فلما كانت الليلة ٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك يونان قال لوزيره: أيها الوزير، أنت دخلك الحسد من أجل هذا الحكيم فتريد أن أقتله، وبعد ذلك أندم كما ندم الملك السندباد على قتل الباز. فقال الوزير: وكيف كان ذلك؟ فقال الملك: ذُكِر أنه كان ملك ملوك الفرس يحب الفرجة والتنزُّه والصيد والقنص، وكان له باز ربَّاه ولا يفارقه ليلًا ولا نهارًا، ويبيت طول الليل حامله على يده، وإذا طلع إلى الصيد يأخذه معه وهو عامل له طاسة من الذهب معلَّقة في رقبته يسقيه منها، فبينما الملك جالس وإذا بالوكيل على طير الصيد يقول: يا ملك الزمان، هذا أوان الخروج إلى الصيد. فاستعد الملك للخروج، وأخذ البازي على يده، وساروا إلى أن وصلوا إلى وادٍ، ونصبوا شبكةَ الصيد، وإذا بغزالة وقعت في تلك الشبكة، فقال الملك: كلُّ مَن فاتت الغزالة من جهته قتلتُه. فضيَّقوا عليها حلقةَ الصيد، وإذا بالغزالة أقبلت على الملك، وشبت على رجلَيْها، وحطت يديها على صدرها كأنها تُقَبِّلُ الأرضَ للملك، فطأطأ الملك للغزالة، ففرَّت من فوق دماغه، وراحت إلى البر، فالتفت الملك إلى العسكر فرآهم يتغامزون عليه، فقال: يا وزير، ماذا يقول العساكر؟ فقال: يقولون: إنك قلتَ كل مَن فاتت الغزالة من جهته يُقتَل. فقال الملك: وحياة رأسي لأتبعنها حتى أجيء بها. ثم طلع الملك في إثر الغزالة، ولم يزل وراءها، وصار البازي يلطشها على عينيها إلى أن أعماها ودوَّخها، فسحب الملك دبوسًا وضربها فقلبها، ونزل فذبحها وسلخها، وعلَّقها في قربوس السرج، وكانت ساعة حَرٍّ، وكان المكان قفرًا لم يوجد فيه ماء، فعطش الملك وعطش الحصان، فالتفت الملك فرأى شجرةً ينزل منها ماء مثل السمن، وكان الملك لابسًا في كفه جلدًا، فأخذ الطاسة من قبة البازي، وملأها من ذلك الماء، ووضع الماء قدامه، وإذا بالبازي لطش الطاسة فقلبها، فأخذ الملك الطاسة ثانيًا وملأها، وظن أن البازي عطشان فوضعها قدامه فلطشها ثانيًا وقلبها، فغضب الملك من البازي، وأخذ الطاسةَ ثالثًا وقدَّمها للحصان فقلبها البازي بجناحه، فقال الملك: الله يخيِّبك يا أشأم الطيور، حرمتني من الشرب، وحرمت نفسك، وحرمت الحصان. ثم ضرب البازي بالسيف، فرمى أجنحته فصار البازي يقيم رأسه، ويقول بالإشارة: انظر الذي فوق الشجرة، فرفع الملك عينه فرأى فوق الشجرة حية، والذي يسيل سمها، فندم الملك على قصِّ أجنحة البازي، ثم قام وركب حصانه، وسار ومعه الغزالة حتى وصل إلى مكانه الأول، فألقى الغزالة إلى الطبَّاخ، وقال له: خذها واطبخها. ثم جلس الملك على الكرسي، والبازي على يده، فشهق البازي ومات، فصاح الملك حزنًا: وا أسفَا على قتل البازي! حيث خلَّصه من الهلاك، هذا ما كان من حديث الملك السندباد.
فلما سمع الوزير كلام الملك يونان قال له: أيها الملك العظيم الشأن، وما الذي فعلته من الضرورة، ورأيتَ منه سوءًا؟ إنما أفعل معك هذا شفقةً عليك، وستعلم صحةَ ذلك، فإن قبلتَ مني نجوتَ وإلا هلكتَ، كما هلك وزير كان احتال على ابن ملك من الملوك؛ كان لذلك الملك ولد مولع بالصيد والقنص، وكان له وزيرٌ، فأمر الملك ذلك الوزيرَ أن يكون مع ابنه أينما توجَّه، فخرج يومًا من الأيام إلى الصيد والقنص، وخرج معه وزير أبيه، فساروا جميعًا فنظرا إلى وحش كبير، فقال الوزير لابن الملك: دونك هذا الوحش فاطلبه، فقصده ابن الملك حتى غاب عن العين، وغاب عنه الوحش في البَرِّيَّة، وتحيَّرَ ابن الملك، فلم يعرف أين يذهب، وإذا بجاريةٍ على رأس الطريق وهي تبكي، فقال لها ابن الملك: مَن أنت؟ قالت: بنتُ ملكٍ من ملوك الهند، وكنت في البرية فأدركني النعاس، فوقعت من فوق الدابة، ولم أعلم بنفسي فصرتُ منقطعة حائرة.
فلما سمع ابن الملك كلامها رَقَّ لحالها، وحملها على ظهر دابته، وأردفها وسار حتى مرَّ بجزيرةٍ، فقالَتْ له الجاريةُ: يا سيدي، أريد أن أزيل ضرورة. فأنزلها إلى الجزيرة، ثم تعوقت فاستبطأها، فدخل خلفها وهي لا تعلم به، فإذا هي غولة وهي تقول لأولادها: يا أولادي، قد أتيتكم اليومَ بغلام سمين. فقالوا لها: ائتينا به يا أمنا نأكله في بطوننا. فلما سمع ابن الملك كلامهم أيقن بالهلاك، وارتعدت فرائصه، وخشي على نفسه ورجع، فخرجت الغولة فرأته كالخائف الوجل وهو يرتعد، فقالت له: ما بالك خائفًا؟ فقال لها: إن لي عدوًّا وأنا خائف منه. فقالت الغولة: إنك تقول أنا ابن الملك. قال لها: نعم. قالت له: ما لك لا تعطي عدوك شيئًا من المال فترضيه به؟ فقال لها: إنه لا يرضى بمال، ولا يرضى إلا بالروح، وأنا خائف منه، وأنا رجل مظلوم. فقالت له: إن كنتَ مظلومًا كما تزعم، فاستعِنْ بالله عليه؛ فإنه يكفيك شرَّه وشرَّ جميع ما تخافه. فرفع ابن الملك رأسه إلى السماء وقال: يا مَن يجيب دعوةَ المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، انصرني على عدوي، واصرفه عني؛ إنك على ما تشاء قدير.
فلما سمعَتِ الغولة دعاءه انصرفت عنه وانصرف ابن الملك إلى أبيه، وحدَّثَه بحديث الوزير، وأنت أيها الملك متى آمنت لهذا الحكيم قتلك أقبح القتلات، وإن كنتَ أحسنتَ إليه وقرَّبته منك؛ فإنه يدبر في هلاكك، أَمَا ترى أنه أبرأك من المرض من ظاهر الجسد بشيء أمسكته بيدك، فلا تأمن أن يُهلِكَك بشيء تمسكه أيضًا. فقال الملك يونان: صدقتَ، فقد يكون كما ذكرتَ أيها الوزير الناصح، فلعل هذا الحكيم أتى جاسوسًا في طلب هلاكي، وإذا كان أبرأني بشيء أمسكتُه بيدي، فإنه يقدر أن يهلكني بشيء أشمه. ثم إن الملك يونان قال لوزيره: أيها الوزير، كيف العمل فيه؟ فقال له الوزير: أرسل إليه في هذا الوقت واطلبه، فإنْ حضر فاضرب عنقه؛ فتُكفَى شره وتستريح منه، واغدر به قبل أن يغدر بك. فقال الملك يونان: صدقتَ أيها الوزير. ثم إن الملك أرسل إلى الحكيم فحضر وهو فرحان، ولا يعلم ما قدَّرَه الرحمن، كما قال بعضهم في المعنى:
وأنشد الحكيم مخاطبًا للملك قولَ الشاعر:
وأيضًا في المعنى:
وأيضًا في المعنى:
وأيضًا في المعنى:
فلما حضر الحكيم رويان قال له الملك: أتعلم لماذا أحضرتك؟ فقال الحكيم: لا يعلم الغيب إلا الله تعالى. فقال له الملك: أحضرتك لأقتلك وأعدمك روحك. فتعجَّبَ الحكيمُ رويان من تلك المقالة غاية العجب، وقال: أيها الملك، لماذا تقتلني؟ وأي ذنب بَدَا مني؟ فقال له الملك: قد قيل لي إنك جاسوس، وقد أتيتَ لتقتلني، وها أنا أقتلك قبل أن تقتلني. ثم إن الملك صاح على السياف وقال له: اضرب رقبة هذا الغدار، وأَرِحْنا من شرِّه. فقال الحكيم: أَبْقِني يُبْقِيك الله، ولا تقتلني يقتلك الله. ثم إنه كرَّرَ عليه القول مثل ما قلت لك أيها العفريت، وأنت لا تدعني، بل تريد قتلي. فقال الملك يونان للحكيم رويان: إني لا آمن إلا إن قتلتك، فإنك أبرأتني بشيء أمسكته بيدي، فلا آمن أن تقتلني بشيء أشمه، أو غير ذلك. فقال الحكيم: أيها الملك، أهذا جزائي منك، تقابل المليح بالقبيح؟! فقال الملك: لا بد من قتلك من غير مهلة. فلما تحقَّقَ الحكيم أن الملك قاتِلُه ولا محالةَ، بكى وتأسَّفَ على ما صنع من الجميل مع غير أهله، كما قيل في المعنى:
وبعد ذلك تقدَّم السيَّافُ، وغمَّى عينَيْه، وشهر سيفه، وقال: ائذَنْ. والحكيم يبكي، ويقول للملك: أبقني يُبْقِك الله، ولا تقتلني يقتلك الله. وأنشد قول الشاعر:
ثم إن الحكيم قال للملك: أيكون هذا جزائي منك فتجازيني مجازاة التمساح؟! قال الملك: وما حكاية التمساح؟ فقال الحكيم: لا يمكنني أن أقولها وأنا في هذه الحال، فبالله عليك أبقني يُبْقِك الله. ثم إن الحكيم بكى بكاءً شديدًا، فقام بعض خواص الملك، وقال: أيها الملك، هَبْ لي دمَ هذا الحكيم؛ لأننا ما رأيناه فعَلَ معك ذنبًا، وما رأيناه إلا أبرأك من مرضك الذي أعيا الأطباء والحكماء. فقال لهم الملك: لم تعرفوا سببَ قتلي لهذا الحكيم؛ وذلك لأني إن أبقيته فأنا هالك لا محالة، ومَن أبرأني من المرض الذي كان بي بشيء أمسكته بيدي، فيمكنه أن يقتلني بشيء أشمه، فأنا أخاف أن يقتلني، ويأخذ عليَّ جعالة؛ لأنه ربما كان جاسوسًا، وما جاء إلا ليقتلني، فلا بد من قتله، وبعد ذلك آمن على نفسي. فقال الحكيم: أبقني يُبْقِك الله، ولا تقتلني يقتلك الله. فلما تحقَّقَ الحكيم — أيها العفريت — أن الملك قاتِلَه لا محالةَ، قال له: أيها الملك، إن كان ولا بد من قتلي فأمهلني حتى أنزل إلى داري فأخلِّص نفسي، وأوصي أهلي وجيراني أن يدفنوني، وأهِبُ كتبَ الطب، وعندي كتاب خاص الخاص أهبه لك هدية تدَّخره في خزانتك. فقال الملك للحكيم: وما هذا الكتاب؟ قال: فيه شيء لا يُحصَى، وأقل ما فيه من الأسرار أنك إذا قطعتَ رأسي وفتحته، وعددتَ ثلاث ورقات، ثم تقرأ ثلاث أسطر من الصحيفة التي على يسارك، فإن الرأس يكلِّمك ويجاوبك عن جميع ما سألتَه عنه. فتعجَّبَ الملك غايةَ العجب، واهتزَّ من الطرب، وقال له: أيها الحكيم، وهل إذا قطعتُ رأسك تكلَّمت؟ فقال: نعم أيها الملك، وهذا أمر عجيب. ثم إن الملك أرسله مع المحافظة عليه، فنزل الحكيم إلى داره، وقضى أشغاله في ذلك اليوم، وفي اليوم الثاني طلع الحكيم إلى الديوان، وطلعت الأمراء والوزراء والحُجَّاب والنوَّاب وأرباب الدولة جميعًا، وصار الديوان كزهر البستان، وإذا بالحكيم دخل الديوان، ووقف قدام الملك، ومعه كتاب عتيق، ومكحلة فيها ذرور، وجلس وقال: ائتوني بطبق. فأتوه بطبق، وكبَّ فيه الذرور وفرشه، وقال: أيها الملك، خذ هذا الكتاب، ولا تعمل به حتى تقطع رأسي، فإذا قطعته فاجعله في ذلك الطبق، وَأْمُر بكبسه على ذلك الذرور، فإذ فعلتَ ذلك فإن دمه ينقطع، ثم افتح الكتاب، ففتحه الملك، فوجده ملصوقًا، فحطَّ أصبعه في فمه وبلَّه بريقه، وفتح أول ورقة والثانية والثالثة، والورق ما ينفتح إلا بجهد، ففتح الملك ست ورقات ونظر فيها فلم يجد فيها كتابةً، فقال الملك: أيها الحكيم، ما فيه شيء مكتوب. فقال الحكيم: قلِّب زيادة على ذلك، فقَلَّبَ فيه زيادةً فلم يكن إلا قليل من الزمان حتى سرى فيه السم لوقته وساعته، فإن الكتاب كان مسمومًا، فعند ذلك تزحزح الملك وصاح، وقال: قد سرى فيَّ السم. فأنشد الحكيم رويان يقول:
فلما فرغ رويان الحكيم من كلامه، سقط الملك ميتًا من وقته. فاعلم أيها العفريت أن الملك يونان لو أبقى الحكيم رويان لأبقاه الله، ولكن أَبَى وطلب قتله فقتله الله، وأنت أيها العفريت لو أبقيتني لَأبقاك الله.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح، فقالت لها أختها دنيازاد: ما أحلى حديثك! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلةَ القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ وباتوا تلك الليلة في نعيم وسرور إلى الصباح، ثم طلع الملك إلى الديوان، ولما انفضَّ الديوان دخل قصره، واجتمع بأهله.