فلما كانت الليلة ٤٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن غانم بن أيوب لما أعجَبَ الخليفة بفصاحته ونظمه وعذوبة منطقه، قال له: ادنُ مني. فدنا منه، ثم قال له: اشرح لي قصتك، وأطلعني على حقيقة خبرك. فقعد وحدَّث الخليفة بما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، وليس في الإعادة إفادة، فلما علم الخليفة أنه صادق خلع عليه وقرَّبه إليه، وقال: أبرئ ذمتي. فأبرأ ذمته، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن العبد وما ملكت يداه لسيده. ففرح الخليفة بذلك، ثم أمر أن يُفرَد له قصرٌ، ورتَّب له من الجوامك والجرايات شيئًا كثيرًا، فنقل أمه وأخته إليه، وسمع الخليفة بأن أخته فتنة في الحُسْن فتنة، فخطبها منه، فقال له غانم: إنها جاريتك، وأنا مملوكك. فشكره وأعطاه مائة ألف دينار، وأتى بالقاضي والشهود وكتبوا الكتاب، ودخل هو وغانم في نهار واحد؛ فدخل الخليفة على فتنة، وغانم بن أيوب على قوت القلوب. فلما أصبح الصباح أمر الخليفة أن يُؤرَّخ جميع ما جرى لغانم من أوله إلى آخره، وأن يُدوَّن في السجلات لأجل أن يطَّلع عليه مَن يأتي بعده، فيتعجَّب من تصرفات الأقدار، ويفوِّض الأمر إلى خالق الليل والنهار.
حكاية الملك عمر النعمان مع ولدَيْه بشركان وضوء المكان
وليس هذا بأعجب من حكاية عمر النعمان وولده شركان وولده ضوء المكان، وما جرى لهم من العجائب والغرائب. قال الملك: وما حكايتهم؟
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه كان بمدينة دمشق قبل خلافة عبد الملك بن مروان ملكٌ يقال له عمر النعمان، وكان من الجبابرة الكبار، قد قهر الملوك الأكاسرة والقياصرة، وكان لا يُصطلى له بنار، ولا يجاريه أحد في مضمار، وإذا غضب يخرج من منخريه لهيب النار، وكان قد ملك جميع الأقطار، ونفذ حكمه في سائر القرى والأمصار، وأطاع اللهُ له جميعَ العباد، ووصلت عساكره إلى أقصى البلاد، ودخل في حكمه المشرق والمغرب، وما بينهما من الهند والسند والصين، واليمن والحجاز والحبشة والسودان، والشام والروم وديار بكر وجزائر البحار، وما في الأرض من مشاهير الأنهار، كسيحون وجيحون والنيل والفرات، وأرسل رُسُلَه إلى أقصى العمار ليأتوه بحقيقة الأخبار، فرجعوا وأخبروه بأن سائر الناس أذعنت لطاعته، وجميع الجبابرة خضعت لهيبته، وقد عَمَّهُم بالفضل والامتنان، وأشاع بينهم العدل والأمان؛ لأنه كان عظيم الشأن، وحُمِلَتْ إليه الهدايا من كل مكان، وجُبِيَ إليه خراج الأرض في طولها والعرض.
وكان له ولد قد سمَّاه شركان؛ لأنه نشأ آفةً من آفات الزمان، وقهر الشجعان، وأباد الأقران؛ فأحبه والده حبًّا شديدًا ما عليه من مزيد، وأوصى له بالمُلْك من بعده. ثم إن شركان هذا حين بلغ مبلغ الرجال، وصار له من العمر عشرون سنة أطاع اللهُ له جميعَ العباد؛ لما به من شدة البأس والعناد، وكان والده عمر النعمان له أربع نساء بالكتاب والسُّنَّة، لكنه لم يُرزَق منهن بغير شركان، وهو من إحداهن، والباقي عواقر لم يُرزَق من واحدة منهن بولد، ومع ذلك كان له ثلاثمائة وستون سريَّة على عدد أيام السنة القبطيَّة، وتلك السراري من سائر الأجناس، وكان قد بنى لكل واحدة منهن مقصورة، وكانت المقاصير من داخل القصر، فإنه بنى اثني عشر قصرًا على عدد شهور السنة، وجعل في كل قصر ثلاثين مقصورة، فكانت جملة المقاصير ثلاثمائة وستين مقصورة، وأسكَنَ تلك الجواري في هذه المقاصير، وفرَضَ لكل سريَّة منهن ليلة يبيت عندها، وما يأتيها إلا بعد سنة كاملة؛ فأقام على ذلك مدةً من الزمان، ثم إن ولده شركان اشتهر في سائر الآفاق، ففرح به والده وازداد قوةً، فطغى وتجبَّرَ وفتح الحصون والبلاد، واتفق بالأمر المقدر أن جارية من جواري عمر النعمان قد حملت واشتهر حملها، وعلم الملك بذلك، ففرح فرحًا شديدًا وقال: لعل ذريتي ونسلي تكون كلها ذكورًا. فأرَّخَ يوم حملها، وصار يُحسِن إليها، فعلم شركان بذلك فاغتمَّ وعظم عليه الأمر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.