فلما كانت الليلة ٤٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية ما زالت تشرب وتسقي شركان إلى أن غاب عن رشده من الشراب، ومن سكر محبتها، ثم إنها قالت لجارية: يا مرجانة، هات لنا شيئًا من آلات الطرب. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم غابت لحظةً وأتت بعود جلقي، وجنك عجمي، وناي تتري، وقانون مصري، فأخذت الجارية العود وأصلحته، وشدت أوتاره، وغنت عليه بصوت رخيم أرق من النسيم، وأعذب من ماء التسنيم، وأنشدت مطربة بهذه الأبيات:
ثم قامت كل واحدة من الجواري، ومعها آلتها، وأنشدت تقول عليها أبياتًا بلسان الرومية؛ فطرب شركان، ثم غنت الجارية سيدتهن أيضًا، وقالت: يا مسلم، أَمَا فهمتَ ما أقول؟ قال: لا، ولكن ما طربت إلا على حُسْن أناملك. فضحكت وقالت له: إن غنيتُ لك بالعربية ماذا تصنع؟ فقال: ما كنت أتمالك عقلي. فأخذت آلة الطرب وغيَّرَتِ الضربَ، وأنشدت هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها نظرت إلى شركان فوجدته قد غاب عن وجوده، ولم يزل مطروحًا بينهن ممدودًا ساعة، ثم أفاق وتذكَّر الغناء، فمال طربًا. ثم إن الجارية أقبلت هي وشركان على الشراب، ولم يزالا في لعب ولَهْوٍ إلى أن ولى النهار بالرواح، ونشر الليل الجناح، فقامت إلى مرقدها فسأل شركان عنها، فقالوا له: إنها مضت إلى مرقدها. فقال: في رعاية الله وحفظه. فلما أصبح الصباح أقبلَتْ عليه الجارية، وقالت له: إن سيدتي تدعوك إليها. فقام معها وسار خلفها، فلما قرُب من مكانها زفَّته الجواري بالدفوف والمغاني إلى أن وصل إلى باب كبير من العاج مرصَّع بالدرِّ والجوهر، فلما دخلوا منه وجد دارًا كبيرة أيضًا، وفي صدرها إيوان كبير مفروش بأنواع الحرير، وبدائر ذلك الإيوان شبابيك مفتحة مطلَّة على أشجار وأنهار، وفي البيت صور مجسَّمة يدخل فيها الهواء، فتتحرك في جوفها آلات، فيتخيَّل للناظر أنها تتكلم، والجارية جالسة تنظر إليهم، فلما نظرته الجارية نهضت قائمة إليه، وأخذت يده وأجلسته بجانبها، وسألته عن مبيته، فدعا لها، ثم جلسا يتحدثان. فقالت له: أتعرف شيئًا ممَّا يتعلق بالعاشقين والمتيَّمين؟ فقال: نعم، أعرف شيئًا من الأشعار. فقالت: أَسْمِعني. فأنشد هذه الأبيات:
فلما سمعته قالت: لقد كان كثيِّر باهر الفصاحة، بارع البلاغة؛ لأنه بالَغَ في وصفه لعزة حيث قال — وأنشدَتْ هذين البيتين:
ثم قالت: وقيل إن عزة كانت في نهاية الحسن والجمال. ثم قالت له: يا ابن الملك، إن كنت تعرف شيئًا من كلام جميل فأنشدنا منه. قال: إني أَعْرَفُ به من كل واحد. ثم أنشد من شعر جميل هذا البيت:
فلما سمعت ذلك قالت له: أحسنت يا ابن الملك. ما الذي أرادته عزة بجميل حتى قال هذا الشطر؛ أي تريدين قتلي لا تريدين غيره. فقال لها شركان: يا سيدتي، لقد أرادت به ما تريدين مني ولا يرضيك. فضحكت لما قال لها شركان هذا الكلام، ولم يزالا يشربان إلى أن ولَّى النهار، وأقبل الليل بالاعتكار، فقامت الجارية وذهبت إلى مرقدها، ونامت ونام شركان في مرقده إلى أن أصبح الصبح. فلما أفاق أقبلت عليه الجواري بالدفوف، وآلات الطرب على العادة، وقبَّلن الأرض بين يديه، وقلن له: تفضَّلْ، فإن سيدتنا تدعوك إلى الحضور عندها. فقام شركان ومشى والجواري حوله يضربن بالدفوف والآلات، إلى أن خرج من تلك الدار ودخل دارًا غيرها أعظم من الدار الأولى، وفيها من التماثيل وصور الطيور ما لا يُوصَف؛ فتعجَّبَ شركان ممَّا رأى من صنع ذلك المكان، فأنشد هذه الأبيات:
فلما رأت الجارية شركان قامت له، وأخذت يده وأجلسته إلى جانبها، وقالت له: أنت ابن الملك عمر النعمان، فهل تُحسِن لعب الشطرنج؟ فقال: نعم، ولكن لا تكوني كما قال الشاعر:
ثم قدَّمَتْ له الشطرنج ولعبت معه، فصار شركان كلما أراد أن ينظر إلى نقلها نظر إلى وجهها، فيضع الفرس موضع الفيل، ويضع الفيل موضع الفرس؛ فضحكت وقالت: إن كان لعبك هكذا فأنت لا تعرف شيئًا. فقال: هذا أول دست لا تحسبيه. فلما غلبته رجع وصَفَّ القِطَع، ولعب معها فغلبته ثانيًا وثالثًا ورابعًا وخامسًا، ثم التفتت إليه وقالت له: أنت في كل شيء مغلوب. فقال: يا سيدتي، مع مثلك يحسن أن أكون مغلوبًا. ثم أمرت بإحضار الطعام فأكلا وغسلا أيديهما، وأمرت بإحضار الشراب فشَرِبَا، وبعد ذلك أخذت القانون، وكان لها بضرب القانون معرفة جيدة، فأنشدت هذه الأبيات:
ثم إنهما لم يزالا على ذلك إلى أن دخل الليل، فكان ذلك اليوم أحسن من اليوم الذي قبله، فلما أقبل الليل مضت الجارية إلى مرقدها، وانصرف شركان إلى موضعه، فنام إلى الصباح، ثم أقبلت عليه الجواري بالدفوف وآلات الطرب، وأخذوه على العادة إلى أن وصلوا إلى الجارية، فلما رأته نهضت قائمة، وأمسكته من يده وأجلسته بجانبها، وسألته عن مبيته، فدعا لها بطول البقاء، ثم أخذت العود وأنشدت هذين البيتين:
فبينما هما على هذه الحالة، وإذا هما بضجة؛ فالتفتا فرأيا رجالًا وشبانًا مُقبِلين وغالبهم بطارقة، وبأيديهم السيوف مسلولة تلمع، وهم يقولون بلسان الرومية: وقعت عندنا يا شركان، فأيقن بالهلاك. فلما سمع شركان هذا الكلام قال في نفسه: لعل هذه الجارية الجميلة خدعتني، وأمهلتني إلى أن جاء رجالها، وهم البطارقة الذين خوَّفتني بهم، ولكن أنا الذي جنيتُ على نفسي، وألقيتُها في الهلاك. ثم التفَتَ إلى الجارية ليعاتبها، فوجد وجهها قد تغيَّرَ بالاصفرار، ثم وثبت على قدمَيْها وهي تقول لهم: مَنْ أنتم؟ فقال لها البطريق المقدَّم عليهم: أيتها الملكة الكريمة والدرة اليتيمة، أَمَا تعرفين الذي عندك مَن هو؟ قالت له: لا أعرفه، فمَن هو؟ فقال لها: هذا مخرِّب البلدان وسيد الفرسان، هذا شركان ابن الملك عمر النعمان، هذا الذي فتح القلاع، وملك كل حصن مناع، وقد وصل خبره إلى الملك حردوب والدك من العجوز ذات الدواهي، وتحقَّقَ ذلك والدك ملكنا نقلًا عن العجوز، وها أنت قد نصرت عسكر الروم بأخذ هذا الأسد المشئوم.
فلما سمعَتْ كلامَ البطريق نظرت إليه، وقالت له: ما اسمك؟ قال لها: اسمي ماسورة ابن عبدك موسورة بن كاشرده بطريق البطارقة. قالت له: كيف دخلت عليَّ بغير إذني؟ فقال لها: يا مولاتي، إني لما وصلت إلى الباب ما منعني حاجب ولا بوَّاب، بل قام جميع البوابين ومشوا بين أيدينا، كما جرت به العادة أنه إذا جاء أحد غيرنا يتركونه واقفًا على الباب حتى يستأذنوا عليه بالدخول، وليس هذا وقت إطالة الكلام، والملك منتظر رجوعنا إليه بهذا الملك الذي هو شرارة جمرة عسكر الإسلام؛ لأجل أن يقتله، ويرحل عسكره إلى الموضع الذي جاءوا منه من غير أن يحصل لنا تعب في قتالهم. فلما سمعت الجارية منه هذا الكلام قالت له: إن هذا الكلام غير حسن، ولكن قد كذبت العجوز ذات الدواهي، فإنها قد تكلَّمت بكلام باطل لا تعلم حقيقته، وحقِّ المسيح إن الذي عندي ما هو شركان ولا أسرته، ولكنه رجل أتى إلينا، وقدِم علينا وطلب الضيافة فأضفناه، فإن تحقَّقْنا أنه شركان بعينه، وثبت عندنا أنه هو من غير شك، فلا يليق بمروءتي أني أمكِّنكم منه؛ لأنه دخل تحت عهدي وذمتي، فلا تخونوني في ضيفي، ولا تفضحوني بين الأنام، بل ارجع أنت إلى الملك أبي، وقبِّل الأرض بين يديه، وأخبره بأن الأمر بخلاف ما قالته العجوز ذات الدواهي. فقال البطريق ماسورة: يا إبريزة، أنا ما أقدر أن أعود إلى الملك إلا بغريمه. فقالت له وقد اغتاظت: ويلك! ما يخصك بهذا الكلام؟! ارجع أنت إليه بالجواب ولا عليك ملام. فقال لها ماسورة: لا أعود إلا به. فتغيَّر لونها وقالت له: لا تكن كثير الكلام والهذيان؛ فإن هذا الرجل ما دخل علينا إلا وهو واثق من نفسه أنه يحمل على مائة فارس وحده، ولو قلتُ له: أنت شركان بن عمر النعمان، ويقول: نعم. ولا يمكنكم أن تتعرضوا له؛ فإن تعرضتم له لا يرجع عنكم إلا إنْ قتل جميع مَن كان في هذا المكان، وها هو عندي، وها أنا أحضره بين أيديكم وسيفه وترسه معه. فقال لها البطريق ماسورة: أنا إذا أمنت من غضبك لم آمن من غضب أبيك، وإني إذا رأيته أشير إلى البطارقة فإنهم يأخذونه أسيرًا ويمضون به إلى الملك حقيرًا. فلما سمعت هذا الكلام قالت: لا كان هذا الأمر، فإنه عنوان للسفه؛ لأن هذا رجل واحد وأنتم مائة بطريق، فإذا أردتم مصادمته، فابرزوا له واحدًا بعد واحد ليظهر عند الملك مَن هو البطل منكم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.