فلما كانت الليلة ٤٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما قالت لذات الدواهي: بحق المسيح أتصارعينني حقيقة؟ قالت لها: أصارعك حقيقة. قالت لها: قومي للصراع إن كان لك قوة. فلما سمعت العجوز منها ذلك، اغتاظت غيظًا شديدًا، وقام شعر بدنها كأنه شعر قنفذ، وقامت لها الجارية، فقالت لها العجوز: وحقِّ المسيح لن أصارعك إلا وأنا عريانة يا فاجرة. ثم إن العجوز أخذت منديلًا حريرًا بعد أن فكت لباسها، وأدخلت يديها تحت ثيابها، ونزعتها من فوق جسدها، ولمت المنديل وشدته في وسطها، فصارت كأنها عفريتة معطاء أو حية رقطاء، ثم انحنت على الجارية، وقالت لها: افعلي كفعلي. كل هذا وشركان ينظر إليهما، ثم إن شركان صار يتأمل في تشويه صورة العجوز ويضحك، ثم إن العجوز لما فعلت ذلك، قامت الجارية على مهل، وأخذت فوطة يمانية وثنتها مرتين، وشمرت سراويلها فبان لها ساقان من المرمر، وفوقهما كثيب من البلور ناعم مربرب، وبطن يفوح المسك من أعكانه، كأنه مصفح بشقائق النعمان، وصدر فيه نهدان كفحلي رمان، ثم انحنَتْ عليها العجوز وتماسَكَا ببعضهما، فرفع شركان رأسه إلى السماء ودعا الله أن الجارية تغلب العجوز، فدخلت الجارية تحت العجوز، ووضعت يدها الشمال في شقتها، ويدها اليمين في رقبتها مع حلقها، ورفعتها على يديها، فانفلتت العجوز من يديها، وأرادت الخلاص فوقعت على ظهرها، فارتفعت رجلاها إلى فوق، فبانت شعرتها في القمر، ثم ضرطت ضرطتين عفرت إحداهما في الأرض، ودخنت الأخرى في السماء؛ فضحك شركان منهما حتى وقع على الأرض، ثم قام وسلَّ حسامه، والتفت يمينًا وشمالًا، فلم يَرَ أحدًا غير العجوز مرمية على ظهرها، فقال في نفسه: ما كذب مَن سمَّاكِ ذات الدواهي.
ثم تقرَّبَ منهما ليسمع ما يجري بينهما، فأقبلت الجارية ورمت على العجوز ملاءة من حرير رفيعة، وألبستها ثيابها واعتذرت إليها، وقالت لها: يا سيدتي ذات الدواهي، ما أردتُ إلا صرعك لا جميع ما حصل لك، ولكن أنت انفلتِّ من بين يدي، فالحمد لله على السلامة. فلم تردَّ عليها جوابًا، فقامت تمشي من خجلها، ولم تزل ماشيةً إلى أن غابت عن البصر، وصارت الجواري مكتَّفات مرميات، والجارية واقفة وحدها، فقال شركان في نفسه: لكل رزق سبب، ما غلب عليَّ النوم، وسار بي الجواد إلى هذا المكان إلا لبختي، فلعل هذه الجارية وما معها تكون غنيمة لي. ثم ركب جواده، ولكزه ففرَّ به كالسهم إذا فرَّ من القوس، وبيده حسامه مجرَّد من غلافه، ثم صاح: الله أكبر. فلما رأته الجارية نهضَتْ قائمةً، وحطَّتْ قدمَيْها على جانب النهر، وكان عرضه ستة أذرع، ووثبَتْ فصارت على جانبه الآخَر، ثم قامت على رجليها ونادت برفيع صوتها: مَن أنت يا هذا؟ لأنك قطعت سرورنا، وحين جرَّدْتَ حسامك صرْتَ كأنك قد حملت في عساكر. من أين أنت؟ وإلى أين تذهب؟ فاصدق في مقالك فإن الصدق أنفع لك، ولا تكذب فإن الكذب من أخلاق اللئام، ولا شك أنك تهتَ في هذه الليلة عن الطريق حتى جئتَ إلى هذا المكان الذي خلاصك فيه أكبر الغنيمات. واعلم أنك في مرج، لو صرخنا فيه صرخة واحدة لجاء إلينا أربعة آلاف بطريق، فقُلْ لنا ما الذي تريد؟ فإن أردتَ أن نرشدك إلى الطريق أرشدناك، وإنْ أردتَ الرِّفْد أرفدناك.
فلما سمع شركان كلامها قال لها: أنا رجل غريب من المسلمين، وقد سرت في هذه الليلة منفردًا بنفسي أطلب غنيمةً أغتنمها، فلم أجد غنيمةً أحسن من هؤلاء الجواري العشر في هذه الليلة المقمرة، فآخذهن وأرجع بهنَّ إلى أصحابي. فقالت له الجارية: اعلم أن الغنيمة ما وصلتَ إليها، والجواري واللهِ ما هنَّ غنيمتك، أَمَا قلتُ لك إن الكذب شين؟ فقال لها: إن السعيد الذي يكتفي بالله عن غيره؟ فقالت له: وحقِّ المسيح، لولا أني أخاف أن يكون هلاكك على يديَّ، لَكنتُ صحتُ صيحة ملأت عليك الأرض خيلًا ورجالًا، ولكن أنا أشفق على الغرباء، وإن أردتَ الغنيمة فأنا أطلب منك أن تنزل عن جوادك وتحلف لي بدينك أنك لا تتقرب إليَّ بشيء من السلاح وأتصارع أنا وأنت، فإن صرعتَني فضعني على جوادك وخذنا كلنا غنيمةً، وإن صرعتُك أتحكَّم فيك؛ فاحلف لي، فإني أخاف من غدرك، وقد ورد في الأخبار: إذا كان الغدر طباعًا فإن الثقة بكل أحد عجز. فإن حلفتَ لي عديتُ إليك وأتيتك وجئت عندك. فطمع شركان في أخذها وقال في نفسه: إنها تعرف أني بطل من الأبطال. ثم ناداها وقال لها: حلِّفيني بما تثقين به إني لا أقربك بشيء حتى تأخذي أهبتك وتقولي ادنُ مني لأصارعك، فحينئذٍ أتقرَّب منكِ، فإن صرعتِني فإن لي من المال ما أشتري به نفسي، وإنْ صرعتُكِ أنا فهي الغنيمة الكبرى. فقالت الجارية: أنا رضيت بذلك.
فتحيَّر شركان في ذلك وقال: وحقِّ النبي ﷺ رضيت أنا الآخَر. فقالت له: احلف الآن بمَن ركَّب الأرواح في الأجساد وشرَّع لنا الشرائع. فحلف لها بما وثقَتْ به من الأيمان، فرضيت بذلك، ثم إنها وثبت فصارت في الجانب الآخَر من جانبي النهر وقالت لشركان وهي تضحك: يعزُّ عليَّ فراقُك يا مولاي، اذهب إلى أصحابك قبل الصباح لئلا يأتيك البطارقة فيأخذوك على أسنة الرماح، وأنت ما فيك قوة لدفع النسوان، فكيف تدافع الرجال الفرسان؟! فتحيَّرَ شركان في نفسه، وقال لها وقد ولَّتْ عنه مُعرِضةً تقصد الدير: يا سيدتي، أتذهبين وتتركين المتيَّم الغريب المسكين الكسير القلب؟ فالتفتَتْ إليه وهي تضحك، ثم قالت له: ما حاجتك؟ فإني أجيب دعوتك. فقال: كيف أطأ أرضك، وأتحلى بحلاوة لطفك، وارجع بلا أكل من طعامك، وقد صرت من بعض خَدَمك؟ فقالت: لا يأبى الكرامة إلا لئيم، تفضَّلْ باسم الله على الرأس والعين، واركب جوادك وسِرْ على جانب النهر مقابلي فأنت في ضيافتي.
ففرح شركان، وبادر إلى جواده وركب وما زال ماشيًا مقابلها، وهي سائرة قبالته إلى أن وصل إلى جسر معمول بأخشاب من الحور، وفيه بكر بسلاسل من البولاد، وعليها أقفال في كلاليب، فنظر شركان إلى ذلك الجسر، وإذا بالجواري اللاتي كن معها في المصارعة قائمات ينظرن إليها. فلما أقبلت عليهن كلَّمَتْ جارية منهن بلسان الرومية، وقالت لها: قومي إليه وأمسكي عنان جواده، ثم سيري به إلى الدير. فسار شركان وهي قدامه إلى أن عدَّى الجسر، وقد اندهش عقله مما رأى، وقال في نفسه: يا ليت الوزير دندان كان معي في هذا المكان، وتنظر عيناه إلى تلك الجواري الحسان. ثم التفت إلى تلك الجارية وقال لها: يا بديعة الجمال، قد صار لي عليك الآن حرمتان: حرمة الصحبة، وحرمة سيري إلى منزلك وقبول ضيافتك، وقد صرت تحت حكمك وفي عهدك، فلو أنك تنعمين عليَّ بالمسير إلى بلاد الإسلام، وتتفرجين على كل أسد ضرغام، وتعرفين مَن أنا. فلما سمعت كلامه اغتاظت وقالت له: وحق المسيح لقد كنتَ عندي ذا عقل ورأي، ولكني اطَّلعت الآن على ما في قلبك من الفساد، وكيف يجوز لك أن تتكلم بكلمة تنسب بها إلى الخداع؟ كيف أصنع هذا وأنا أعلم متى حصلت عند ملككم عمر النعمان لا أخلص منه؛ لأنه في صورة مثلي؟ ولو كان صاحب بغداد وخراسان، وبنى له اثني عشر قصرًا، في كل قصر ثلاثمائة وستون جارية على عدد أيام السنة، والقصور عدد أشهر السنة، فإن حصل عنده فزع مني؛ لأن اعتقادكم أنه يحل لكم التمتع بمثلي كما في كتبكم حيث قيل فيها: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فكيف تكلمني بهذا الكلام؟
وأما قولك: وتتفرجين على شجعان المسلمين. فوَحَقِّ المسيح إنك قلت قولًا غير صحيح، فإني رأيت عسكركم لما استقبلتم أرضنا وبلادنا في هذين اليومين، فلما أقبلتم لم أَرَ تربيتكم تربية ملوك، وإنما رأيتكم طوائف مجتمعة.
وأما قولك: تعرفين مَن أنا؟ فأنا لا أصنع معك جميلًا لأجل إجلالك، وإنما أفعل ذلك لأجل الفخر، ومثلك لا يقول لمثلي ذلك، ولو كنت شركان بن الملك عمر النعمان الذي ظهر في هذا الزمان. فقال شركان في نفسه: لعلها عرفَتْ قدومَ العساكر وعرفت عدتهم، وأنهم عشرة آلاف فارس، وعرفت أن والدي أرسلهم معي لنصرة ملك القسطنطينية. ثم قال شركان: يا سيدتي، أقسمت عليك بمَن تعتقدين من دينك أن تحدِّثيني بسبب ذلك، حتى يظهر لي الصدق من الكذب، ومَن يكون عليه وَبَالُ ذلك؟ فقالت له: وحَقِّ ديني لولا أني خفتُ أن يشيع خبري من أني بنات الروم، لَكنتُ خاطرتُ بنفسي، وبارزتُ العشرة آلاف فارس، وقتلتُ مقدمهم الوزير دندان، وظفرت بفارسهم شركان، وما كان عليَّ من ذلك عار، ولكني قرأت الكتب وتعلَّمْتُ الأدب من كلام العرب، ولست أصف لك نفسي بالشجاعة مع أنك رأيت مني العلامة والصناعة، والقوة في الصراع والبراعة، ولو حضر شركان مكانك في هذه الليلة وقيل له: نط هذا النهر. لَأذعن واعترف بالعجز، وإني أسأل المسيح أن يرميه بين يدي في هذا الدير حتى أخرج له في صفة الرجال وآسره، وأجعله في الأغلال. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.