فلما كانت الليلة ٤١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الخليفة لم يزل يتردَّد على قبرها مدة شهر، فاتفق أن الخليفة دخل على الحريم بعد انفضاض الأمراء والوزراء من بين يديه إلى بيوتهم ونام ساعة، فجلست عند رأسه جارية وعند رجليه جارية، وبعد أن غلب عليه النوم تنبَّهَ وفتح عينيه، فسمع الجارية التي عند رأسه تقول للتي عند رجليه: ويلك يا خيزران! قالت لها: لأي شيء يا قضيب؟ قالت لها: إن سيدنا ليس عنده علم بما جرى، حتى إنه يسهر على قبر لم يكن فيه إلا خشبة منجَّرة صنعة النجار. فقالت لها الأخرى: وقوت القلوب أي شيء أصابها؟ فقالت: اعلمي أن السيدة زبيدة أرسلت مع جارية بنجًا وبنَّجتها، فلما تحكَّمَ البنج منها وضعتها في صندوق وأرسلتها مع صواب وكافور، وأمرتهما أن يرمياها في التربة. فقالت خيزران: ويلك يا قضيب! هل السيدة قوت القلوب لم تَمُتْ؟ فقالت: سلامة شبابها من الموت، ولكن أنا سمعت السيدة زبيدة تقول: إن قوت القلوب عند شاب تاجر اسمه غانم الدمشقي، وإن لها عنده بهذا اليوم أربعة أشهر، وسيدنا هذا يبكي ويسهر الليالي على قبرٍ لم يكن فيه ميت.
وصارتا تتحدثان بهذا الحديث والخليفة يسمع كلامهما، فلما فرغ الجاريتان من الحديث وعرف القضية، وأن هذا القبر زور، وأن قوت القلوب عند غانم بن أيوب مدة أربعة أشهر، غضب غضبًا شديدًا، وقام وأحضر أمراء دولته، فعند ذلك أقبَلَ الوزيرُ جعفر البرمكي، وقبَّلَ الأرضَ بين يديه، فقال له الخليفة بغيظ: انزل يا جعفر بجماعة واسأل عن بيت غانم بن أيوب، واهجموا على داره وائتوني بجاريتي قوت القلوب، ولا بد لي أن أعذِّبه. فأجابه جعفر بالسمع والطاعة. فعند ذلك نزل جعفر هو وأتباعه والوالي صحبته، ولم يزالوا سائرين إلى أن وصلوا إلى دار غانم، وكان غانم خرج في ذلك الوقت وجاء بقدرة لحم، وأراد أن يمد يده ليأكل منها هو وقوت القلوب، فلاحت التفاتة منها، فوجدَتِ البلاء أحاط بالدار، والوزير والوالي والظَّلَمَة والمماليك بسيوف مجردة، وداروا به كما يدور بالعين السواد، فعند ذلك عرفت أن خبرها وصل إلى الخليفة سيدها، فأيقنت بالهلاك، واصفرَّ لونها، وتغيَّرَتْ محاسنها. ثم إنها نظرت إلى غانم وقالت له: يا حبيبي، فِرَّ بنفسك. فقال لها: كيف أعمل وإلى أين أذهب، ومالي ورزقي في هذه الدار؟ فقالت له: لا تمكث لئلَّا تهلك ويذهب مالك. فقال لها: يا حبيبتي ونور عيني، كيف أصنع في الخروج وقد أحاطوا بالدار؟ فقالت له: لا تَخَفْ. ثم إنها نزعت ما عليه من الثياب، وألبسَتْه خلقانًا بالية، وأخذت القدر التي كان فيها اللحم ووضعَتْها فوق رأسه، وحطَّتْ فيها بعض خبز وزبدية طعام، وقالت له: اخرج بهذه الحيلة ولا عليك مني؛ فأنا أعرف أي شيء في يدي من الخليفة.
فلما سمع غانم كلام قوت القلوب وما أشارَتْ به عليه، خرج من بينهم وهو حامل القدر، وستر عليه الستار، ونجا من المكائد والأضرار ببركة نيته. فلما وصل الوزير جعفر إلى ناحية الدار ترجَّلَ عن حصانه ودخل البيت، ونظر إلى قوت القلوب وقد تزيَّنَتْ وتبهرَجَتْ وملأت صندوقًا من ذهب ومصاغ وجواهر وتحف ممَّا خَفَّ حمله وغلا ثمنه، فلما دخل عليها جعفر قامت على قدميها، وقبَّلَتِ الأرض بين يديه، وقالت له: يا سيدي، جرى القلم بما حكم الله. فلما رأى ذلك جعفر قال لها: والله يا سيدتي إنه ما أوصاني إلا بقبض غانم بن أيوب. فقالت: اعلم أنه حزم تجاراته، وذهب بها إلى دمشق، ولا علمَ لي بغير ذلك، وأريد أن تحفظ لي هذا الصندوق وتحمله إلى قصر أمير المؤمنين. فقال جعفر: السمع والطاعة. ثم أخذ الصندوق وأمر بحمله وقوت القلوب معهم إلى دار الخلافة وهي مكرَّمة معزَّزة.
وكان هذا بعد أن نهبوا دار غانم، توجَّهوا إلى الخليفة وحكى له جعفر جميع ما جرى، فأمر الخليفة لقوت القلوب بمكان مظلم وأسكنها فيه، وألزم بها عجوزًا لقضاء حاجتها؛ لأنه ظنَّ أن غانمًا فحش بها، ثم كتب مكتوبًا للأمير محمد بن سليمان الزيني وكان نائبًا في دمشق، ومضمونه: ساعة وصول المكتوب إلى يديك تقبض على غانم بن أيوب وترسله إليَّ. فلما وصل المرسوم إليه قبَّلَه ووضعه على رأسه، ونادى في الأسواق: مَن أراد أن ينهب فعليه بدار غانم بن أيوب. فجاءوا إلى الدار، فوجدوا أم غانم وأخته قد صنعتَا لهما قبرًا، وقعدتا عنده تبكيان، فقبضوا عليهما ونهبوا الدار، ولم يعلمَا ما الخبر. فلما أحضروهما عند السلطان سألهما عن غانم بن أيوب، فقالتا له: من مدة سنة ما وقفنا له على خبر. فردوهما إلى مكانهما.
هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر غانم بن أيوب المتيَّم المسلوب، فإنه لما سلبت نعمته تحيَّرَ في أمره، وصار يبكي على نفسه حتى انفطر قلبه، وسار ولم يزل سائرًا إلى آخِر النهار، وقد ازداد به الجوع، وأضَرَّ به المشي حتى وصل إلى بلد، فدخل المسجد وجلس على فرش، وأسند ظهره إلى حائط المسجد وارتمى وهو في غاية الجوع والتعب، ولم يزل مقيمًا هناك إلى الصباح، وقد خفق قلبه من الجوع، وركب جلده القمل، وصارت رائحته مُنْتِنَةً، وتغيَّرَتْ أحواله، فأتى أهل تلك البلدة يصلُّون الصبح، فوجدوه مطروحًا ضعيفًا من الجوع، وعليه آثار النعمة لائحة، فلما أقبلوا عليه وجدوه بردانَ جائعًا، فألبسوه ثوبًا عتيقًا قد بَلِيَتْ أكمامه، وقالوا له: من أين أنت يا غريب وما سبب ضعفك؟ ففتح عينه ونظر إليهم وبكى ولم يردَّ عليهم جوابًا. ثم إن بعضهم عرف شدة جوعه، فذهب وجاء له بسكرجة عسل ورغيفين فأكل، وقعدوا عنده حتى طلعت الشمس، ثم انصرفوا لأشغالهم.
ولم يزل على هذه الحالة شهرًا، وهو عندهم وقد تزايد عليه الضعف والمرض، فتعطَّفوا عليه وتشاوروا مع بعضهم في أمره، ثم اتفقوا على أن يوصلوه إلى المارستان الذي ببغداد، فبينما هم كذلك وإذا بامرأتين سائلتين قد دخلتَا عليه، وهما أمه وأخته، فلما رآهما أعطاهما الخبز الذي عند رأسه، ونامتا عنده تلك الليلة، ولم يعرفهما، فلما كان ثاني يوم أتاه أهل القرية وأحضروا جملًا، وقالوا لصاحبه: احمل هذا الضعيف فوق الجمل، فإذا وصلت إلى بغداد، فأنزَلَه على باب المارستان لعله يتعافى فيحصل لك الأجر. فقال لهم: السمع والطاعة. ثم إنهم أخرجوا غانم بن أيوب من المسجد، وحملوه بالفرش الذي هو نائم عليه فوق الجمل، وجاءت أمه وأخته يتفرجان عليه من جملة الناس، ولم يعلمَا به، ثم نظرتا إليه وتأمَّلَتْاه وقالتا: إنه يشبه غانمًا ابننا، فيا تُرَى هل هو هذا الضعيف أم لا؟ وأما غانم فإنه لم يُفِقْ إلا وهو محمول فوق الجمل، فصار يبكي وينوح، وأهل القرية ينظرون أمه وأخته تبكيان عليه ولم تعرفانه، ثم سافرت أمه وأخته إلى أن وصلتا إلى بغداد. وأما الجَمَّال فإنه لم يزل سائرًا به حتى أنزله على باب المارستان وأخذ جمله ورجع، فمكث غانم راقدًا هناك إلى الصباح، فلما درجت الناس في الطريق نظروا إليه وقد صار رِق الخلال، ولم يزل الناس يتفرجون عليه حتى جاء شيخ السوق ومنع الناس عنه، وقال: أنا أكسب الجنة بهذا المسكين؛ لأنهم متى أدخلوه المارستان قتلوه في يوم واحد. ثم أمر صبيانه بحمله فحملوه إلى بيته، وفرش له فرشًا جديدًا، ووضع له مخدة جديدة، وقال لزوجته: اخدميه بنصح. فقالت: على الرأس. ثم تشمَّرت وسخنت له ماء وغسلت يديه ورجليه وبدنه، وألبسته ثوبًا من لبس جواريها، وسقته قدح شراب، ورشَّت عليه ماء ورد، فأفاق وتذكَّرَ محبوبته قوت القلوب، فزادت به الكروب.
هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر قوت القلوب، فإنه لما غضب عليها الخليفة … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.