فلما كانت الليلة ٣٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال لزوجته: أَمَا تعلمين أن وراءنا عدوًّا يقال له المعين بن ساوى؟ ومتى سمع بهذا الأمر تقدَّمَ إلى السلطان وقال له: إن وزيرك الذي تزعم أنه يحبك أخذ منك عشرة آلاف دينار، واشترى بها جارية ما رأى أحد مثلها، فلما أعجبته قال لابنه: خذها أنت أحقُّ بها من السلطان، فأخذها وأزال بكارتها، وها هي الجارية عنده. فيقول الملك: تكذب. فيقول للملك: عن إذنك أهجم عليه، وآتيكَ بها. فيأذن له في ذلك، فيهجم على الدار، ويأخذ الجارية ويحضرها بين يدي السلطان، ثم يسألها فما تقدر أن تنكر، فيقول له: يا سيدي، أنت تعلم أني ناصح لك، ولكن ما لي عندكم حظ. فيمثل بي السلطان، والناس كلهم يتفرجون عليَّ، وتروح روحي. فقالت له زوجته: لا تُعلِم أحدًا، وهذا الأمر حصل خفية، وسَلِّمْ أمرَكَ إلى الله في هذه القضية. فعند ذلك سكن قلب الوزير، وطاب خاطره.
هذا ما كان من أمر الوزير، وأما ما كان من أمر علي نور الدين، فإنه خاف عاقبة الأمر، فكان يقضي نهاره في البساتين، ولا يأتي إلا في آخِر الليل لأمه، فينام عندها ويقوم قبل الصبح، ولا يراه أحد، ولم يزل كذلك شهرًا، وهو لم يَرَ وجْهَ أبيه، فقالت أمه لأبيه: يا سيدي، هل تعدم الجارية وتعدم الولد؟ فإن طال هذا الأمر على الولد هَجَّ. قال لها: وكيف العمل؟ قالت له: اسهر هذه الليلة، فإذا جاء أمسِكْه، واصطلح أنت وإياه، وأعْطِه الجاريةَ، فإنها تحبه وهو يحبها، وأعطيك ثمنها. فسهر الوزير طول الليل، فلما أتى ولده أمسكه وأراد نحره، فأدركته أمه وقالت له: أي شيء تريد أن تفعل معه؟ فقال لها: أريد أن أذبحه. فقال الولد لأبيه: هل أهون عليك؟ فتغرغرت عيناه بالدموع وقال له: يا ولدي، كيف هان عليك ذهاب مالي وروحي؟! فقال الصبي: اسمع يا والدي ما قال الشاعر:
فعند ذلك قام الوزير من على صدر ولده وأشفق عليه، وقام الصبي وقبَّلَ يد والده، فقال: يا ولدي، لو علمتُ أنك تنصف أنيس الجليس كنتُ وهبتُها لك. فقال: يا والدي كيف لا أنصفها؟ قال: أوصيك يا ولدي أنك لا تتزوج عليها، ولا تضارها، ولا تبيعها. قال له: يا والدي، أنا أحلف لك إني لا أتزوج عليها، ولا أبيعها. ثم حلف له أيمانًا على ما ذكر، ودخل على الجارية فأقام معها سنة، وأنسى الله تعالى الملكَ قصةَ الجارية.
وأما المعين بن ساوى، فإنه بلغه الخبر، ولكنه لم يقدر أن يتكلم لعظم منزلة الوزير عند السلطان، فلما مضت السنة دخل الوزير فضل الدين بن خاقان الحمام، وخرج وهو عرقان، فأصابه الهواء، فلزم الوساد، وطال به السهاد، وتسلسل به الضعف، فعند ذلك نادَى ولدَه عليًّا نور الدين، فلما حضر بين يديه قال له: يا ولدي، إن الرزق مقسوم، والأجل محتوم، ولا بد لكل نسمة من شرب كأس المنون، وأنشد هذه الأبيات:
ثم قال: يا ولدي، ما لي عندك وصية إلا تقوى الله والنظر في العواقب، وأن تستوصي بالجارية أنيس الجليس. فقال له: يا أبتِ، ومَن مثلك، وقد كنت معروفًا بفعل الخير، ودعاء الخطباء لك على المنابر؟ فقال: يا ولدي، أرجو من الله تعالى القبول. ثم نطق بالشهادتين، وشهق شهقة، فكُتِب من أهل السعادة، فعند ذلك امتلأ القصر بالصراخ، ووصل الخبر إلى السلطان، وسمعت أهل المدينة بوفاة الفضل بن خاقان، فبكت عليه الصبيان في مكاتبها، ونهض ولده علي نور الدين وجهَّزَه، وحضرت الأمراء والوزراء وأرباب الدولة وأهل المدينة مشهده، وكان ممَّن حضر الجنازةَ الوزيرُ المعين بن ساوى، وأنشد بعضهم عند خروج جنازته من الدار هذه الأبيات:
ثم مكث علي نور الدين شديدَ الحزن على والده مدةً مديدةً، فبينما هو جالس يومًا من الأيام في بيت والده إذ طرق الباب طارق، فنهض علي نور الدين وفتح الباب، وإذا برجل من ندماء والده وأصحابه، فقبَّلَ يدَ علي نور الدين، وقال: يا سيدي، مَن خلف مثلك ما مات، وهذا مصير سيد الأولين والآخِرين، يا سيدي، طِبْ نفسًا، ودَعِ الحزنَ. فعند ذلك نهض علي نور الدين إلى قاعة الجلوس، ونقل إليها ما يحتاج إليه، واجتمع عليه أصحابه، وأخذ جاريته، واجتمع عليه عشرة من أولاد التجار، ثم إنه أكل الطعام، وشرب الشراب، وجدَّدَ مقامًا بعد مقام، وصار يعطي ويتكرَّم، فعند ذلك دخل عليه وكيله، وقال له: يا سيدي نور الدين، أَمَا سمعتَ قوْلَ بعضهم: مَن ينفق ولم يحسب افتقر؟ ولقد أحسن مَن قال هذه الأبيات:
ثم قال: يا سيدي، هذه النفقة الجزيلة والمواهب العظيمة تُفني المال. فلما سمع علي نور الدين من وكيله هذا الكلام، نظر إليه وقال له: جميع ما قلتُه لا أسمع منه كلمة، فما أحسن قول الشاعر:
ثم قال: اعلم أيها الوكيل أني أريد إذا فضل عندك ما يكفيني لغدائي ألَّا تحمِّلني همَّ عشائي. فانصرف الوكيل من عنده إلى حال سبيله، وأقبل علي نور الدين على ما هو فيه من مكارم الأخلاق، وكل مَن يقول له من ندمائه: إن هذا الشيء مليح. يقول: هو لك هبة. أو يقول: يا سيدي، إن الدار الفلانية مليحة. يقول: هي لك هبة. ولم يزل علي نور الدين يعقد لندمائه وأصحابه في أول النهار مجلسًا، وفي آخِره مجلسًا، إلى أنْ مكث على هذه الحال سنةً كاملة، وبعد السنة فبينما هو جالس يومًا وإذا بالجارية تنشد هذين البيتين:
فلما فرغَتْ من شعرها إذا بطارق يطرق الباب، فقام نور الدين فتبعه بعض جلسائه من غير أن يعلم به، فلما فتح الباب رآه وكيله، فقال له علي نور الدين: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي، الذي كنتُ أخاف عليك منه قد وقع لك. قال: وكيف ذلك؟ قال: اعلم أنه ما بقي لك تحت يدي شيء يساوي درهمًا، ولا أقل من درهم، وهذه دفاتر المصروف الذي صرفته، ودفاتر أصل مالك. فلما سمع علي نور الدين هذا الكلام أطرق برأسه إلى الأرض، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما سمع الرجل — الذي تبعه خفيةً وخرج ليتسلَّلَ عليه — ما قاله الوكيل، رجع إلى أصحابه وقال لهم: انظروا أي شيء تعملون، فإن عليًّا نور الدين قد أفلس. فلما رجع إليهم علي نور الدين ظهر لهم الغمُّ في وجهه، فعند ذلك نهض واحد من الندماء على قدمَيْه، ونظر إلى علي نور الدين، وقال له: يا سيدي، إني أريد أن تأذن لي بالانصراف. فقال علي نور الدين: لماذا الانصراف في هذا اليوم؟ فقال: إن زوجتي تلد في هذه الليلة، ولا يمكنني أن أتخلف عنها، وأريد أن أذهب إليها وأنظرها. فأذن له، ونهض آخَر وقال له: يا سيدي نور الدين، أريد اليوم أن أحضر عند أخي، فإنه يطاهِرُ ولده. وكل واحد يستأذنه بحيلةٍ، ويذهب إلى حال سبيله حتى انصرفوا كلهم، وبقي علي نور الدين وحده، فعند ذلك دعا جاريته، وقال لها: يا أنيس الجليس، أَمَا تنظرين ما حلَّ بي؟ وحكى لها ما قاله الوكيل، فقالت: يا سيدي، من منذ ليالٍ هممتُ أن أقول لك على هذه الحال، فسمعتُك تنشد هذين البيتين:
فلما سمعتُكَ تنشدهما سكتُّ، ولم أُبْدِ لك خطابًا، فقال لها علي نور الدين: يا أنيس الجليس، أنت تعرفين أني ما صرفت مالي إلا على أصحابي، وأظنهم لا يتركونني من غير مواساة. فقالت أنيس الجليس: واللهِ ما ينفعونك بنافعة. فقال علي نور الدين: فأنا في هذه الساعة أقوم وأروح إليهم، وأطرق أبوابهم؛ لعلي أنال منهم شيئًا، فأجعله في يدي رأس مال، وأتَّجِر فيه وأترك اللهو واللعب. ثم إنه نهض من وقته وساعته، ولا زال سائرًا حتى أقبل على الزقاق الذي فيه أصحابه العشرة، وكانوا كلهم ساكنين في ذلك الزقاق، فتقدَّمَ إلى أول باب وطرَقَه، فخرجت له جارية وقالت له: مَن أنت؟ فقال لها: قولي لسيدك، عليٌّ نور الدين واقفٌ على الباب ويقول لك: مملوكك يقبِّل أياديك وينتظر فضلك. فدخلت الجارية وأعلمت سيدها، فصاح عليها وقال لها: ارجعي وقولي له ما هو هنا. فرجعت الجارية إلى نور الدين وقالت له: يا سيدي، إن سيدي ما هو هنا. فتوجَّهَ علي نور الدين وقال في نفسه: إن كان هذا ولد زنا وأنكر نفسه، فغيره ما هو ولد زنا. ثم تقدَّمَ إلى الباب الثاني وقال كما قال أولًا، فأنكر الآخَرُ نفسه، فعند ذلك أنشد هذا البيت:
فلما فرغ من شعره قال: واللهِ لا بد أن أمتحنهم كلهم، عسى أن يكون فيهم واحد يقوم مقام الجميع. فدار على العشرة فلم يجد أحدًا منهم فتح الباب، ولا أراه نفسه، ولا أمر له برغيف، فأنشد هذه الأبيات:
ثم إنه رجع إلى جاريته، وقد تزايَدَ همه، فقالت له: يا سيدي، أَمَا قلتُ لك إنهم لا ينفعونك بنافعة؟ فقال: والله ما فيهم مَن أراني وجهه. فقالت له: يا سيدي، بِعْ من أثاث البيت شيئًا فشيئًا، وأنفق. فباع إلى أن باع جميعَ ما في البيت، ولم يَبْقَ عنده شيء، فعند ذلك نظر إلى أنيس الجليس، وقال لها: ما نفعل الآن؟ فقالت له: يا سيدي، عندي من الرأي أن تقوم في هذه الساعة، وتنزل بي السوقَ فتبيعني، وأنت تعلم أن والدك كان اشتراني بعشرة آلاف دينار، فلعل الله يفتح عليك ببعض هذا الثمن، وإذا قدر الله باجتماعنا نجتمع. فقال لها: يا أنيس الجليس، ما يهون عليَّ فراقك ساعةً واحدةً. فقالت له: ولا أنا، لكن للضرورة أحكام كما قال الشاعر:
فعند ذلك أخذ أنيس الجليس ودموعُه تسيل على خدَّيْه، ثم أنشد هذين البيتين:
ثم مضى وسلَّمَها إلى الدَّلَّال، وقال له: اعرف مقدار ما تنادي عليه. فقال الدلال: يا سيدي نور الدين، الأصول محفوظة. ثم قال له: أَمَا هي أنيس الجليس الذي كان اشتراها والدك مني بعشرة آلاف دينار؟ قال: نعم. فعند ذلك طلع الدلال إلى التجار، فوجدهم لم يجتمعوا كلهم، فصبر حتى اجتمع سائر التجار، وامتلأ السوق بسائر أجناس الجواري من تركية ورومية وشركسية وجرجية وحبشية، فلما نظر الدلال إلى ازدحام السوق نهض قائمًا وقال: يا تجار، يا أرباب الأموال، ما كل مدور جوزة، ولا كل مستطيلة موزة، ولا كل حمراء لحمة، ولا كل بيضاء شحمة، ولا كل صهباء خمرة، ولا كل سمراء تمرة، يا تجار، هذه الدرة اليتيمة التي لا تفي الأموال لها بقيمة، بكم تفتحون باب الثمن؟ فقال واحد من التجار: بأربعة آلاف دينار وخمسمائة. وإذا بالوزير المعين بن ساوى في السوق، فنظر عليًّا نور الدين واقفًا، فقال في نفسه: ما باله واقفًا، فإنه ما بقي عنده شيء يشتري به جواري. ثم نظر بعينه فسمع المنادي وهو واقف ينادي في السوق والتجار حوله، فقال الوزير في نفسه: ما أظنه إلا أفلس، ونزل بالجارية ليبيعها. ثم قال في نفسه: إنْ صحَّ ذلك فما أبرده على قلبي! ثم دعا المنادي فأقبل عليه، وقبَّلَ الأرضَ بين يديه، فقال: إني أريد هذه الجارية التي تنادي عليها. فلم يمكنه المخالفة، فجاء بالجارية وقدَّمَها بين يدَيْه، فلما نظر إليها وتأمَّلَ محاسنها من قامتها الرشيقة وألفاظها الرقيقة، أعجبته، فقال له: إلى كم وصل ثمنها؟ فقال له: أربعة آلاف وخمسمائة دينار. فلما سمع ذلك التجار ما قدر واحد منهم أن يزيد درهمًا ولا دينارًا، بل تأخروا جميعًا لما يعلمون من ظلم ذلك الوزير.
ثم نظر الوزير المعين بن ساوى إلى الدلال، وقال له: ما سبب وقوفك، رح والجارية عليَّ بأربعة آلاف دينار ولك خمسمائة دينار. فراح الدلال إلى علي نور الدين، وقال له: يا سيدي، راحت الجارية عليك بلا ثمن. فقال له: وما سبب ذلك؟ قال له: نحن فتحنا باب سعرها بأربعة آلاف دينار وخمسمائة، فجاء هذا الظالم المعين بن ساوى ودخل السوق، فلما نظر الجارية أعجبته، وقال لي: شاوِرْ على أربعة آلاف دينار ولك خمسمائة، وما أظنه إلا عرف أن الجارية لك، فإن كان يعطيك ثمنها في هذه الساعة يكون ذلك من فضل الله، لكن أنا أعرف من ظلمه أنه يكتب لك ورقة حوالة على بعض عملائه، ثم يرسل إليهم، ويقول لهم: لا تعطوه شيئًا، فكلما ذهبْتَ إليهم لتطالبهم يقولون في غدٍ نعطيك. ولا يزالون يَعِدُونك ويُخلِفون يومًا بعد يوم وأنت عزيز النفس، وبعد أن يضجوا من مطالبتك إياهم يقولون: أعطنا ورقة الحوالة. فإذا أخذوا الورقةَ منك قطعوها وراح عليك ثمن الجارية.
فلما سمع علي نور الدين من الدلال هذا الكلام، نظر إليه وقال له: كيف يكون العمل؟ فقال له: أنا أشير عليك بمشورة، فإن قبلتها مني كان لك الحظ الأوفر. وقال: وما هي؟ قال: تجيء في هذه الساعة عندي، وأنا واقف في وسط السوق، وتأخذ الجارية من يدي وتلكمها وتقول لها: ويلك، قد فديتُ يميني التي حلفتُها، ونزلتُ بك السوق حيث حلفتُ عليك أنه لا بد من إخراجك إلى السوق ومناداة الدلال عليك. فإن فعلتَ ذلك ربما تدخل عليه الحيلة وعلى الناس، ويعتقدون أنك ما نزلتَ بها إلا لأجل إبرار اليمين. فقال: هذا هو الرأي الصواب. ثم إن الدلال فارَقَه، وجاء إلى وسط السوق، وأمسك يد الجارية وأشار إلى الوزير المعين بن ساوى، وقال: يا مولاي، هذا مالِكُها قد أقبَلَ. ثم جاء علي نور الدين إلى الدلال، ونزع الجارية من يده ولكمها وقال لها: ويلكِ، قد نزلتُ بكِ إلى السوق لأجل إبرار يميني، روحي إلى البيت، وبعد ذلك لا تخالفيني، فلستُ محتاجًا إلى ثمنك حتى أبيعَكِ، وأنا لو بعتُ أثاثَ البيت وأمثالَه مراتٍ عديدةً ما بلغ قدر ثمنك.
فلما نظر المعين بن ساوى إلى علي نور الدين قال له: ويلك! وهل بقي عندك شيء يباع أو يُشترَى؟ ثم إن المعين بن ساوى أراد أن يبطش به، فعند ذلك نظر التجار إلى علي نور الدين، وكانوا كلهم يحبونه، فقال لهم: ها أنا بين أيديكم وقد عرفتم ظلمه. فقال الوزير: والله لولا أنتم. ثم رمزوا كلهم لبعضهم بعين الإشارة، وقالوا: ما أحد منَّا يدخل بيتك وبيته. فعند ذلك تقدَّمَ علي نور الدين إلى الوزير ابن ساوى، وكان نور الدين شجاعًا، فجذَبَ الوزير من فوق سرجه فرماه على الأرض، وكان هناك معجنة طين فوقع الوزير في وسطها، وجعل علي نور الدين يلكمه، فجاءت لكمة على أسنانه فاختضبت لحيته بدمه، وكان مع الوزير عشرة مماليك، فلما رأوا نور الدين فعل بسيدهم هذه الأفعال، وضعوا أيديهم على مقابض سيوفهم، وأرادوا أن يهجموا على نور الدين ويقطعوه، وإذا بالناس قالوا للمماليك: هذا وزير، وهذا ابن وزير، وربما اصطلحَا مع بعضهما، وتكونون مبغوضين عند كلٍّ منهما، وربما جاءت فيه ضربة فتموتون جميعًا أقبحَ الميتات، ومن الرأي ألَّا تدخلوا بينهما. فلما فرغ عليَّ نور الدين من ضرب الوزير، أخذ جاريته ومضى إلى داره، وأما الوزير ابن ساوى فإنه قام من ساعته، وكان قماش ثيابه أبيض، فصار ملوَّنًا بثلاثة ألوان: لون الطين، ولون الدم، ولون الرماد، فلما رأى نفسه على هذه الحالة أخذ برشًا، وجعله في رقبته، وأخذ في يده حزمتين من حلفة، وسار إلى أن وقف تحت القصر الذي فيه السلطان، وصاح: يا ملك الزمان، مظلوم. فأحضروه بين يدَيْه، فتأمَّلَه فرآه وزيرَه المعين بن ساوى، فقال له: مَن فعل بك هذه الفعال؟ فبكى وانتحب، وأنشد هذين البيتين:
ثم قال: يا سيدي، أهكذا كلُّ مَن يحبك ويخدمك تجري له هذه المشاق؟ قال له: ومَن فعل بك هذه الفعال؟ فقال الوزير: اعلم أني خرجت اليومَ إلى سوق الجواري لعَلِّي أشتري جاريةً طبَّاخة، فرأيتُ في السوق جاريةً ما رأيت في طول عمري مثلها، فقال الدلال: إنها لعلي بن خاقان. وكان مولانا السلطان أعطى إياه سابقًا عشرة آلاف دينار ليشتري له بها جارية مليحة، فاشترى تلك الجارية، فأعجبته فأعطى ولده إياها، فلما مات أبوه سلك طريقَ الإسراف حتى باع جميعَ ما عنده من الأملاك والبساتين والأواني، فلما أفلَسَ ولم يَبْقَ عنده شيء، نزل بالجارية إلى السوق على أن يبيعها، ثم سلَّمَها إلى الدلال، فنادَى عليها، وتزايَدَتْ فيها التجارُ حتى بلغ ثمنها أربعةَ آلاف دينار. فقلتُ لعقلي: أشتري هذه لمولانا السلطان، فإنَّ أصلَ ثمنها كان من عنده، فقلت: يا ولدي، خذ ثمنها أربعة آلاف دينار. فلما سمع كلامي نظر إليَّ وقال: يا شيخ النحس، أبيعها لليهود والنصارى ولا أبيعها لك. فقلت: أنا ما أشتريها لنفسي، وإنما أشتريها لمولانا السلطان الذي هو وليُّ نعمتنا. فلما سمع مني هذا الكلام اغتاظ وجذبني، ورماني عن الجواد، وأنا شيخ كبير، وضربني، ولم يزل يضربني حتى تركني كما تراني، وأنا ما أوقعني في هذا كله إلا أنني جئتُ لأشتري هذه الجارية لسعادتك.
ثم إن الوزير رمى نفسه على الأرض، وجعل يبكي ويرتعد، فلما نظر السلطان حالته وسمع مقالته، قام عِرق الغضب بين عينَيْه، ثم التفَتَ إلى مَن بحضرته من أرباب الدولة، وإذا بأربعين ضاربَ سيفٍ وقفوا بين يديه، فقال لهم السلطان: انزلوا في هذه الساعة إلى دار علي بن خاقان، وانهبوها واهدموها، وائتوني به وبالجارية مكتَّفَيْنِ، واسحبوهما على وجوههما، وائتوا بهما بين يدي. فقالوا له: السمع والطاعة. ثم إنهم نزلوا وقصدوا المسير إلى علي نور الدين، وكان عند السلطان حاجب يقال له علم الدين سنجر، وكان أولًا من مماليك الفضل بن خاقان والد علي نور الدين، فلما سمع أمر السلطان، ورأى الأعداء تهيَّئوا إلى قتل ابن سيده، لم يهن عليه ذلك، فركب جواده وسار إلى أن أتى بيت علي نور الدين، فطرق الباب فخرج له نور الدين، فلما رآه عرفه وأراد أن يسلِّم عليه، فقال: يا سيدي، ما هذا وقت سلام ولا كلام، واسمع ما قال الشاعر:
فقال نور الدين: يا علم الدين، ما الخبر؟ فقال: انهض، وفُزْ بنفسك أنت والجارية؛ فإن المعين بن ساوى نصب لكما شَرَكًا، ومتى وقعتما في يده قتلكما، وقد أرسل إليكما السلطان أربعين ضاربًا بالسيف، والرأي عندي أن تهربا قبل أن يحل الضرر بكما. ثم إن سنجر مد يده إلى نور الدين بدنانير، فعَدَّها فوجدها أربعين دينار، وقال له: يا سيدي، خذ هذه، ولو كان معي أكثر من ذلك لَأعطيتك إياه، لكن ما هذا وقت معاتبة. فعند ذلك دخل نور الدين على الجارية، وأعلَمَها بذلك فتخبَّلت، ثم خرج الاثنان في الوقت إلى ظاهر المدينة، وأسبَلَ الله عليهما ستْرَه، ومشَيَا إلى ساحل البحر، فوجدَا مركبًا تجهَّزَتْ للسفر، والريس واقف في وسط المركب، يقول: مَن بقي له حاجة من وداع أو زوادة أو نسي حاجة فَلْيأتِ بها، فإننا متوجهون. فقالوا كلهم: لم يَبْقَ لنا حاجة يا ريس. فعند ذلك قال الريس لجماعته: هيا حلُّوا الطرفَ وأقلعوا الأوتاد. فقال علي نور الدين: إلى أين يا ريس؟ فقال: إلى دار السلام بغداد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.