فلما كانت الليلة ٢٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب قال له: إنك قاتلي في هذا اليوم يا سيدي، أنا الذي تسميني الناس الصامت لقلة الكلام دون إخوتي؛ لأن أخي الكبير اسمه البقبوق، والثاني الحدار، والثالث بقبق، والرابع اسمه الكوز الأصواني، والخامس اسمه العشار، والسادس اسمه شقالق، والسابع اسمه الصامت، وهو أنا. فلما زاد عليَّ هذا المزين بالكلام، رأيت أن مرارتي انفطرَتْ، وقلتُ للغلام: أعطه ربع دينار وخلِّه ينصرف عني لوجه الله، فلا حاجة لي في حلاقة رأسي. فقال هذا المزين حين سمع كلامي مع الغلام: أي شيء هذا المقال يا مولاي؟ والله لا آخذ منك أجرة حتى أخدمك، ولا بد من خدمتك؛ فإنه واجب عليَّ خدمتك وقضاء حاجتك، ولا أبالي إذا لم آخذ منك دراهم؛ فإنْ كنتَ لا تعرف قدري فأنا أعرف قدرك، وكان والدك رحمه الله تعالى له علينا الإحسان لأنه كان كريمًا، واللهِ لقد أرسل والدك خلفي يومًا مثل هذا اليوم المبارك، فدخلت عليه وكان عنده جماعة من أصحابه، فقال لي: أخرِجْ لي دمًا. فأخذت الأصطرلاب وأخذت له الارتفاع، فوجدت طالع الساعة نحسًا، وإخراج الدم فيها صعبًا، فأعلمتُه بذلك، فامتثل وصبر إلى أن أتت الساعة الحميدة وأخرجت له فيها الدم، ولم يخالفي بل شكرني وكذلك الجماعة الحاضرون، وأعطاني والدك مائة دينار في نظير إخراج الدم.
فقلت له: لا رحم الله أبي الذي عرف مثلك. فضحك هذا المزين وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، سبحان مَن يغيِّر ولا يتغيَّر، ما كنتُ أظنك إلا عاقلًا لكنك خرفتَ من المرض، وقال الله في كتابه العزيز: وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وأنت معذور على كل حال وما أدري سبب عجلتك، وأنت تعلم أن والدك ما كان يفعل شيئًا إلا بمشورتي، وقد قيل إن المستشار مؤتمن، وما تجد أحدًا أعرف مني بالأمور؛ فأنا واقف على أقدامي أخدمك وما ضجرتُ منك، فكيف ضجرتَ أنت مني؟ وأنا أصبر عليك لأجل ما لأبيك عليَّ من الفضل. فقلت له: والله لقد أطلت عليَّ الخطابَ، وزدتَ عليَّ في المقال، وأنا قصدي أن تحلق رأسي وتنصرف عني. وأظهرتُ الغضبَ وأردتُ أن أقوم وإنْ كان قد بَلَّ رأسي. فقال: قد علمت أنه غلب عليك الضجر مني، لكن لا أؤاخذك لأن عقلك ضعيف وأنت صبي، ومن زمن قريب كنتُ أحملك على كتفي وأمضي بك إلى المكتب. فقلت له: يا أخي، بحق الله عليك انصرف عني حتى أقضي شغلي وقُمْ إلى حال سبيلك. ثم مزَّقتُ أثوابي، فلما رآني فعلت ذلك أخذ الموس وسنَّه، ولا زال يسنُّه حتى كادَتْ روحي أن تفارق جسمي، ثم تقدَّمَ إلى رأسي وحلق منها بعضًا ثم رفع يده وقال: يا مولاي، العجلة من الشيطان. ثم إنه أنشد هذين البيتين:
ثم قال: يا مولاي، ما أظنك تعرف بمنزلتي، فإن يدي تقع على رأس الملوك والأمراء والوزراء، والحكماء والفضلاء، وفي مثلي قال الشاعر:
فقلتُ: دَعْ ما لا يعنيك فقد ضيَّقت صدري، وأشغلت خاطري. فقال: أظنك مستعجلًا. فقلتُ له: نعم، نعم، نعم. فقال: تمهَّلْ على نفسك؛ فإن العجلة من الشيطان، وهي تُورِث الندامة والحرمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام: خير الأمور ما كان فيه تأنٍّ. وأنا واللهِ رابَنِي أمرُكَ، فأشتهي أن تعرِّفني ما الذي أنت مستعجل من أجله، ولعله خير؛ فإني أخشى أن يكون شيئًا غير ذلك، وقد بقي من الوقت ثلاثُ ساعات. ثم غضب ورمى الموسى من يديه، وأخذ الأصطرلاب، ومضى إلى الشمس، ووقف حصة مديدة، وعاد وقال: قد بقي لوقت الصلاة ثلاث ساعات لا تزيد ولا تنقص. فقلتُ له: بالله عليك اسكت عني، فقد فتَّتَّ كبدي. فأخذ الموسى، وسنَّه كما فعل أولًا، وحلق بعض رأسي، وقال: أنا مهموم من عجلتك، فلو أطلعتَني على سببها لَكان خيرًا لك؛ لأنك تعلم أن والدك ما كان يفعل شيئًا إلَّا بمشورتي. فلما علمتُ أن ما لي منه خلاص، قلتُ في نفسي: قد جاء وقت الصلاة، وأريد أن أمضي قبل أن تخرج الناس من الصلاة، فإنْ تأخَّرْتُ ساعةً لا أدري أين السبيل إلى الدخول إليها. فقلتُ: أوجز ودَعْ عنك هذا الكلام والفضول، فإني أريد أن أمضي إلى دعوة عند أصحابي.
فلما سمع ذكر الدعوة قال: يومك يوم مبارك عليَّ؛ لقد كنت البارحة حلفت على جماعة من أصدقائي، ونسيت أن أجهِّز لهم شيئًا يأكلونه، وفي هذه الساعة تذكرت ذلك، وا فضيحتاه منهم! فقلت له: لا تهتم بهذا الأمر بعد تعريفك أنني اليومَ في دعوة، فكل ما في داري من طعام وشراب لك إنْ أنجزتَ أمري، وعجَّلتَ حلاقةَ رأسي. فقال: جزاك الله خيرًا، صِفْ لي ما عندك لأضيافي حتى أعرفه. فقلت: عندي خمسة أوانٍ من الطعام، وعشر دجاجات محمَّرات، وخروف مشوي. فقال: أحضرها لي حتى أنظر. فأحضرت إليه جميع ذلك، فلما عاينه قال: بقي الشراب. فقلت له: عندي. قال: أحضره. فأحضرته له، قال: لله درك، ما أكرم نفسك! لكن بقي البخور الطيب. فأحضرت له درجًا فيه ندٌّ وعود وعنبر ومسك يساوي خمسين دينارًا، وكان الوقت قد ضاق حتى صار مثل صدري، فقلت له: خذ هذا، واحلق لي جميع رأسي بحياة محمد ﷺ. فقال المزين: واللهِ ما آخذه حتى أرى جميع ما فيه.
فأمرت الغلامَ ففتح له الدرج، فرمى المزين الأصطرلاب من يده، وجلس على الأرض يقلب الطيب والبخور والعود الذي في الدرج حتى كادت روجي أن تفارق جسمي، ثم تقدَّمَ وأخذ الموسى وحلق من رأسي شيئًا يسيرًا، وقال: واللهِ يا ولدي ما أدري أأشكرك أم أشكر والدك؟ لأن دعوتي اليومَ كلها من بعض فضلك وإحسانك، وليس عندي مَن يستحق ذلك، وإنما عندي زيتون الحمامي، وصليع الفاني، وعوكل الفوال، وعكرشة البقال، وحميد الزبال، وعكارش اللبان، ولكلٍّ من هؤلاء رقصة يرقصها، وأبيات ينشدها، وأحسن ما فيهم أنهم مثل الملوك، وعبدك أنا لا أعرف كثرة كلام لا فضول. أما الحمامي فإنها يقول: إن لم أذهب إليها تجئني بيتي. وأما الزبال فإنه ظريف خليع، كثيرًا ما يرقص ويقول: الخير عند زوجتي ما صار في صندوقٍ. وكل واحد من أصحابي له لطائفُ لا توجد في الآخَر، وليس الخبر كالعيان، فإن اخترتَ أن تحضر عندنا كان ذلك أحبَّ إليك وإلينا، واترك رواحك إلى أصدقائك الذين قلتَ لي إنك تريد الذهاب إليهم؛ فإن عليك أثر المرض، وربما تمضي إلى أقوام كثيري الكلام يتكلمون فيما لا يعنيهم، وربما يكون فيهم واحد فضولي وأنت قلقت روحك من المرض. فقلت: إن شاء الله يكون ذلك في غير هذا اليوم. فقال لي: الأنسب أن تقدم حضورك عند أصحابي لتغتنم مؤانستهم وتفوز بحملهم وتعمل بقول الشاعر:
فضحكتُ عن قلب مشحون بالغيظ، وقلتُ له: أقضِ شغلي وأسير أنا في أمان الله تعالى، وتمضي أنت إلى أصحابك فإنهم منتظرون قدومك. فقال: ما طلبتُ إلا أن أعاشرك بهؤلاء الأقوام، فإنهم من أولاد الناس الذين ما فيهم فضولي، ولو رأيتهم مرة واحدة لَتركتَ جميعَ أصحابك. فقلتُ له: نعَّمَ الله سرورَك بهم، ولا بد أن أحضرهم عندي يومًا. فقال: إذا أردتَ ذلك وقدمت، دعوت أصحابك في هذا اليوم، فاصبر حتى أمضي بهذا الإكرام الذي أكرمتني به، وأدعه عند أصحابي يأكلون ويشربون ولا ينتظرون، ثم أعود إليك وأمضي معك إلى أصدقائك؛ فليس بيني وبين أصدقائي حشمة تمنعني عن تركهم والعود إليك عاجلًا، وأمضي معك أينما توجَّهْتَ. فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. امضِ أنت إلى أصدقائك وانشرح معهم، ودعني أمضي إلى أصدقائي وأكون معهم في هذا اليوم؛ فإنهم ينتظرون قدومي. فقال المزين: لا أدعك تمضي وحدك. فقلت له: إن الموضع الذي أمضي إليه لا يقدر أحد أن يدخله غيري. فقال: أظنك اليوم في ميعاد واحدة، وإلا كنتَ تأخذني معك، وأنا أحق من جميع الناس، وأساعدك على ما تريد، فإني أخاف أن تدخل على امرأة أجنبية فتروح روحك؛ فإن هذه مدينة بغداد لا يقدر أحد أن يعمل فيها شيئًا من هذه الأشياء، لا سيما في مثل هذا اليوم، وهذا والي بغداد صارم عظيم. فقلتُ: ويلك يا شيخ الشر! أي شيء هذا الكلام الذي تقابلني به؟!
فسكتَ سكوتًا طويلًا، وأدركنا وقت الصلاة وجاء وقت الخطبة، وقد فرغ من حلق رأسي، فقلت له: امضِ إلى أصحابك بهذا الطعام والشراب، وأنا أنتظرك حتى تعود وتمضي معي. ولم أزل أخادعه لعله يمضي، فقال لي: إنك تخادعني وتمضي وحدك، وترمي نفسك في مصيبةٍ لا خلاصَ لك منها، فالله الله، لا تبرح حتى أعود إليك وأمضي معك حتى أعلم ما يتم من أمرك. فقلت له: نعم، لا تُبطِئْ عليَّ. فأخذ ما أعطيته من الطعام والشراب وغيره وخرج من عندي، فسلَّمه إلى الحمال ليوصله إلى منزله، وأخفى نفسه في بعض الأزِقَّة، ثم قمتُ من ساعتي وقد أعلنوا على المنارات بسلام الجمعة، فلبستُ ثيابي وخرجت وحدي، وأتيتُ إلى الزقاق ووقفتُ على البيت الذي رأيتُ فيه تلك الصبية، وإذا بالمزين خلفي ولا أعلم به، فوجدتُ الباب مفتوحًا فدخلتُ، وإذا بصاحب الدار عاد إلى منزله من الصلاة، ودخل القاعة وغلَّق الباب، فقلت: من أين علم هذا الشيطان بي؟ فاتفق في هذه الساعة لأمرٍ يريده الله من هتك ستري، أن صاحب الدار أذنبَتْ جاريةٌ عنده فضربها فصاحَتْ، فدخل عنده عبد ليخلصها فضربه فصاح الآخَر، فاعتقد المزين أنه يضربني، فصاح ومزَّقَ أثوابه، وحثا الترابَ على رأسه، وصار يصرخ ويستغيث والناس حوله وهو يقول: قُتِلَ سيدي في بيت القاضي. ثم مضى إلى داري، وهو يصيح والناس خلفه، وأعلَمَ أهلَ بيتي وغلماني، فما دريتُ إلا وهم قد أقبلوا يصيحون: وا سيداه! كل هذا والمزين قدامهم وهو ممزَّق الثياب والناس معهم، ولم يزالوا يصرخون وهو في أوائلهم يصرخ، وهم يقولون: وا قتيلاه! وقد أقبلوا نحو الدار التي أنا فيها. فلما سمع القاضي ذلك عظُم عليه الأمر، وقام وفتح الباب، فرأى جمعًا عظيمًا، فبُهِتَ وقال: يا قوم، ما القصة؟ فقال له الغلمان: إنك قتلتَ سيدنا. فقال: يا قوم، وما الذي فعله سيدكم حتى أقتله؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.