرض. فقلت له: دَعْ عنك هذا الهذيان، وقُمْ في هذه الساعة احلق لي رأسي، فإني رجل ضعيف.
فقام ومد يده، وأخرج منديلًا وفتحه، وإذا فيه أصطرلاب، وهو سبع صفائح، فأخذه ومضى على وسط الدار، ورفع رأسه إلى شعاع الشمس، ونظر مليًّا وقال لي: اعلم أنه مضى من يومنا هذا، وهو يوم الجمعة، وهو عاشر صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وطالعه بمقتضى ما أوجبه علم الحساب المريخ سبع درج وستة دقائق، واتفق أنه قارنه عطارد، وذلك يدل على أن حلق الشعر جيد جدًّا، ودلَّ عندي على أنك تريد الإفضال على شخص وهو مسعود، لكنْ بعده كلام يقع وشيء لا أذكره لك. فقلتُ له: والله لقد أضجرتَني، وأزهقتَ روحي، وفوَّلتَ عليَّ، وأنا ما طلبتُكَ إلا لتحلق رأسي، فقم واحلق رأسي ولا تُطِلْ عليَّ الكلام. فقال: والله لو علمتَ حقيقةَ الأمر لَطلبتَ مني زيادة البيان، وأنا أشير عليك أنك تعمل اليوم بالذي آمرك به بمقتضى حساب الكواكب، وكان سبيلك أن تحمد الله ولا تخالفني؛ فإني ناصح لك، وشفيق عليك، وأود أن أكون في خدمتك سنة كاملة، وتقوم بحقي، ولا أريد منك أجرة على ذلك. فلما سمعتُ ذلك منه قلتُ له: إنك قاتلي في هذا اليوم ولا محالة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.